اللباب في علوم الكتاب لابن عادل - ابن عادل  
{إِذَا ٱلسَّمَآءُ ٱنشَقَّتۡ} (1)

مقدمة السورة:

مكية ، وهي ثلاث وعشرون آية ، ومائة وسبع كلمات ، وأربعمائة وثلاثون حرفا .

قوله تعالى : { إِذَا السمآء انشقت } كقوله تعالى : { إِذَا الشمس كُوِّرَتْ } [ التكوير : 1 ] في إضمار الفعل وعدمه ، وفي «إذا » هذه احتمالات :

أحدها : أن تكون شرطية .

والثاني : أن تكون غير شرطية .

فعلى الأول في جوابها خمسة أوجه :

أحدها : أنها { أَذِنَتْ } [ الانشقاق : 2 ، 5 ] والواو مزيدة .

قال ابن الأنباري : وهذا غلط ؛ لأن العرب لا تقتحم الواو إلا مع «حتى إذا » كقوله تعالى : { حتى إِذَا جَآءُوهَا وَفُتِحَتْ أَبْوَابُهَا } [ الزمر : 73 ] ، أو مع «لمَّا » كقوله تعالى : { فَلَمَّا أَسْلَمَا وَتَلَّهُ لِلْجَبِينِ وَنَادَيْنَاهُ } [ الصافات : 103 ، 104 ] ، أي : ناديناه ، والواو لا تقحم مع غير هذين .

الثاني : أنه «فمُلاقيهِ » أي فأنت ملاقيه وإليه ذهب الأخفش .

والثالث : أنّه «يا أيُّها الإنسانُ » أيضاً ، ولكن على إضمار القول : أي : يقال : «يا أيُّهَا الإنسَانُ » .

والخامس : أنَّه مقدَّرٌ ، تقديره : بعثتم .

وقيل : تقديره : لاقى كل إنسان كدحه وهو قوله : «فمُلاقِيهِ » ويكون قوله : «يا أيُّهَا الإنسَانُ » معترض ، كقولك : إذا كان كذا وكذا - يا أيها الإنسان - ترى عند ذلك ما عملت من خير أو شر .

ونقل القرطبي{[59641]} عن المبردِ ، إنَّه قال : فيه تقديمٌ وتأخير ، أي : يا أيُّها الإنسان إنَّك كادح إلى ربك كدحاً فملاقيه إذا السماء انشقت .

وقيل : هو ما صرَّح به في سورتي «التَّكوير » و«الانفطار » ، وهو قوله تعالى : { عَلِمَتْ نَفْسٌ } [ الانفطار : 5 ] ، قاله الزمخشري{[59642]} ، وهو حسنٌ .

ونقل ابن الخطيب{[59643]} عن الكسائيِّ ، أنه قال : إنَّ الجواب هو قوله : { فَأَمَّا مَنْ أُوتِيَ كِتَابَهُ } [ الانشقاق : 7 ] ، واعترض في الكلام على قوله : { يا أيها الإنسان إِنَّكَ كَادِحٌ إلى رَبِّكَ كَدْحاً } [ الانشقاق : 6 ] .

والمعنى : إذا انشقت السماء وكان كذا وكذا فمن أوتي كتابه بيمنه ، فهو كذا ومن أوتي كتابه وراء ظهره ، فهو كذا ، ونظيره قوله تعالى : { فَإِمَّا يَأْتِيَنَّكُم مِّنِّي هُدًى فَمَن تَبِعَ هُدَايَ فَلاَ خَوْفٌ } [ البقرة : 38 ] .

قال النحاسُ : وهذا أصحُّ ما قيل فيه وأحسنه .

وعلى الاحتمال الثاني : فيه وجهان :

أحدهما : أنَّها منصوبة مفعولاً بها بإضمار «واذْكُرْ » .

والثاني : أنها مبتدأ ، وخبرها «إذَا » الثانية ، و«الواو » مزيدة ، تقديره : وقت انشقاق السماء وقت مدّ الأرض ، أي : يقع الأمران في وقت . قاله الأخفش أيضاً .

والعامل فيها إذا كانت ظرفاً - عند الجمهور - جوابها ، إمَّا الملفوظ به ، وإمَّا المقدَّر .

وقال مكيٌّ : وقيل : العامل «انشقت » .

وقال ابن عطية{[59644]} : قال بعض النحاة : العامل «انشقت » وأبي ذلك كثير من أئمتهم ؛ لأن «إذا » مضافة إلى «انشقت » ، ومن يجيز ذلك تضعف عنده الإضافة ، ويقوى معنى الجزاء .

وقرأ العامة : «انشقتْ » بتاء التأنيث ساكنة ، وكذلك ما بعده .

وقرأ أبو عمرو في رواية{[59645]} عبيد بن عقيل : بإشمام الكسر في الوقف خاصة ، وفي الوصل خاصة بالسكون المحض .

قال أبو الفضلِ : وهذا من التغييرات التي تلحق الروي في القوافي ، وفي هذا الإشمام بيان أن هذه «التاء » من علامة تأنيث الفعل للإناث ، وليست مما ينقلب في الأسماء ، فصار ذلك فارقاً بين الاسم والفعل ، فيمن وقف على باقي الأسماء بالتاء ، وذلك لغة طيّئ ، وقد حمل في المصاحف بعض التاءات على ذلك .

وقال ابن عطية{[59646]} : قال بعض النحاة : وقرأ أبو عمرو «انشقت » يقف على القاف ، كأنه يشمها شيئاً من الجر ، وكذلك في أخواتها .

قال أبو حاتم : سمعت أعرابياً فصيحاً في بلاد قيس يكسر هذه التاءات .

وقال ابن خالويه{[59647]} : «انشقَّت » - بكسر التاء - عبيد عن أبي عمرو .

قال شهاب الدين{[59648]} : كأنه يريد إشمام الكسر ، وأنَّه في الوقف دون الوصل ؛ لأنه مطلق ، وغيره مقيد ، والمقيد يقضي على المطلق .

وقال أبو حيَّان{[59649]} : وذلك أن الفواصل تَجْرِي مَجْرَى القوافي ، فكما أن هذه التاء تكسر في القوافي تكسر في الفواصل ؛ ومثال كسرها في القوافي ؛ قول كثير عزّة : [ الطويل ]

5133- ومَا أنَا بالدَّاعِي لعَزَّةَ بالرَّدَى *** وَلا شَامتٍ إنْ نَعْلُ عَزَّةَ زَلَّتِ{[59650]}

وكذلك في باقي القصيدة ؛ وإجراء الفواصل في الوقف مَجْرَى القوافي مهيع معروف كقوله تعالى : { الظنونا } والرسولا ، في سورة «الأحزاب » [ 10 و66 ] ، وحمل الوصل على حالة الوقف موجود في الفواصل أيضاً .

فصل في المراد بانشقاق السماء

انشقاق السماء من علامات القيامة ، وقد تقدَّم شرحه .

وعن علي - رضي الله عنه - أنَّها تنشق من المجرَّة ، وقال : المجرَّة : باب السماء{[59651]} .


[59641]:ينظر: الجامع لأحكام القرآن 1/178.
[59642]:ينظر: الكشاف 4/725.
[59643]:ينظر: الفخر الرازي 341/95.
[59644]:ينظر: المحرر الوجيز 5/457.
[59645]:ينظر: إعراب القراءات 2/454، والمحرر الوجيز 5/456، والبحر المحيط 8/437، والدر المصون 6/497.
[59646]:ينظر: المحرر الوجيز 5/456.
[59647]:إعراب القراءات السبع 2/454.
[59648]:ينظر: الدرالمصون 6/497.
[59649]:ينظر: البحر المحيط 8/437.
[59650]:ينظر ديوان كثير عزة (41)، والبحر المحيط 8/438، والدر المصون 6/497.
[59651]:ذكره السيوطي في "الدر المنثور" (6/547) وعزاه إلى ابن أبي حاتم عن علي.