1- سورة " الانشقاق " وتسمى سورة " إذا السماء انشقت " من السور المكية ، وكان نزولها بعد سورة " الانفطار " ، وقبل سورة " الروم " وعدد آياتها خمس وعشرون آية في المصحف المكي والكوفي . وفي المصحف الشامي والبصري ثلاث وعشرون آية .
والسورة الكريمة ابتدأت بوصف أشراط الساعة . ثم فصلت الحديث عن أحوال السعداء والأشقياء يوم القيامة ، وخلال ذلك حرضت المؤمنين على أن يزدادوا من الإيمان والعمل الصالح ، وحذرت الكافرين من سوء عاقبة إصرارهم على كفرهم وفسوقهم .
قوله : { انشقت } من الانشقاق بمعنى الانفطار والتصدع ، بحيث تتغير هيئتها . ويختل نظامها . كما قال - تعالى - : { يَوْمَ تُبَدَّلُ الأرض غَيْرَ الأرض والسماوات وَبَرَزُواْ للَّهِ الواحد الْقَهَّارِ } وانشقاق السماء قد ورد فى آيات متعددة منها قوله - تعالى - : { وَيَوْمَ تَشَقَّقُ السمآء بالغمام } وقوله - سبحانه - : { فَإِذَا انشقت السمآء فَكَانَتْ وَرْدَةً كالدهان }
سورة الانشقاق مكية وآياتها خمس وعشرون
تبدأ السورة ببعض مشاهد الانقلاب الكونية التي عرضت بتوسع في سورة التكوير ، ثم في سورة الانفطار . ومن قبل في سورة النبأ . ولكنها هنا ذات طابع خاص . طابع الاستسلام لله . استسلام السماء واستسلام الأرض ، في طواعية وخشوع ويسر : ( إذا السماء انشقت ، وأذنت لربها وحقت . وإذا الأرض مدت ، وألقت ما فيها وتخلت ، وأذنت لربها وحقت ) . .
ذلك المطلع الخاشع الجليل تمهيد لخطاب " الإنسان " ، وإلقاء الخشوع في قلبه لربه . وتذكيره بأمره ؛ وبمصيره الذي هو صائر إليه عنده . حين ينطبع في حسه ظل الطاعة والخشوع والاستسلام الذي تلقيه في حسه السماء والأرض في المشهد الهائل الجليل : ( يا أيها الإنسان إنك كادح إلى ربك كدحا فملاقيه . فأما من أوتي كتابه بيمينه فسوف يحاسب حسابا يسيرا ، وينقلب إلى أهله مسرورا ، وأما من أوتي كتابه وراء ظهره فسوف يدعو ثبورا ، ويصلى سعيرا . إنه كان في أهله مسرورا . إنه ظن أن لن يحور . بلى إن ربه كان به بصيرا ) . .
والمقطع الثالث عرض لمشاهد كونية حاضرة ، مما يقع تحت حس " الإنسان " لها إيحاؤها ولها دلالتها على التدبير والتقدير ، مع التلويح بالقسم بها على أن الناس متقلبون في أحوال مقدرة مدبرة ، لا مفر لهم من ركوبها ومعاناتها : ( فلا أقسم بالشفق ، والليل وما وسق ، والقمر إذا اتسق ؛ لتركبن طبقا عن طبق ) . .
ثم يجيء المقطع الأخير في السورة تعجيبا من حال الناس الذين لا يؤمنون ؛ وهذه هي حقيقة أمرهم ، كما عرضت في المقطعين السابقين . وتلك هي نهايتهم ونهاية عالمهم كما جاء في مطلع السورة : ( فما لهم لا يؤمنون ? وإذا قرئ عليهم القرآن لا يسجدون ? ) . . ثم بيان لعلم الله بما يضمون عليه جوانحهم وتهديد لهم بمصيرهم المحتوم : ( بل الذين كفروا يكذبون . والله أعلم بما يوعون . فبشرهم بعذاب أليم . إلا الذين آمنوا وعملوا الصالحات . لهم أجر غير ممنون ) . .
إنها سورة هادئة الإيقاع ، جليلة الإيحاء ، يغلب عليها هذا الطابع حتى في مشاهد الانقلاب الكونية التي عرضتها سورة التكوير في جو عاصف . سورة فيها لهجة التبصير المشفق الرحيم ، خطوة خطوة . في راحة ويسر ، وفي إيحاء هادئ عميق . والخطاب فيها : ( يا أيها الإنسان )فيه تذكير واستجاشة للضمير .
وهي بترتيب مقاطعها على هذا النحو تطوف بالقلب البشري في مجالات كونية وإنسانية شتى ، متعاقبة تعاقبا مقصودا . . فمن مشهد الاستسلام الكوني . إلى لمسة لقلب " الإنسان " . إلى مشهد الحساب والجزاء . إلى مشهد الكون الحاضر وظواهره الموحية . إلى لمسة للقلب البشري أخرى . إلى التعجيب من حال الذين لا يؤمنون بعد ذلك كله . إلى التهديد بالعذاب الأليم واستثناء المؤمنين بأجر غير ممنون . .
كل هذه الجولات والمشاهد والإيحاءات واللمسات في سورة قصيرة لا تتجاوز عدة أسطر . . وهو ما لا يعهد إلا في هذا الكتاب العجيب ! فإن هذه الأغراض يتعذر الوفاء بها في الحيز الكبير ولا تؤدى بهذه القوة وبهذا التأثير . . ولكنه القرآن ميسر للذكر ؛ يخاطب القلوب مباشرة من منافذها القريبة . صبغة العليم الخبير !
( إذا السماء انشقت ، وأذنت لربها وحقت . وإذا الأرض مدت ، وألقت ما فيها وتخلت ، وأذنت لربها وحقت ) . .
قال مالك ، عن عبد الله بن يزيد ، عن أبي سلمة : أن أبا هريرة قرأ بهم : " إِذَا السَّمَاءُ انْشَقَّتْ " فسجد فيها ، فلما انصرف أخبرهم أن رسول الله صلى الله عليه وسلم سجد فيها . رواه مسلم والنسائي ، من طريق مالك ، به{[1]} .
وقال البخاري : حدثنا أبو النعمان ، حدثنا معتمر ، عن أبيه ، عن بكر ، عن أبي رافع قال : صليت مع أبي هُرَيرة العتمة فقرأ : " إِذَا السَّمَاءُ انْشَقَّتْ " فسجد ، فقلت له ، قال : سجدتُ خلف أبي القاسم صلى الله عليه وسلم فلا أزال أسجد بها حتى ألقاه{[2]} .
ورواه أيضا عن مسدد ، عن معتمر ، به . ثم رواه عن مسدد ، عن يزيد بن زُرَيع ، عن التيمي ، عن بكر ، عن أبي رافع ، فذكره{[3]} وأخرجه مسلم وأبو داود والنسائي من طرق ، عن سليمان بن طِرْخان التيمي ، به{[4]} وقد روى مسلم وأهل السنن من حديث سفيان بن عُيَينة - زاد النَّسائي : وسفيان الثوري - كلاهما عن أيوب بن موسى ، عن عطاء بن ميناء ، عن أبي هريرة قال : سجدنا مع رسول الله صلى الله عليه وسلم في " إِذَا السَّمَاءُ انْشَقَّتْ " و " اقْرَأْ بِاسْمِ رَبِّكَ الَّذِي خَلَقَ " {[5]} .
يقول تعالى : { إِذَا السَّمَاءُ انْشَقَّتْ } وذلك يوم القيامة ،
هذه أوصاف يوم القيامة ، و «انشقاق السماء » : هو تفطيرها لهول يوم القيامة ، كما قال : { وانشقت السماء فهي يومئذ واهية }{[11696]} [ الحاقة : 16 ] ، وقال الفراء والزجاج وغيره : هو تشققها بالغمام ، وقال قوم : تشققها تفتيحها أبواباً لنزول الملائكة وصعودهم في هول يوم القيامة ، وقرأ أبو عمرو : «انشقت » يقف على التاء كأنه يشمها شيئاً من الجر ، وكذلك في أخواتها ، قال أبو حاتم : سمعت إعراباً فصيحاً في بلاد قيس بكسر هذه التاءات ، وهي لغة
سميت في زمن الصحابة { سورة إذا السماء انشقت } . ففي الموطأ عن أبي سلمة أن أبا هريرة قرأ بهم إذا السماء انشقت فسجد فيها فلما انصرف أخبرهم أن رسول الله صلى الله عليه وسلم سجد فيها . فضمير { فيها } عائد إلى { إذا السماء انشقت } بتأويل السورة ، وبذلك عنونها البخاري والترمذي وكذلك سماها في الإتقان .
سماها المفسرون وكتاب المصاحف { سورة الانشقاق } باعتبار المعنى كما سميت السورة السابقة { سورة التطفيف } و { سورة انشقت } اختصارا .
وذكرها الجعبري في نظمه في تعداد المكي والمدني بلفظ { كدح } فيحتمل أنه عنى أنه اسم للسورة ولم أقف على ذلك لغيره .
ولم يذكرها في الإتقان مع السور ذوات الأكثر من اسم .
وقد عدت الثالثة والثمانين في تعداد نزول السور نزلت بعد سورة الانفطار وقبل سورة الروم .
وعد آيها خمسا وعشرين أهل العدد بالمدينة ومكة والكوفة وعدها أهل البصرة والشام ثلاثا وعشرين .
ابتدئت بوصف أشراط الساعة وحلول يوم البعث واختلاف أحوال الخلق يومئذ بين أهل نعيم وأهل شقاء .
قدم الظرف { إذا السماء انشقت } على عامله وهو { كادح } للتهويل والتشويق إلى الخبر وأول الكلام في الاعتبار : يا أيها الإِنسان إنك كادح إذا السماء انشقت الخ .
ولكن لما تعلق { إذا } بجزء من جملة { إنك كادح } وكانت { إذا } ظرفاً متضمناً معنى الشرط صار : يا أيها الإنسان إنك كادح جواباً لشرط { إذا } ولذلك يقولون { إذا } ظرف خافض لشرطه منصوب بجوابه ، أي خافض لجملة شرطه بإضافته إليها منصوباً بجوابه لتعلقه به فكلاهما عامل ومعمول باختلاف الاعتبار .
و { إذا } ظرف للزمان المستقبل ، والفعل الذي في الجملة المضافة إليه { إذا } مؤول بالمستقبل وصيغ بالمضيّ للتنبيه على تحقق وقوعه لأن أصل { إذا } القطع بوقوع الشرط .
وانشقت مطاوع شَقَّها ، أي حين يشقُّ السماءَ شَاق فتنشق ، أي يريد الله شقها فانشقت كما دل عليه قوله بعده : { وأذنت لربها } .
والانشقاق هذا هو الانفطار الذي تقدم في قوله : { إذا السماء انفطرت } [ الانفطار : 1 ] وهو انشقاق يلوح للناس في جوّ السماء من جرَّاء اختلال تركيب الكرة الهوائية أو من ظهور أجرام كوكبية تخرج عن دوائرها المعتادة في الجو الأعلى فتنشق القبة الهوائية فهو انشقاق يقع عند اختلال نظام هذا العالم .
وقدّم المسند إليه على المسند الفعلي في قوله : { إذا السماء انشقت } دون أن يقال : إذا انشقت السماء لإفادة تقوّي الحكم وهو التعليق الشرطي ، أي إن هذا الشرط محقق الوقوع ، زيادة على ما يقتضيه { إذا } في الشرطية من قصد الجزم بحصول الشرط بخلاف ( إنْ ) .