الدر المصون في علم الكتاب المكنون للسمين الحلبي - السمين الحلبي  
{إِذَا ٱلسَّمَآءُ ٱنشَقَّتۡ} (1)

قوله : { إِذَا السَّمَآءُ } : كقولِه : { إِذَا الشَّمْسُ كُوِّرَتْ } [ التكوير : 1 ] في إضمارِ الفعلِ وعَدَمِه . وفي " إذا " هذه احتمالان ، أحدهما : أَنْ تكونَ شرطيةً . والثاني : أَنْ تكونَ غير شرطيةٍ . فعلى الأول في جوابها خمسةُ أوجهٍ ، أحدُها : أنه " أَذِنَتْ " ، والواوُ مزيدةٌ . الثاني : أنه " فَمُلاقِيه " ، أي : فأنت مُلاقِيْه . وإليه ذهب الأخفش . الثالث : أنَّه { يأَيُّهَا الإِنسَانُ } على حَذْفِ الفاء . الرابع : أنه { يأَيُّهَا الإِنسَانُ } أيضاً ، ولكن على إضمارِ القولِ ، أي : يقال : يا أيها الإِنسانُ . الخامس : أنه مقدرٌ تقديرُه : بُعِثْتُمِ . وقيل : تقديرُه : لاقى كلُّ إنسانٍ كَدْحَه . وقيل : هو ما صَرَّح به في سورتَيْ التكوير والانفطار ، وهو قولُه : { عَلِمَتْ نَفْسٌ } [ التكوير : 14 ] ، [ الانفطار : 5 ] قاله الزمخشري ، وهو حسنٌ .

وعلى الاحتمال الثاني فيها وجهان ، أحدُهما : أنها منصوبةٌ مفعولاً بها ، بإضمار اذكرْ . والثاني : أنها مبتدأٌ ، وخبرُها " إذا " الثانية ، والواوُ مزيدةٌ ، تقديرُه : وقتُ انشقاقِ السماءِ وقتُ مَدِّ الأرض ، أي : يقع الأمران في وقتٍ واحد ، قاله الأخفشُ أيضاً . والعاملُ فيها إذا كانت ظرفاً عند الجمهور جوابُها : إمَّا الملفوظُ به ، وإمَّا المقدَّرُ . وقال مكي : " وقيل : العاملُ " انْشَقَّتْ " . وقال ابن عطية : " قال بعضُ النحاة : العامل " انْشَقَّتْ " ، وأبى ذلك كثيرٌ من أئمتهم ؛ لأنَّ " إذا " مضافةٌ إلى " انشَقَّتْ " ، ومَنْ يُجِزْ ذلك تَضْعُفْ عنده الإِضافةُ ويَقْوى معنى الجزاء .

وقرأ العامَّةُ " انشَقَّتْ " بتاءِ التأنيث ساكنةً ، وكذلك ما بعده . وقرأ أبو عمرو في روايةِ عُبَيْد بن عقيل بإشمام الكسر في الوقف خاصة ، وفي الوصل بالسكونِ المَحْض . قال أبو الفضل : " وهذا من التغييرات التي تلحق الرويَّ في القوافي . وفي هذا الإِشمام بيانُ أنَّ هذه التاءَ من علامةِ تأنيثِ الفعل للإِناث ، وليسَتْ مِمَّا على ما في الأسماءِ ، فصار ذلك فارقاً بين الاسمِ والفعل فيمَنْ وقَفَ على ما في الأسماء بالتاءِ ، وذلك لغة طيِّىء ، وقد حُمِل في المصاحف بعضُ التاءات على ذلك " .

وقال ابن عطية : " وقرأ أبو عمرو " انشَقَّتْ " يقف على التاء كأنه يُشِمُّها شيئاً من الجرِّ ، وكذلك في أخواتها . قال أبو حاتم : " سمعتُ أعرابياً فصيحاً في بلادِ قيسٍ يكسِرُ هذه التاءات " . وقال ابن خالَويه : " انشَقَّت " بكسر التاء عُبَيْد عن أبي عمرو . قلت : كأنه يريدُ إشمامَ الكسرِ ، وأنه في الوقفِ دونَ الوصل لأنه مُطْلَقٌ ، وغيرُه مقيَّدٌ ، والمقيَّدُ يَقْضي على المطلق . وقال الشيخ : " وذلك أنَّ الفواصلَ تجري مَجْرى القوافي ، فكما أن هذه التاءَ تُكسر في القوافي تُكْسَرُ في الفواصل . ومثالُ كسرِها في القوافي قولُ كثيِّر عَزَّةَ :

وما أنا بالدَّاعي لِعَزَّةَ بالرَّدى *** ولا شامِتٍ إنْ نَعْلُ عَزَّةَ زلَّتِ

وكذلك باقي القصيدة ، / وإجراءُ الفواصلِ في الوقف مُجْرى القوافي مَهْيَعٌ معروفٌ ، كقولِه تعالى : { الظُّنُونَاْ }

[ الآية : 10 ] { الرَّسُولاَ } [ الآية : 66 ] في الأحزاب ، وحَمْلُ الوصلِ على الوقفِ موجودٌ أيضاً .