ثم يمضى السياق القرآنى مع المكذبين المتعجلين للعذاب ، فيسوق لهم صورة لعلم الله الشامل الذى لا يند عنه شىء { وَعِندَهُ مَفَاتِحُ الغيب لاَ يَعْلَمُهَآ إِلاَّ هُوَ } .
قال القرطبى : { مَفَاتِحُ } جمع مفتح ، ويقال مفتاح ويجمع مفاتيح ، وهى قراءة ابن السميقع ، والمفتح عبارة عن كل ما يخل غلقاً محسوساً كان كالقفل على البيت ، أو معقولا كالنظر ، وروى ابن ماجه فى سننه وأبى حاتم البستى فى صحيحه عن أنس بن مالك قال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم :
" إن من الناس مفاتيح للخير مغاليق للشر ، وإن من الناس مفاتيح للشر مغاليق للخير فطوبى لمن جعل الله مفاتيح الخير على يديه ، وويل لمن جعل الله مفاتيح الشر على يديه " ، وهو فى الآية استعارة عن التوصل إلى الغيوب كما يتوصل فى الشاهد بالمفتح إلى الغيب عن الإنسان . ولذلك قال بعضهم هو مأخوذ من قول الناس افتح على كذا ، أى : أعطنى أو علمنى ما أتوصل إليه به فالله - تعالى - عنده علم الغيب ، وبيده الطرق الموصلة إليه لا يملكها إلا هو ، فمن شاء إطلاعه عليها أطلعه ، ومن شاء حجبه عنها حجبه .
والغيب : ما غاب عن علم الناس بحيث لا سبيل لهم إلى معرفته ، وهو يشمل الأعيان المغيبة كالملائكة والجن ، ويشمل الأعراض الخفية ومواقيت الأشياء وغير ذلك . وقدم الظرف لإفادة الاختصاص ، أى : عنده لا عند غيره مفاتيح الغيب ، وجملة " لا يعلمها إلا هو " فى موضع الحال من مفاتح ، وهى مؤكدة لمضمون ما قبلها .
ومعنى { لاَ يَعْلَمُهَآ إِلاَّ هُوَ } أى : لا يعلم الغيوب علماً تاماً مستقلا إلا هو - سبحانه - فأما ما أطلع عليه بعض أصفيائه من الغيوب فهو إخبار منه لهم ، فكان فى الأصل راجعاً إلى علمه هو . قال - تعالى - { عَالِمُ الغيب فَلاَ يُظْهِرُ على غَيْبِهِ أَحَداً إِلاَّ مَنِ ارتضى مِن رَّسُولٍ } ثم بين - سبحانه - أن علمه ليس مقصوراً على المغيبات ، وإنما هو يشملها كما يشمل المشاهدات فقال : { وَيَعْلَمُ مَا فِي البر والبحر } .
قال الراغب : أصل البحر كل مكان واسع جامع للماء الكثير ، وقيل إن أصله الماء الملح دون العذب وأطلق على النهر بالتوسع أو التغليب ، والبر ما يقابله من الأرض وهو ما يسمى باليابسة .
وهذه الجملة معطوفة على جملة ، وعنده مفتاح الغيب ، لغفادة تعميم علمه - سبحانه - بالأشياء الظاهرة المتفاوتة فى الظهور بعد إفادة علمه بما لا يظهر الناس .
وقدم ذكر البر على البحر على طريقة الترقى من الأقل إلى الأعظم ، لأن قسم البحر من الأرض أكبر من قسم البر ، وخفاياه أكثر وأعظم ، وخصهما بالذكر لأنهما أعظم المخلوقات المجاورة للبشر .
ثم صرح - سبحانه - بشمول علمه لكل كلى وجزئى ، ولكل صغير وكبير ، ولكل دقيق وجليل ، فقال - تعالى - { وَمَا تَسْقُطُ مِن وَرَقَةٍ إِلاَّ يَعْلَمُهَا وَلاَ حَبَّةٍ فِي ظُلُمَاتِ الأرض وَلاَ رَطْبٍ وَلاَ يَابِسٍ إِلاَّ فِي كِتَابٍ مُّبِينٍ } .
أى : وما تسقط ورقة ما من شجرة من الأشجار ولا حبة فى باطن الأرض وأجوافها ، ولا رطب ولا يابس من الثمار أو غيرها إلا ويعلمه الله علما تاما شاملا ، لأن كل ذلك مكتوب ومحفوظ فى العلم الإلهى الثابت .
وجملة { وَمَا تَسْقُطُ مِن وَرَقَةٍ إِلاَّ يَعْلَمُهَا } معطوفة على جملة ، ويعلم ما فى البر والبحر ، لقصد زيادة التعميم فى الجزئيات الدقيقة .
والمراد بظلمات الأرض بطونها ، وكنَّى بالظلمة عن البطن لأنه لا يدرك ما فيه كما لا يدرك ما فى الظلمة .
وقوله { إِلاَّ فِي كِتَابٍ مُّبِينٍ } تأكيد لقوله " لا يعلمها " لأن المراد بالكتاب المبين علم الله - تعالى - الذى وسع كل شىء ، أو اللوح المحفوظ الذى هو محل معلوماته - عز وجل - .
قال الإمام الرازى : قال الزجاج : يجوز أن الله - تعالى - : أثبت كيفية المعلومات فى كتاب من قبل أن يخلق الخلق كما قال - تعالى - : { مَآ أَصَابَ مِن مُّصِيبَةٍ فِي الأرض وَلاَ في أَنفُسِكُمْ إِلاَّ فِي كِتَابٍ مِّن قَبْلِ أَن نَّبْرَأَهَآ } ثم قال الإمام الرازى : وفائدة هذا الكتاب أمور :
أحدها : أنه - تعالى - : إنما كتب هذه الأحوال فى اللوح المحفوظ لتقف الملائكة على نفاذ علمه فى المعلومات ، وأنه لا يغيب عنه مما فى السموات والأرض شىء ، فيكون ذلك عبرة تامة كاملة للملائكة باللوح المحفوظ لأنهم يقابلون به ما يحدث فى صحيفة هذا العالم فيجدونه موافقاً له .
وثانيها : أنه يجوز أن يقال : أنه - تعالى - : ذكر ما ذكر من الورقة والحبة تنبيها للمكلفين على أمر الحساب ، وإعلاما بأنه لا يفوته من كل ما يصنعون فى الدنيا شىء ، لأنه إذا كان لا يهمل الأحوال التى ليس فيها ثواب ولا عقاب ولا تكليف فبأن لا يهمل الأحوال المشتملة على الثواب والعقاب أولى .
وثالثها : أنه - تعالى - : علم أحوال جميع الموجودات ، فيمتنع تغييرها عن مقتضى ذلك العلم وإلا لزم الجهل ، فإذا كتب أحوال جميع الموجودات فى ذلك الكتاب على التفصيل التام امتنع - أيضاً - تغييرها ، وإلا لزم الكذب ، فتصير كتابة جملة الأحوال فى ذلك الكتاب موجبا تاما ، وسببا كاملا فى أنه يمتنع تقدم ما تأخر وتأخر ما تقدم كما قال صلى الله عليه وسلم " جف القلم بما هو كائن إلى يوم القيامة " .
ويؤخذ من هذه الآية الكريمة أمور من أهمها :
أن علم الله - تعالى - : محيط بالكليات والجزئيات ، وبكل شىء فى هذا الكون ، وبذلك يتبين بطلان رأى بعض الفلاسفة الذين قالوا بأن الله يعلم الكليات ولا يعلم الجزئيات .
أن علم الغيب مرده إلى الله وحده ، قال الحاكم : دل قوله تعالى { وَعِندَهُ مَفَاتِحُ الغيب لاَ يَعْلَمُهَآ إِلاَّ هُوَ } على بطلان قول الإمامية : إن الإمام يعلم شيئاً من الغيب " .
وقال القاسمى : قال صاحب " فتح البيان " : فى هذه الآية الشريفة ما يدفع أباطيل الكهان والمنجمين وغيرهم من مدعى الكشف والإلهام ما ليس من شأنهم ولا يدخل تحت قدرتهم ولا يحيط به علمهم .
ولقد ابتلى الإسلام وأهله بقوم سوء من هذه الأجناس الضالة والأنواع المخذولة ، ولم يربحوا من أكاذيبهم وأباطيلهم سوى خطة السوء المذكورة فى قول الصادق المصدوق صلى الله عليه وسلم " من أتى كاهنا أو منجما فقد كفر بما أنزل على محمد " قال ابن مسعود " أوتى نبيكم كل شىء إلا مفاتيح الغيب " .
وروى البخارى بسنده عن ابن عمر أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال : " مفاتيح الغيب خمس لا يعملها إلا الله . لا يعلم أحد ما يكون فى غد إلا الله ، ولا يعلم أحد ما يكون فى الأرحام إلا الله . ولا تعمل نفس ماذا تكسب غداً ، ولا تدرى نفس بأى أرض تموت ، ولا يدرى أحد متى يجىء المطر " .
وقال القرطبى : قال علماؤنا : أضاف - سبحانه علم الغيب إلى نفسه فى غير ما آية من كتابه إلا من اصطفى من عباده ، فمن قال : إنه ينزل الغيث غدا وجزم فهو كافر ، وكذلك من قال : إنه يعلم ما فى الرحم فهو كافر . وفى صحيح مسلم عن عائشة قالت : من زعم أن رسول الله صلى الله عليه وسلم يخبر بما يكون فى غد فقد أعظم على الله الفرية ؛ والله تعالى يقول : { قُل لاَّ يَعْلَمُ مَن فِي السماوات والأرض الغيب إِلاَّ الله } ثم قال : وقد انقلبت الأحوال فى هذه الأزمان بإتيان المنجمين والكهان لا سيما بالديار المصرية فقد شاع فى رؤسائهم وأتباعهم وأمرائهم اتخاذ المنجمين ، بل ولقد انخدع كثير من المنتسبين للفقر والدين فلجأوا إلى هؤلاء الكهنة والعرافين فبهرجوا عليهم بالمحال ، واستخرجوا منهم الأموال ، فحصلوا من أقوالهم على السراب والآل ، ومن أديانهم على الفساد والضلال ، وكل ذلك من الكبائر لحديث النبى صلى الله عليه وسلم " من أتى عرافا فسأله عن شىء لم تقبل له صلاة أربعين يوما " والعراف هو الحازر والمنجم الذى يدعى علم الغيب .
وبمناسبة علم الله - سبحانه - بالظالمين ؛ واستطرادا في بيان حقيقة الألوهية ؛ يجلي هذه الحقيقة في مجال ضخم عميق من مجالاتها الفريدة . . مجال الغيب المكنون ، وعلم الله المحيط بهذا الغيب إحاطته بكل شيء ، ويرسم صورة فريدة لهذا العلم ؛ ويرسل سهاما بعيدة المدى تشير إلى آماده وآفاقه من بعيد : ( وعنده مفاتح الغيب لا يعلمها إلا هو ، ويعلم ما في البر والبحر ، وما تسقط من ورقة إلا يعلمها ، ولا حبة في ظلمات الأرض ، ولا رطب ولا يابس ، إلا في كتاب مبين ) . .
إنها صورة لعلم الله الشامل المحيط ؛ الذي لا يند عنه شيء في الزمان ولا في المكان ، في الأرض ولا في السماء ، في البر ولا في البحر ، في جوف الأرض ولا في طباق الجو ، من حي وميت ويابس ورطب . . .
ولكن أين هذا الذي نقوله نحن - بأسلوبنا البشري المعهود - من ذلك النسق القرآني العجيب ؟ وأين هذا التعبير الإحصائي المجرد ، من ذلك التصوير العميق الموحي ؟
إن الخيال البشري لينطلق وراء النص القصير يرتاد آفاق المعلوم والمجهول ، وعالم الغيب وعالم الشهود ، وهو يتبع ظلال علم الله في أرجاء الكون الفسيح ، ووراء حدود هذا الكون المشهود . . وإن الوجدان ليرتعش وهو يستقبل الصور والمشاهد من كل فج وواد . وهو يرتاد - أو يحاول أن يرتاد - أستار الغيوب المختومة في الماضي والحاضر والمستقبل ؛ البعيدة الآماد والآفاق والأغوار . . مفاتحها كلها عند الله ؛ لا يعلمها إلا هو . . ويجول في مجاهل البر وفي غيابات البحر ، المكشوفة كلها لعلم الله . ويتبع الأوراق الساقطة من أشجار الأرض ، لا يحصيها عد ، وعين الله على كل ورقة تسقط ، هنا وهنا وهناك . ويلحظ كل حبة مخبوءة في ظلمات الأرض لا تغيب عن عين الله . ويرقب كل رطب وكل يابس في هذا الكون العريض ، لا يند منه شيء عن علم الله المحيط . .
إنها جولة تدير الرؤوس ، وتذهل العقول . جولة في آماد من الزمان ، وآفاق من المكان ، وأغوار من المنظور والمحجوب ، والمعلوم والمجهول . . جولة بعيدة موغلة مترامية الأطراف ، يعيا بتصور آمادها الخيال . . وهي ترسم هكذا دقيقة كاملة شاملة في بضع كلمات . .
وننظر إلى هذه الآية القصيرة من أي جانب فنرى هذا الإعجاز ، الناطق بمصدر هذا القرآن .
ننظر إليها من ناحية موضوعها ، فنجزم للوهلة الأولى بأن هذا كلام لا يقوله بشر ؛ فليس عليه طابع البشر . . إن الفكر البشري - حين يتحدث عن مثل هذا الموضوع : موضوع شمول العلم وإحاطته - لا يرتاد هذه الآفاق . . إن مطارح الفكر البشري وانطلاقاته في هذا المجال لها طابع آخر ولها حدود . إنه ينتزع تصوراته التي يعبر عنها من اهتماماته . . فما اهتمام الفكر البشري بتقصي وإحصاء الورق الساقط من الشجر ، في كل أنحاء الأرض ؟ إن المسألة لا تخطر على بال الفكر البشري ابتداء . لا يخطر على باله أن يتتبع ويحصي ذلك الورق الساقط في أنحاء الأرض . ومن ثم لا يخطر له أن يتجه هذا الاتجاه ولا أن يعبر هذا التعبير عن العلم الشامل ! إنما الورق الساقط شأن يحصيه الخالق ؛ ويعبر عنه الخالق !
وما اهتمام الفكر البشري بكل حبة مخبوءة في ظلمات الأرض ؟ إن أقصى ما يحفل به بنو البشر هو الحب الذي يخبأونه هم في جوف الأرض ويرتقبون إنباته . . فأما تتبع كل حبة مخبوءة في ظلمات الأرض ؛ فمما لا يخطر للبشر على بال أن يهتموا به ، ولا أن يلحظوا وجوده ، ولا أن يعبروا به عن العلم الشامل ! إنما الحب المخبوء في ظلمات الأرض شان يحصيه الخالق ، ويعبر عنه الخالق !
وما اهتمام الفكر البشري بهذا الإطلاق : ( ولا رطب ولا يابس ) . . إن أقصى ما يتجه إليه تفكير البشر هو الانتفاع بالرطب واليابس مما بين أيديهم . . فأما التحدث عنه كدليل للعلم الشامل . فهذا ليس من المعهود في اتجاه البشر وتعبيراتهم كذلك ! إنما كل رطب وكل يابس شأن يحصيه الخالق ، ويعبر عنه الخالق !
ولا يفكر البشر أن تكون كل ورقة ساقطة ، وكل حبة مخبوءة ، وكل رطب وكل يابس في كتاب مبين . وفي سجل محفوظ . . فما شأنهم بهذا ، وما فائدته لهم ؟ وما احتفالهم بتسجيله ؟ إنما الذي يحصيه ويسجله هو صاحب الملك ، الذي لا يند عنه شيء في ملكه . . الصغير كالكبير ؛ والحقير كالجليل ؛ والمخبوء كالظاهر ؛ والمجهول كالمعلوم ؛ والبعيد كالقريب . .
إن هذا المشهد الشامل الواسع العميق الرائع . . مشهد الورق الساقط من شجر الأرض جميعا ، والحب المخبوءفي أطواء الأرض جميعا ، والرطب واليابس في أرجاء الأرض جميعا . . إن هذا المشهد كما أنه لا يتجه إليه الفكر البشري والاهتمام البشري ؛ وكذلك لا تلحظه العين البشرية ؛ ولا تلم به النظرة البشرية . . إنه المشهد الذي يتكشف هكذا بجملته لعلم الله وحده ؛ المشرف على كل شيء ، المحيط بكل شيء . . الحافظ لكل شيء ، الذي تتعلق مشيئته وقدره بكل شيء . . الصغير كالكبير ، والحقير كالجليل ، والمخبوء كالظاهر ، والمجهول كالمعلوم ، والبعيد كالقريب . .
والذين يزاولون الشعور ويزاولون التعبير من بني البشر يدركون جيدا حدود التصور البشري ، وحدود التعبير البشري أيضا . ويعلمون - من تجربتهم البشرية - أن مثل هذا المشهد ، لا يخطر على القلب البشري ؛ كما أن مثل هذا التعبير لا يتأتى له أيضا . . والذين يمارون في هذا عليهم أن يراجعوا قول البشر كله ، ليروا إن كانوا قد اتجهوا مثل هذا الاتجاه أصلا !
وهذه الآية وأمثالها في القرآن الكريم تكفي وحدها لمعرفة مصدر هذا الكتاب الكريم . .
كذلك ننظر إليها من ناحية الإبداع الفني في التعبير ذاته ، فنرى آفاقا من الجمال والتناسق لا تعرفها أعمال البشر ، على هذا المستوى السامق :
( وعنده مفاتح الغيب لا يعلمها إلا هو ) . . آماد وآفاق وأغوار في " المجهول " المطلق . في الزمان والمكان ، وفي الماضي والحاضر والمستقبل ، وفي أحداث الحياة وتصورات الوجدان . .
( ويعلم ما في البر والبحر ) . . آماد وآفاق وآغوار في " المنظور " ، على استواء وسعة وشمول . . تناسب في عالم الشهود المشهود تلك الآماد والآفاق والأغوار في عالم الغيب المحجوب .
( وما تسقط من ورقة إلا يعلمها ) . . حركة الموت والفناء ؛ وحركة السقوط والانحدار ، من علو إلى سفل ، ومن حياة إلى اندثار .
( ولا حبة في ظلمات الأرض ) . . حركة البزوغ والنماء ، المنبثقة من الغور إلى السطح ، ومن كمون وسكون إلى اندفاع وانطلاق .
( ولا رطب ولا يابس إلا في كتاب مبين ) . . التعميم الشامل ، الذي يشمل الحياة والموت ، والأزدهار والذبول ؛ في كل حي على الإطلاق . .
فمن ذا الذي يبدع ذلك الاتجاه والانطلاق ؟ ومن ذا الذي يبدع هذا التناسق والجمال ؟ . . من ذا الذي يبدع هذا كله وذلك كله ، في مثل هذا النص القصير . . من ؟ إلا الله !
( وعنده مفاتح الغيب لا يعلمها إلا هو ) . .
نقف لنقول كلمة عن ( الغيب ) و( مفاتحه ) واختصاص الله - سبحانه - " بالعلم " بها . . ذلك أن حقيقة الغيب من " مقومات التصور الإسلامي " الأساسية ؛ لأنها من مقومات العقيدة الإسلامية الأساسية ؛ ومن قواعد " الإيمان " الرئيسية . . وذلك أن كلمات( الغيب )و " الغيبية " تلاك في هذه الأيام كثيرا - بعد ظهور المذهب المادي - وتوضع في مقابل " العلم " و " العلمية " . . والقرآن الكريم يقرر أن هناك " غيبا لا يعلم مفاتحه " إلا الله . ويقرر أن ما أوتيه الإنسان من العلم قليل . . وهذا القليل إنما آتاه الله له بقدر ما يعلم هو - سبحانه -من طاقته ومن حاجته . وأن الناس لا يعلمون - فيما وراء العلم الذي أعطاهم الله إياه - إلا ظنا ، وأن الظن لا يغني من الحق شيئا . . كما يقرر - سبحانه - أن الله قد خلق هذا الكون ، وجعل له سننا لا تتبدل ؛ وأنه علم الإنسان أن يبحث عن هذه السنن ويدرك بعضها ؛ ويتعامل معها - في حدود طاقته وحاجته - وأنه سيكشف له من هذه السنن في الأنفس والآفاق ما يزيده يقينا وتأكدا أن الذي جاءه من عند ربه هو الحق . . دون أن يخل هذا الكشف عن سنن الله التي لا تبديل لها ، بحقيقة " الغيب " المجهول للإنسان ، والذي سيظل كذلك مجهولا ، ولا بحقيقة طلاقة مشيئة الله وحدوث كل شيء بقدر غيبي خاص من الله ، ينشى ء هذا الحدث ويبرزه للوجود . . في تناسق تام في العقيدة الإسلامية ، وفي تصور المسلم الناشى ء من حقائق العقيدة . .
فهذه الحقائق بجملتها - على هذا النحو المتعدد الجوانب المتناسق المتكامل - تحتاج منا هنا - في الظلال - إلى كلمة نحاول بقدر الإمكان أن تكون مجملة ، وألا تخرج عن حدود المنهج الذي اتبعناه في الظلال أيضا .
إن الله سبحانه يصف المؤمنين في مواضع كثيرة من القرآن بأنهم الذين يؤمنون بالغيب ؛ فيجعل هذه الصفة قاعدة من قواعد الإيمان الأساسية :
( الم . ذلك الكتاب لا ريب فيه ، هدى للمتقين : الذين يؤمنون بالغيب ، ويقيمون الصلاة ، ومما رزقناهم ينفقون ، والذين يؤمنون بما أنزل إليك وما أنزل من قبلك وبالآخرة هم يوقنون . أولئك على هدى من ربهم ، وأولئك هم المفلحون ) . . [ البقرة : 5 - 1 ] .
والإيمان بالله - سبحانه - هو إيمان بالغيب . فذات الله - سبحانه - غيب بالقياس إلى البشر ؛ فإذا آمنوا به فإنما يؤمنون بغيب ، يجدون آثار فعله ، ولا يدركون ذاته ، ولا كيفيات أفعاله .
والإيمان بالآخرة كذلك ، هو إيمان بالغيب . فالساعة بالقياس إلى البشر غيب ، وما يكون فيها من بعث وحساب وثواب وعقاب كله غيب يؤمن به المؤمن ، تصديقا لخبر الله سبحانه .
والغيب الذي يتحقق الإيمان بالتصديق به يشمل حقائق أخرى يذكرها القرآن الكريم في وصف واقع المؤمنين وعقيدتهم الشاملة :
( آمن الرسول بما أنزل إليه من ربه والمؤمنون . كل آمن بالله وملائكته وكتبه ورسله . لا نفرق بين أحد من رسله . وقالوا : سمعنا وأطعنا . غفرانك ربنا ، وإليك المصير ) . [ البقرة : 285 ] .
فنجد في هذا النص أن رسول الله [ ص ] والمؤمنين كذلك ، كل آمن بالله - وهو غيب - وآمن بما أنزل الله على رسوله - وما أنزل الله على رسوله فيه جانب من إطلاعه [ ص ] على جانب من الغيب بالقدر الذي قدره الله - سبحانه - كما قال في الآية الأخرى : ( عالم الغيب فلا يظهر على غيبه أحدًا إلا من ارتضى من رسول ) . . [ الجن : 27 - 26 ] .
وآمن بالملائكة - وهي غيب - لا يعرف عنه البشر إلا ما يخبرهم به الله ، على قدر طاقتهم وحاجتهم .
ويبقى من الغيب الذي لا يقوم الإيمان إلا بالتصديق به : قدر الله - وهو غيب لا يعلمه الإنسان حتى يقع - كما جاء في حديث الإيمان : " . . . والقدر خيره وشره " . . . [ اخرجه الشيخان ] "
على أن الغيب في هذا الوجود يحيط بالإنسان من كل جانب . . غيب في الماضي وغيب في الحاضر ، وغيبفي المستقبل . . غيب في نفسه وفي كيانه ، وغيب في الكون كله من حوله . . غيب في نشأة هذا الكون وخط سيره ، وغيب في طبيعته وحركته . . غيب في نشأة الحياة وخط سيرها ، وغيب في طبيعتها وحركتها . . غيب فيما يجهله الإنسان ، وغيب فيما يعرفه كذلك !
ويسبح الإنسان في بحر من المجهول . . حتى ليجهل اللحظة ما يجري في كيانة هو ذاته فضلا على ما يجري حوله في كيان الكون كله ؛ وفضلا عما يجري بعد اللحظة الحاضرة له وللكون كله من حوله : ولكل ذره ، وكل كهرب من ذرة ؛ وكل خلية وكل جزئي من خلية !
إنه الغيب . . إنه المجهول . . والعقل البشري - تلك الذبالة القريبة المدى - إنما يسبح في بحر المجهول . فلا يقف إلا على جزر طافية هنا وهنالك يتخذ منها معالم في الخضم . ولولا عون الله له ، وتسخير هذا الكون ، وتعليمه هو بعض نواميسه ، ما استطاع شيئا . . ولكنه لا يشكر . . ( وقليل من عبادي الشكور ) . . بل إنه في هذه الأيام ليتبجح بما كشف الله له من السنن ، وبما آتاه من العلم القليل . . يتبجح فيزعم أحيانا أن " الإنسان يقوم وحده " ولم يعد في حاجة إلى إله يعينه ! ويتبجح أحيانا فيزعم أن " العلم " يقابل " الغيب " وأن " العلمية " في التفكير والتنظيم تقابل " الغيبية " وأنه لا لقاء بين العلم والغيب ؛ كما أنه لا لقاء بين العقلية العلمية والعقلية الغيبية !
فلنلق نظرة على وقفة " العلم " أمام " الغيب " . . في بحوث وأقوال " العلماء " من بني البشر أنفسهم - بعد أن نقف أمام كلمة الفصل التي قالها العليم الخبير عن علم الإنسان القليل - ( وما أوتيتم من العلم إلا قليلًا ) . . . [ الإسراء : 85 ] ( إن يتبعون إلا الظن وما تهوى الأنفس ولقد جاءهم من ربهم الهدى ) . . [ النجم : 29 ] وأن الغيب كله لله : ( وعنده مفاتح الغيب لا يعلمها إلا هو ) [ الأنعام : 59 ] وأن الذي يعلم الغيب هو الذي يرى : ( أعنده علم الغيب فهو يرى ؟ ) . . [ النجم : 35 ] . . . وهي ناطقة بذاتها عن مدلولاتها . .
فلنلق نظرة على وقفة " العلم " أمام " الغيب " في بحوث وأقوال العلماء من بني الإنسان لا لنصدق بها كلمة الفصل من الله سبحانه - فحاشا للمؤمن أن يصدق قول الله بقول البشر - ولكننا نقف هذه الوقفة لنحاكم الذين يلوكون كلمات العلم والغيب ، والعلمية والغيبية ، إلى ما يؤمنون هم به من قول البشر ! ليعلموا أن عليهم هم أن يحاولوا " الثقافة " و " المعرفة " ليعيشوا في زمانهم ؛ ولا يكونوا متخلفين عن عقليته ومقررات تجاربه !
وليستيقنوا أن " الغيب " هو الحقيقة " العلمية " الوحيدة المستيقنة من وراء كل التجارب والبحوث والعلم الإنساني ذاته ! وأن " العلمية " في ضوء التجارب والنتائج الأخيرة مرادفة تماما " للغيبية " . . أما الذي يقابل الغيبية حقا فهو " الجهلية " ! ! ! الجهلية التي تعيش في القرن السابع عشر والثامن عشر والتاسع عشر - ربما - ولكنها لا تعيش في القرن العشرين ! ! !
عالم معاصر - من أمريكا - يقول عن " الحقائق " التي يصل إليها " العلم " بجملتها :
" إن العلوم حقائق مختبرة ؛ ولكنها مع ذلك تتأثر بخيال الإنسان وأوهامه ومدى بعده عن الدقة في ملاحظاته وأوصافه واستنتاجاته . ونتائج العلوم مقبولة داخل هذه الحدود . فهي بذلك مقصورة على الميادين الكمية في الوصف والتنبؤ . وهي تبدأ بالاحتمالات ، وتنتهي بالاحتمالات كذلك . . وليس باليقين . . ونتائج العلوم بذلك تقريبية ، وعرضة للأخطاء المحتملة في القياس والمقارنات ؛ ونتائجها اجتهادية ، وقابلة للتعديل بالإضافةوالحذف ، وليست نهائية . وإننا لنرى أن العالم عندما يصل إلى قانون أو نظرية يقول : إن هذا هو ما وصلنا إليه حتى الآن ، ويترك الباب مفتوحا لما قد يستجد من التعديلات " .
وهذه الكلمة تلخص حقيقة جميع النتائج التي وصل إليها العلم ، والتي يمكن أن يصل إليها كذلك . فطالما أن " الإنسان " بوسائله المحدودة ، بل بوجوده المحدود بالقياس إلى الأزل والأبد هو الذي يحاول الوصول إلى هذه النتائج ؛ فإنه من الحتم أن تكون مطبوعة بطابع هذا الإنسان ، ولها مثل خصائصه من كونها محدودة المدى ؛ وقابلة للخطأ والصواب ، والتعديل والتبديل . .
على أن الوسيلة التي يصل بها الإنسان إلى أية نتيجة هي التجربة والقياس . فهو يجرب ، ثم يعمم النتيجة التي يصل إليها عن طريق القياس ؛ والقياس - باعتراف العلم وأهله - وسيلة تؤدي إلى نتيجة ظنية ؛ ولا يمكن أبدا أن تكون قطعية ولا نهائية . والوسيلة الأخرى - وهي التجربة والاستقصاء بمعنى تعميم التجربة على كل ما هو من جنس ما وقعت عليه التجارب في جميع الأزمنة وفي جميع الظروف - وسيلة غير مهيأة للإنسان . وهي إحدى الوسائل الموصلة إلى نتائج قطعية . ولا سبيل إلى نتيجة قطعية وحقيقة يقينية إلا عن طريق هدى الله الذي يبينه للناس . ومن ثم يبقى علم الإنسان فيما وراء ما قرره الله له ، علما ظنيا لا يصل إلى مرتبة اليقين بحال !
على أن " الغيب " ضارب حول الإنسان فيما وراء ما يصل إليه علمه الظني ذاك . . .
هذا الكون من حوله . . إنه ما يزال يضرب في الفروض والنظريات حول مصدره ونشأته وطبيعته وحول حركته ، وحول " الزمان " ما هو وحول " المكان " وارتباطه بالزمان وارتباط ما يجري في الكون بالزمان والمكان .
والحياة . ومصدرها . ونشأتها . وطبيعتها . وخط سيرها . والمؤثرات فيها . وارتباطها بهذا الوجود " المادي " ! إن كان هناك في الكون مادة على الإطلاق ذات طبيعة غير طبيعة " الفكر " وغير طبيعة الطاقة على العموم !
" والإنسان " ما هو ؟ ما الذي يميزه من المادة ؟ وما الذي يميزه عن بقية الأحياء ؟ وكيف جاء إلى هذه الأرض وكيف يتصرف ؟ وما " العقل " الذي يتميز به ويتصرف ؟ وما مصيره بعد الموت والإنحلال ؟ . .
بل هذا الكيان الإنساني ذاته ، ما الذي يجري في داخله من تحليل وتركيب في كل لحظة ؟ وكيف يجري ؟ . .
إنها كلها ميادين للغيب ، يقف العلم على حافاتها ، ولا يكاد يقتحهما ، حتى على سبيل الظن والترجيح . وإن هي إلا فروض واحتمالات !
ولندع ما لا يشغل العلم به نفسه - إلا قليلا في هذا القرن - من حقيقة الألوهية ، وحقيقة العوالم الأخرى من ملائكة وجن وخلق لا يعلمه إلا الله . ومن حقيقة الموت ، وحقيقة الآخرة . وحقيقة الحساب والجزاء . . لندع هذا كله لحظة ففي " الغيب " القريب ، الكفاية ، ومن هذا الغيب يقف العلم وقفة التسليم ، الذي لا يخرج عنه إلا من يؤثرون المراء على " العلم " والتبجح على الإخلاص !
1 - في قاعدة بناء الكون وسلوكه :
الذرة - فيما يقول العلم الحديث - قاعدة بناء الكون . وليست هي أصغر وحدة في بناء هذا العالم . فهي مؤلفة من بروتونات [ طاقة كهربية موجبة ] والكترونات [ طاقة كهربية سالبة ] ونيوترونات [ طاقة محايدة مكونه من طاقة كهربائية موجبة وطاقة كهربائية سالبة متعادلتين ساكنتين ] وحين تحطم الذرة تتحرر الكهارب [ الإلكترونات ] ولكنها لا تسلك في المعمل سلوكا حتميا موحدا . فهي تسلك مرة كأنها أمواج ضوئية ومرة كأنها قذائف . ولا يمكن تحديد سلوكها المقبل مقدما . وإنما هي تخضع لقانون آخر - غير الحتمية - هو قانون الاحتمالات . وكذلك تسلك الذرة نفسها ، والمجموعة المحدودة من الذرات [ في صورة جزيئات ] هذا السلوك . يقول سير جيمس جيننر - الإنجليزي - الأستاذ في الطبيعيات والرياضيات :
" لقد كان العلم القديم يقرر تقرير الواثق ، أن الطبيعة لا تستطيع أن تسلك إلا طريقا واحدا : وهو الطريق الذي رسم من قبل ، لتسير فيه من بداية الزمن إلى نهايته ، وفي تسلسل مستمر بين علة ومعلول ، وألا مناص من أن الحالة [ أ ] تتبعها الحالة [ ب ] أما العلم الحديث فكل ما يستطيع أن يقوله حتى الآن هو : أن الحالة [ أ ] يحتمل أن تتبعها [ ب ] أو [ ج ] أو [ د ] أو غيرها من الحالات الأخرى التي يخطئها الحصر . نعم إن في استطاعته أن يقول : إن حدوث الحالة [ ب ] أكثر أحتمالا من حدوث الحالة [ ج ] وإن الحالة [ ج ] أكثر احتمالا من الحالة [ د ] . . وهكذا بل إن في مقدوره أن يحدد درجة احتمال كل حالة من الحالات [ ب ] و [ ج ] و [ د ] بعضها بالنسبة إلى بعض . ولكنه لا يستطيع أن يتنبأ عن يقين : أي الحالات تتبع الأخرى . لأنه يتحدث دائما عما يحتمل . أما ما يجب أن يحدث فأمره موكول إلى الأقدار - مهما تكن حقيقة هذه الأقدار ! " .
فمإذا يكون " الغيب " وماذا يكون قدر الله المغيب عن علم الإنسان ، إن لم يكن هو هذا الذي تنتهي إليه تجارب العلم الإنساني ، وتقف على عتباته في صلب الكون وذراته ؟
ويضرب مثلا لذلك إشعاع ذرات الراديوم ، وتحولها إلى رصاص وهليوم . . وهي خاضعة تماما لقدر مجهول ، وغيب مستور ، يقف دونه علم الإنسان :
" ولنضرب لذلك مثلا ماديا يريده وضوحا : من المعروف أن ذرات الراديوم وغيره من المواد ذات النشاط الإشعاعي ، تتفكك بمجرد مرور الزمن عليها ، وتخلف وراءها ذرات من الرصاص والهليوم . ولهذا فإن كتلة من الراديوم ينقص حجمها باستمرار ، ويحل مكانها رصاص وهليوم . والقانون العام الذي يتحكم في معدل التناقص غريب غاية الغرابة . ذلك أن كمية من الراديوم تنقص بنفس الطريقة التي ينقص بها عدد من السكان ، إذا لم تجد عليهم مواليد ، وكانت نسبة تعرض كل منهم للوفاة واحدة بغض النظر عن السن ؛ أو أنها تنقص كما ينقص عدد أفراد كتيبة من الجند معرضين لنيران ترسل عليهم اعتباطا ، ومن غير أن يكون أحدهم مقصودا لذاته . ومجمل القول إنه ليس لكبر السن أثر ما في ذرة الراديوم الواحدة . فإنها لا تموت لأنها قد استوفت حظها من الحياة ، بل لأن المنية قد أصابتها خبط عشواء .
" ولنوضح هذه الحقيقة بمثل مادي فنقول : إذا فرض أن بحجرتنا ألفين من ذرات الراديوم . فإن العلم لا يستطيع أن يقول : كم منها يبقى حيا بعد عام . بل كل ما يستطيعه هو أن يذكر فقط الاحتمالات التي ترجح بقاء 2000 أو 1999 أو 1998 ، وهكذا . وأكثر الأمور احتمالا في الواقع هو أن يكون العدد 1999 ، أي أن أرجح الاحتمالات هو أن ذرة واحدة لا أكثر من الألفي ذرة ، هي التي تتحلل في العام التالي .
" ولسنا ندري بأية طريقة تختار تلك الذرة المعينة من بين هذه الألفي ذرة . وقد نشعر في بادى ء الأمر بميل إلى افتراض أن هذه الذرة ستكون هي التي تتعرض للاصطدام أكثر من غيرها ، أو التي تقع في أشد الأمكنة حرارة ، أو التي يصادفها غير هذا أو ذاك من الأسباب في العام التالي . ولكن هذا كله غير صحيح ، لأنه إذا كان في استطاعة الصدمات أو الحرارة أن تفكك ذرة واحدة ، فإن في استطاعتها أيضا أن تفكك ال 1999 ذرة الباقية ، ويكون في استطاعتنا أن نعجل بتفكيك الراديوم بمجرد ضغطه أو تسخينه ؛ ولكن كل عالم من علماء الطبيعة يقرر أن ذلك مستحيل ؛ بل هو يعتقد على الأرجح أن الموت يصيب في كل عام ذرة واحدة من كل 2000 من ذرات الراديوم ، ويضطرها إلى أن تتفكك . وهذه هي نظرية " التفكك التلقائي " التي وضعها " رذرفورد " و " سدي " في عام 1903
فكيف إذن يكون القدر الغيبي إن لم يكن هو هذا الذي تتشعع به الذرات على غير اختيار منها ولا من أحد . وعلى غير علم منها ولا من أحد ؟ !
إن الرجل الذي يقول هذا الكلام ، لا يريد أن يثبت به القدر الإلهي المغيب عن الناس . بل إنه ليحاول جاهدا أن يهرب من ضغط النتائج التي ينتهي إليها العلم البشري ذاته . ولكن حقيقة الغيب تفرض نفسها عليه فرضا على النحو الذي نراه !
2- وكما تفرض حقيقة " الغيب " نفسها على قاعدة بناء الكون وحركته ، فهي كذلك تفرض نفسها على قاعدة انبثاق الحياة وحركتها بنفس القوة في النتائج التي ينتهي إليها العلم البشري .
يقول عالم الأحياء والنبات " رسل تشارلز إرنست " الأستاذ بجامعة فرانكفورت بألمانيا :
" لقد وضعت نظريات عديدة لكي تفسر نشأة الحياة من عالم الجمادات ؛ فذهب بعض الباحثين إلى أن الحياة قد نشأت من البروتوجين ، أو من الفيروس ، أو من تجمع بعض الجزئيات البروتينية الكبيرة . وقد يخيل إلى بعض الناس أن هذه النظريات قد سدت الفجوة التي تفصل بين عالم الأحياء وعالم الجمادات . ولكن الواقع الذي ينبغي أن نسلم به هو أن جميع الجهود التي بذلت للحصول على المادة الحية من غير الحية ، قد باءت بفشل وخذلان ذريعين . ومع ذلك فإن من ينكر وجود الله لا يستطيع أن يقيم الدليل المباشر للعالم المتطلع على أن مجرد تجمع الذرات والجزيئات عن طريق المصادفة ، يمكن أن يؤدي إلى ظهور الحياة وصيانتها وتوجيهها بالصورة التي شاهدناها في الخلايا الحية . وللشخص مطلق الحرية في أن يقبل هذا التفسير لنشأة الحياة ، فهذا شأنه وحده ! ولكنه إذ يفعل ذلك ، فإنما يسلم بأمر أشد إعجازا وصعوبة على العقل من الاعتقاد بوجود الله ، الذين خلق الأشياء ودبرها .
" إنني أعتقد أن كل خلية من الخلايا الحية قد بلغت من التعقد درجة يصعب علينا فهمها . وأن ملايين الملايين من الخلايا الحية الموجودة على سطح الأرض تشهد بقدرته شهادة تقوم على الفكر والمنطق . ولذلك فإننيأؤمن بوجود الله إيمانا راسخًا " .
والذي يهمنا هنا من هذه الشهادة هو أن سر الحياة ونشأتها غيب من غيب الله ، كنشأة الكون وحركته ؛ وأن ليس لدى البشر عن ذلك إلا الاحتمالات . وصدق الله العظيم : ( ما أشهدتهم خلق السماوات والأرض ولا خلق أنفسهم ) . . .
3- ونخطو خطوة واسعة لنصل إلى الإنسان . . إن الدفقة الواحدة من ماء الرجل تحتوي على نحو ستين مليونا من الحيوانات المنوية . . كلها تدخل في سباق لتلحق بالبويضة في رحم المرآة . . ولا يعلم أحد من الذي يسبق ! فهو غيب ، أو هو قدر غيبي لا علم للبشر به - بما فيهم الرجل والمرأة صاحبا الدور في هذا الأمر ! - ثم يصل السابق من بين ستين مليونا ! ويلتحم مع البويضة ليكونا معا خلية واحدة ملقحة هي التي ينتج منها الجنين . ولما كانت كل كروموسومات البويضة مؤنثة ، بينما كروموسومات الحيوان المنوي بعضها مذكر وبعضها مؤنث ؛ فإن غلبة عدد كروموسومات التذكير أو كروموسومات التأنيث في الحيوان المنوي الذي يلتحم بالبويضة ، هو الذي يقرر مصير الجنين - ذكرا أو أنثى - وهذا خاضع لقدر الله الغيبي لا علم به ولا دخل للبشر - بما فيهم أبوا الجنين أنفسهما : ( الله يعلم ما تحمل كل أنثى وما تغيض الأرحام وما تزداد . وكل شيء عنده بمقدار . عالم الغيب والشهادة الكبير المتعال ) . . [ الرعد : 9 - 8 ]( لله ملك السماوات والأرض يخلق ما يشاء يهب لمن يشاء إناثا ويهب لمن يشاء الذكور . أو يزوجهم ذكرانا وإناثا ويجعل من يشاء عقيما ، إنه عليم قدير ) . . [ الشورى : 50 - 49 ] ( يخلقكم في بطون أمهاتكم خلقا من بعد خلق في ظلمات ثلاث ذلكم الله ربكم له الملك ، لا إله إلا هو فأني تصرفون ؟ ) . . . [ الزمر : 6 ] .
هذا هو " الغيب " الذي يقف أمامه " العلم " البشري ؛ ويواجهه في القرن العشرين . . بينما الذين يعيشون على فتات القرون الماضية يزعمون أن " الغيبية " تنافي " العلمية " . وأن المجتمع الذي يريد أن يعيش بعقلية علمية ينبغي له أن يتخلص من العقلية الغيبية ! ذلك بينما العلم البشري ذاته . . علم القرن العشرين . . يقول : إن كل ما يصل إليه من النتائج هو " الاحتمالات " ! وإن الحقيقة المستيقنة الوحيدة هي أن هنالك " غيبًا " لا شك فيه !
على أننا قبل أن نغادر هذه الوقفة المجملة أمام حقيقة الغيب ، ينبغي أن نقول كلمة عن طبيعة " الغيب " في العقيدة الإسلامية ، وفي التصور الإسلامي ، وفي العقلية الإسلامية .
إن القرآن الكريم - وهو المصدر الأساسي للعقيدة الإسلامية التي تنشى ء التصور الإسلامي والعقلية الإسلامية - يقرر أن هناك عالما للغيب وعالما للشهادة . فليس كل ما يحيط بالإنسان غيبا ، وليس كل ما يتعامل معه من قوى الكون مجهولا . .
إن هنالك سننا ثابته لهذا الكون ؛ يملك " الإنسان " أن يعرف منها القدر اللازم له ، حسب طاقته وحسب حاجته ، للقيام بالخلافة في هذه الأرض . وقد أودعه الله القدرة على معرفة هذا القدر من السنن الكونية ؛ وعلى تسخير قوى الكون وفق هذه السنن للنهوض بالخلافة ، وتعمير الأرض ، وترقية الحياة ، والانتفاع بأقواتها وأرزاقها وطاقاتها . .
وإلى جانب هذه السنن الثابته - في عمومها - مشيئة الله الطليقة ؛ لا تقيدها هذه السنن وإن كانت من عملها . وهناك قدر الله الذي ينفذ هذه السنن في كل مرة تنفذ فيها . فهي ليست آلية بحتة ، فالقدر هو المسيطر على كل حركة فيها ؛ وإن جرت وفق السنة التي أودعها الله إياها . وهذا القدر الذي ينفذ هذه السنن في كل مرة تنفذ فيها " غيب " لا يعلمه أحد علم يقين ؛ وأقصى ما يصل إليه الناس هو الظنون و " الاحتمالات " . . وهذا ما يعترف به العلم البشري أيضًا . .
وإن ملايين الملايين من العمليات لتتم في كيان الإنسان في اللحظة الواحدة ؛ وكلها " غيب " بالقياس إليه ، وهي تجري في كيانه ! ومثلها ملايين ملايين العمليات التي تتم في الكون من حوله ؛ وهو لا يعلمها !
وإن الغيب ليحيط بماضيه وماضي الكون . وحاضره وحاضر الكون . ومستقبله ومستقبل الكون . . وذلك مع وجود السنن الثابتة ، التي يعرف بعضها ، وينتفع بها انتفاعا علميا منظما في النهوض بعبء الخلافة .
وإن " الإنسان " ليجيء إلى هذا العالم على غير رغبة منه ولا علم بموعد قدومه ! وإنه ليذهب عن هذا العالم على غير رغبة منه ولا علم بموعد رحيله ! . . وكذلك كل شيء حي . . ومهما تعلم ومهما عرف ، فإن هذا لن يغير من هذا الواقع شيئا !
إن العقلية الإسلامية عقلية " غيبية علمية " لأن " الغيبية " هي " العلمية " بشهادة " العلم " والواقع . . أما التنكر للغيب فهو " الجهلية " التي يتعالم أصحابها وهم بهذه الجهالة !
وإن العقلية الإسلامية لتجمع بين الاعتقاد بالغيب المكنون الذي لا يعلم مفاتحه إلا الله ؛ وبين الاعتقاد بالسنن التي لا تتبدل ، والتي تمكن معرفة الجوانب اللازمة منها لحياة الإنسان في الأرض ، والتعامل معها على قواعد ثابته . . فلا يفوت المسلم " العلم " البشري في مجاله ، ولا يفوته كذلك إدراك الحقيقة الواقعية ؛ وهي أن هنالك غيبا لا يطلع الله عليه أحدا ، إلا من شاء ، بالقدر الذي يشاء . .
والإيمان بالغيب هو العتبة التي يجتازها " الفرد " فيتجاوز مرتبة " الحيوان " الذي لا يدرك إلا ما تدركه حواسه ، إلى مرتبة " الإنسان " الذي يدرك أن الوجود أكبر وأشمل من ذلك الحيز الصغير المحدود الذي تدركه الحواس - أو الأجهزة التي هي امتداد للحواس - وهي نقلة بعيدة الأثر في تصور الإنسان لحقيقة الوجود كله ، ولحقيقة وجوده الذاتي ، ولحقيقة القوى المنطلقة في كيان هذا الوجود ؛ وفي إحساسه بالكون ، وما وراء الكون من قدرة وتدبير . كما أنها بعيدة الآثر في حياته على الأرض . فليس من يعيش في الحيز الصغير الذي تدركه حواسه كمن يعيش في الكون الكبير الذي تدركه بديهته وبصيرته ؛ ويتلقى أصداءه وإيحاءاته في أطوائه وأعماقه ؛ ويشعر أن مداه أوسع في الزمان والمكان من كل ما يدركه وعيه في عمره القصير المحدود ؛ وأن وراء الكون . . ظاهرة وخافية . . حقيقة أكبر من الكون ، هي التي صدر عنها ، واستمد من وجودها وجوده . . حقيقة الذات الإلهية التي لا تدركها الأبصار ، ولا تحيط بها العقول . .
. . . " لقد كان الإيمان بالغيب هو مفرق الطريق في ارتقاء الإنسان عن عالم البهيمة . ولكن جماعة الماديين في هذا الزمان - كجماعة الماديين في كل زمان - يريدون أن يعودوا بالإنسان القهقرى . . إلى عالم البهيمة ، الذي لا وجود فيه لغير المحسوس ! ويسمون هذا " تقدمية " ! وهو النكسة التي وقى الله المؤمنين إياها . فجعل صفتهم المميزة هي صفة : ( الذين يؤمنون بالغيب ) . . . والحمد لله على نعمائه ؛ والنكسة للمنتكسين والمرتكسين " .
والذين يتحدثون عن " الغيبية " و " العلمية " يتحدثون كذلك عن " الحتمية التاريخية " كأن كل المستقبل مستيقن ! و " العلم " في هذا الزمان يقول : إن هناك " احتمالات " وليست هنالك " حتميات " !
ولقد كان ماركس من المتنبئين " بالحتميات " ! ولكن أين نبوءات ماركس اليوم ؟
لقد تنبأ بحتمية قيام الشيوعية في انجلترا ، نتيجة بلوغها قمة الرقي الصناعي ومن ثم قمة الرأسمالية في جانب والفقر العمالي في جانب آخر . . فإذا الشيوعية تقوم في أكثر الشعوب تخلفا صناعيا . . في روسيا والصين وما إليها . . ولا تقوم قط في البلاد الصناعية الراقية !
ولقد تنبأ لينين وبعده ستالين بحتمية الحرب بين العالم الرأسمالي والعالم الشيوعي . وها هو ذا خليفتهما " خروشوف " يحمل راية " التعايش السلمي " !
ولا نمضي طويلا مع هذه " الحتميات " التنبؤية ! فهي لا تستحق جدية المناقشة !
إن هنالك حقيقة واحدة مستيقنة هي حقيقة الغيب ، وكل ما عداها احتمالات . وإن هنالك حتمية واحدة هي وقوع ما يقضي به الله ويجري به قدره . وقدر الله غيب لا يعلمه إلا هو . وإن هنالك - مع هذا وذلك - سننا للكون ثابته ، يملك الإنسان أن يتعرف إليها ، ويستعين بها في خلافة الأرض ، مع ترك الباب مفتوحا لقدر الله النافذ ؛ وغيب الله المجهول . . وهذا قوام الأمر كله . . ( إن هذا القرآن يهدي للتي هي أقوم ) .
وقوله : { وَعِنْدَهُ مَفَاتِحُ الْغَيْبِ لا يَعْلَمُهَا إِلا هُوَ } قال البخاري : حدثنا عبد العزيز بن عبد الله حدثنا إبراهيم بن سعد ، عن ابن شهاب ، عن سالم بن عبد الله ، عن أبيه ؛ أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال : " مفاتح الغيب خمس لا يعلمها إلا الله : { إِنَّ اللَّهَ عِنْدَهُ عِلْمُ السَّاعَةِ وَيُنزلُ الْغَيْثَ وَيَعْلَمُ مَا فِي الأرْحَامِ وَمَا تَدْرِي نَفْسٌ مَاذَا تَكْسِبُ غَدًا وَمَا تَدْرِي نَفْسٌ بِأَيِّ أَرْضٍ تَمُوتُ إِنَّ اللَّهَ عَلِيمٌ خَبِيرٌ } [ لقمان : 34 ]{[10732]} .
وفي حديث عمر [ رضي الله عنه ]{[10733]} أن جبريل حين تَبدَّى له في صورة أعرابي فسأل عن الإسلام والإيمان والإحسان ، قال له رسول الله صلى الله عليه وسلم فيما قال له : " خمس لا يعلمهن إلا الله " ، ثم قرأ : { إِنَّ اللَّهَ عِنْدَهُ عِلْمُ السَّاعَةِ } الآية [ لقمان : 34 ] .
وقوله : { وَيَعْلَمُ مَا فِي الْبَرِّ وَالْبَحْرِ } أي : يحيط علمه الكريم{[10734]} بجميع الموجودات ، بَريها وبحريها{[10735]} لا يخفى عليه من ذلك شيء ، ولا مثقال ذرة في الأرض ولا في السماء . وما أحسن ما قال الصّرْصَريّ :
فَلا يَخْفَى عليه الذَّر إمَّا *** تَرَاءىَ للنواظر أو تَوَارى
وقوله : { وَمَا تَسْقُطُ مِنْ وَرَقَةٍ إِلا يَعْلَمُهَا } أي : ويعلم الحركات حتى من الجمادات ، فما ظنك بالحيوانات ، ولا سيما المكلفون منهم من جنهم وإنسهم ، كما قال تعالى : { يَعْلَمُ خَائِنَةَ الأعْيُنِ وَمَا تُخْفِي الصُّدُورُ } [ غافر : 19 ] .
وقال ابن أبي حاتم : حدثنا أبي ، حدثنا الحسن بن الرَّبيع ، حدثنا أبو الأحْوَص ، عن سعيد بن مسروق ، عن حسان النمري ، عن ابن عباس في قوله : { وَمَا تَسْقُطُ مِنْ وَرَقَةٍ إِلا يَعْلَمُهَا } قال : ما من شجرة في بر ولا بحر إلا وملك موكل بها ، يكتب ما يسقط{[10736]} منها .
وقوله : { وَلا حَبَّةٍ فِي ظُلُمَاتِ الأرْضِ وَلا رَطْبٍ وَلا يَابِسٍ إِلا فِي كِتَابٍ مُبِينٍ } قال محمد بن إسحاق ، عن يحيي بن النضر ، عن أبيه ، سمعت عبد الله بن عمرو بن العاص يقول : إن تحت الأرض الثالثة وفوق الرابعة من الجن ما لو أنهم ظهروا - يعني لكم - لم تروا معهم نورًا ، على كل زاوية من زوايا الأرض{[10737]} خاتم من خواتيم الله ، عَزَّ وجل ، على كل خاتم مَلَك من الملائكة يبعث الله ، عَزَّ وجل ، إليه في كل يوم ملكا من عنده : أن احتفظ بما عندك .
قال ابن أبي حاتم : حدثنا عبد الله بن محمد بن عبد الرحمن بن المِسوَر الزهري : حدثنا مالك بن سُعَيْر ، حدثنا الأعمش ، عن يزيد بن أبي زياد ، عن عبد الله بن الحَارث قال : ما في الأرض من شجرة ولا مغْرَز إبرة إلا عليها{[10738]} ملك موكل يأتي الله بعلمها : رطوبتها إذا رطبت ، ويَبَسها إذا يبست .
وكذا رواه ابن جرير عن أبي الخطاب زياد بن عبد الله الحساني ، عن مالك بن سعير ، به{[10739]}
ثم قال ابن أبي حاتم : ذُكر عن أبي حذيفة ، حدثنا سفيان ، عن عمرو بن قيس ، عن رجل عن سعيد بن جُبَيْر ، عن ابن عباس قال : خلق الله النون - وهي الدواة - وخلق الألواح ، فكتب فيها أمر الدنيا حتى ينقضي ما كان من خلق مخلوق ، أو رزق حلال أو حرام ، أو عمل بر أو فجور{[10740]} وقرأ هذه الآية : { وَمَا تَسْقُطُ مِنْ وَرَقَةٍ إِلا يَعْلَمُهَا } إلى آخر الآية .
القول في تأويل قوله تعالى : { وَعِندَهُ مَفَاتِحُ الْغَيْبِ لاَ يَعْلَمُهَآ إِلاّ هُوَ وَيَعْلَمُ مَا فِي الْبَرّ وَالْبَحْرِ وَمَا تَسْقُطُ مِن وَرَقَةٍ إِلاّ يَعْلَمُهَا وَلاَ حَبّةٍ فِي ظُلُمَاتِ الأرْضِ وَلاَ رَطْبٍ وَلاَ يَابِسٍ إِلاّ فِي كِتَابٍ مّبِينٍ } . .
يقول : وَعِنْدَهُ مَقاتِحُ الغَيْبِ والمفاتح : جمع مِفْتَح ، يقال فيه : مِفْتَح ومِفْتَاح ، فمن قال مِفْتَح جمعه مَفَاتح ، ومن قال مِفْتاح جمعه مَفَاتِيح .
ويعني بقوله : وَعِنْدَهُ مَفاتِحُ الغَيْبِ خزائن الغيب ، كالذي :
حدثني محمد بن الحسين ، قال : حدثنا أحمد بن المفضل ، قال : حدثنا أسباط ، عن السديّ : وَعِنْدَهُ مَفاتِحُ الغَيْبِ قال : يقول : خزائن الغيب .
حدثنا ابن وكيع ، قال : حدثنا أبي ، عن مسعر ، عن عمرو بن مرّة ، عن عبد الله بن سلمة ، عن ابن مسعود ، قال : أعطي نبيكم كلّ شيء إلاّ مفاتح الغيب .
حدثنا القاسم ، قال : حدثنا الحسين ، قال : ثني حجاج ، عن ابن جريج ، عن عطاء الخراساني ، عن ابن عباس : وَعِنْدَهُ مفاتِخُ الغَيْبِ قال : هنّ خمس : إنّ اللّهَ عِنْدَهُ عِلْمُ السّاعَةِ ويُنَزّلُ الغَيْثَ . . . إلى : إنّ اللّهَ عَلِيمٌ خَبِيرٌ .
فتأويل الكلام إذن : والله أعلم بالظّالمين من خلقه وما هم مستحقوه وما هو بهم صانع ، فإن عنده علم ما غاب علمه عن خلقه ، فلم يطلعوا عليه ولم يدركوه ولم يعلموه ولن يدركوه . ويَعْلَمُ ما في البَرّ والبَحْرِ يقول : وعنده علم ما لم يغب أيضا عنكم ، لأن ما في البرّ والبحر مما هو ظاهر للعين يعلمه العباد . فكان معنى الكلام : وعند الله علم ما غاب عنكم أيها الناس مما لا تعلمونه ولن تعلموه مما استأثر بعلمه نفسه ، ويعلم أيضا مع ذلك جميع ما يعلمه جميعكم ، لا يخفى عليه شيء ، لأنه لا شيء إلا ما يخفى عن الناس أو ما لا يخفى عليهم . فأخبر الله تعالى أن عنده علم كل شيء كان ويكون وما هو كائن مما لم يكن بعد ، وذلك هو الغيب .
القول في تأويل قوله تعالى : وَما تَسْقُطُ مِنْ وَرَقَةٍ إلاّ يَعْلمُها وَلا حَبّةٍ فِي ظُلُماتِ الأرْضِ وَلا رَطْبٍ وَلا يابِسٍ إلاّ فِي كِتابٍ مُبِينٍ .
يقول تعالى ذكره : ولا تسقط ورقة في الصحاري والبراري ولا في الأمصار والقرى إلا الله يعلمها . وَلا حَبّةٍ فِي ظُلُماتِ الأرْضِ وَلا رَطْبٍ وَلا يابِسٍ إلاّ فِي كِتابِ مُبِينٍ يقول : ولا شيء أيضا مما هو موجود أو مما سيوجد ولم يوجد بعد ، إلا وهو مثبت في اللوح المحفوظ ، مكتوب ذلك فيه ومرسوم عدده ومبلغه والوقت الذي يوجد فيه والحال التي يفني فيها . ويعني بقولين مُبِين : أنه يبين عن صحة ما هو فيه بوجود ما رسم فيه على ما رسم .
فإن قال قائل : وما وجه إثباته في اللوح المحفوظ والكتاب المبين ما لا يخفى عليه ، وهو بجميعه عالم لا يخاف نسيانه ؟ قيل له : لله تعالى فعل ما شاء ، وجائز أن يكون كان ذلك منه امتحانا منه لحفظته واختبارا للمتوكلين بكتابة أعمالهم ، فإنهم فيما ذكر مأمورون بكتابة أعمال العباد ثم بعرضها على ما أثبته الله من ذلك في اللوح المحفوظ ، حتى أثبت فيه ما أثبت كل يوم وقيل : إن ذلك معنى قوله : إنّا كُنّا نَسْتَنْسِخُ ما كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ وجائز أن يكون ذلك لغير ذلك مما هو أعلم به ، إما بحجة يحتجّ بها على بعض ملائكته وأما على بني آدم وغير ذلك . وقد :
حدثني زياد بن يحيى الحساني أبو الخطاب ، قال : حدثنا مالك بن سعير ، قال : حدثنا الأعمش ، عن يزيد بن أبي زياد ، عن عبد الله بن الحرث ، قال : ما في الأرض من شجرة ولا كمغرز إبرة ، إلا عليها ملك موكل بها يأتي الله ، يعلمه يبسها إذا يبست ورطوبتها إذا رطبت .
{ وعنده مفاتح الغيب } خزائنه جمع مفتح بفتح الميم ، وهو المخزن أو ما يتوصل به إلى المغيبات مستعار من المفاتح الذي هو جمع مفتح بكسر الميم وهو المفتاح ، ويؤيده أنه قرئ " مفاتيح " والمعنى أنه المتوصل إلى المغيبات المحيط علمه بها . { لا يعلمها إلا هو } فيعلم أوقاتها وما في تعجيلها وتأخيرها من الحكم فيظهرها على ما اقتضته حكمته وتعلقت به مشيئته ، وفيه دليل على أنه سبحانه وتعالى يعلم الأشياء قبل وقوعها . { ويعلم ما في البر والبحر } عطف للأخبار عن تعلق علمه تعالى بالمشاهدات على الإخبار عن اختصاص العلم بالمغيبات به . { وما تسقط من ورقة إلا يعلمها } مبالغة في إحاطة علمه بالجزئيات . { ولا حبة في ظلمات الأرض ولا رطب ولا يابس } معطوفات على ورقة وقوله : { إلا في كتاب مبين } بدل من الاستثناء الأول بدل الكل على أن الكتاب المبين علم الله سبحانه وتعالى ، أو بدل الاشتمال إن أريد به اللوح وقرئت بالرفع للعطف على محل ورقة أو رفعا على الابتداء والخبر { إلا في كتاب مبين } .