ثم بين - سبحانه - بعض النعم التى أنعم بها على نبيه إبراهيم ، بعد أن هاجر من العراق إلى بلاد الشام لبتليغ رسالة ربه غلى الناس فقال : { وَوَهَبْنَا لَهُ إِسْحَاقَ وَيَعْقُوبَ وَجَعَلْنَا فِي ذُرِّيَّتِهِ النبوة والكتاب .
أى : ووهبنا لإِبراهيم - بعد أن هاجر ومعه زوجه " سارة " وابن أخيه " لوط " - وهبنا له ابنه إسحاق ، وهبنا لإِسحاق يعقوب ، وجعلنا بفضلنا ورحمتنا ، فى ذرية إبراهيم النبوة ، إذ من نسله جميع الأنبياء من بعده ، كما جعلنا فى ذريته - أيضا - الكتب التى أنزلناها على الأنبياء من بعده ، كالتوراة ، والإِنجيل والزبور ، والقرآن .
فالمراد بالكتاب هنا : الكتب السماوية التى انزلها - سبحانه - على موسى وعيسى وداود ومحمد - صلوات الله عليه - وهم جميعا من نسل إبراهيم .
قال صاحب الكشاف : فإن قلت : ما بال إسماعيل لم يذكر ، وذكر إسحاق ويعقوب ؟
قلت : قد دل عليه فى قوله : { وَجَعَلْنَا فِي ذُرِّيَّتِهِ النبوة والكتاب } وكفى الدليل لشهرة أمره ، وعلو قدره .
فإن قلت : ما المراد بالكتاب ؟ قلت : قصد به جنس الكتاب ، حتى دخل تحته ما نزل على ذريته من الكتب الأرعبة ، التى هى : التوراة ، والزبور ، والإِنجيل ، والقرآن .
وقوله - سبحانه - : { وَآتَيْنَاهُ أَجْرَهُ فِي الدنيا } بيان لنعمة أخرى أنعم بها - سبحانه - على نبيه إبراهيم - عليه السلام - .
أى : وهبنا له الذرية الصالحة ، وجعلنا فى ذريته النبوة والكتب السماوية ، وآتيناه أجره على أعماله الصالحة فى الدنيا ، بأن رزقناه الزوجة الصالحة ، والذكر الحسن بعد وفاته .
{ وَإِنَّهُ فِي الآخرة لَمِنَ الصالحين } الذين نعطيهم فيها أجزل العطاء وأوفاه .
وهكذا جمع الله - تعالى - بفضله وإحسانه ، لنبيه إبراهيم ، خيرى الدنيا والآخرة ، جزاء إيمانه العميق ، وعمله الصالح ، ووفائه فى تبليغ رسالة ربه .
وعوض الله إبراهيم عن وطنه وعن قومه وعن أهله - عوضه عن هذا كله ذرية تمضي فيها رسالة الله إلى أن يرث الله الأرض ومن عليها . فكل الأنبياء وكل الدعوات بعده كانت في ذريته . وهو عوض ضخم في الدنيا وفي الآخرة :
( ووهبنا له إسحاق ويعقوب . وجعلنا في ذريته النبوة والكتاب . وآتيناه أجره في الدنيا وإنه في الآخرة لمن الصالحين ) .
وهو فيض من العطاء جزيل ، يتجلى فيه رضوان الله سبحانه على الرجل الذي يتمثل فيه الخلوص لله بكليته ، والذي أجمع الطغيان على حرقه بالنار ، فكان كل شيء من حوله بردا وسلاما ، وعطفا وإنعاما . جزاء وفاقا .
وقوله : { وَوَهَبْنَا لَهُ إِسْحَاقَ وَيَعْقُوبَ } ، كقوله تعالى : { فَلَمَّا اعْتَزَلَهُمْ وَمَا يَعْبُدُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ وَهَبْنَا لَهُ إِسْحَاقَ وَيَعْقُوبَ وَكُلا جَعَلْنَا نَبِيًّا } [ مريم : 49 ] أي : إنه لما فارق قومَه أقرّ الله عينه بوجود ولد صالح نبي [ وولد له ولد صالح ]{[22562]} في حياة جده . وكذلك{[22563]} قال الله : { وَوَهَبْنَا لَهُ إِسْحَاقَ وَيَعْقُوبَ نَافِلَةً } [ الأنبياء : 72 ]
أي : زيادة ، كما قال : { فَبَشَّرْنَاهَا بِإِسْحَاقَ وَمِنْ وَرَاءِ إِسْحَاقَ يَعْقُوبَ } أي : ويولَد لهذا الولد ولد في حياتكما ، تقر به أعينكما . وكون يعقوب ولد لإسحاق نص عليه القرآن ، وثبتت به السنة النبوية ، قال الله : { أَمْ كُنْتُمْ شُهَدَاءَ إِذْ حَضَرَ يَعْقُوبَ الْمَوْتُ إِذْ قَالَ لِبَنِيهِ مَا تَعْبُدُونَ مِنْ بَعْدِي قَالُوا نَعْبُدُ إِلَهَكَ وَإِلَهَ آبَائِكَ إِبْرَاهِيمَ وَإِسْمَاعِيلَ وَإِسْحَاقَ إِلَهًا وَاحِدًا وَنَحْنُ لَهُ مُسْلِمُونَ } [ البقرة : 133 ] ، وفي الصحيحين : " إن الكريم ابنَ الكريم ابنِ الكريم ابن الكريم يوسفُ بنَ يعقوبَ بن إسحاقَ بن إبراهيم " {[22564]} .
فأما ما رواه العوفي عن ابن عباس في قوله : { وَوَهَبْنَا لَهُ إِسْحَاقَ وَيَعْقُوبَ [ نَافِلَةً ] } {[22565]} ، قال : " هما ولدا إبراهيم " . فمعناه : أن ولد الولد بمنزلة الولد ؛ فإن هذا أمر لا يكاد يخفى على من هو دون ابن عباس .
وقوله : { وَجَعَلْنَا فِي ذُرِّيَّتِهِ النُّبُوَّةَ وَالْكِتَابَ } ، هذه خِلْعَة{[22566]} سَنية عظيمة ، مع اتخاذ الله إياه خليلا وجعله للناس إماما ، أن جعل في ذريته النبوة والكتاب ، فلم يوجد نبي بعد إبراهيم عليه السلام ، إلا وهو من سلالته ، فجميع أنبياء بني إسرائيل من سُلالة يعقوب بن إسحاق بن إبراهيم ، حتى كان آخرهم عيسى ابن مريم ، فقام في ملئهم مبشرا بالنبي العربي القرشي الهاشمي ، خاتم الرسل على الإطلاق ، وسيد ولد آدم في الدنيا والآخرة ، الذي اصطفاه الله من صميم العرب العَرْباء ، من سلالة إسماعيل بن إبراهيم ، عليهم السلام : ولم يوجد نبي من سلالة إسماعيل سواه ، عليه أفضل الصلاة والسلام [ من الله تعالى ]{[22567]} .
وقوله : { وَآتَيْنَاهُ أَجْرَهُ فِي الدُّنْيَا وَإِنَّهُ فِي الآخِرَةِ لَمِنَ الصَّالِحِينَ } أي : جمع الله له بين سعادة الدنيا الموصولة بسعادة الآخرة ، فكان له في الدنيا الرزق الواسع الهنيَّ والمنزل الرَّحْب ، والمورد العذب ، والزوجة الحسنة الصالحة ، والثناء الجميل ، والذكر الحسن ، فكل أحد يحبه ويتولاه ، كما قال ابن عباس ومجاهد وقتادة وغيرهم ، مع القيام بطاعة الله من جميع الوجوه ، كما قال تعالى : { وَإِبْرَاهِيمَ الَّذِي وَفَّى } [ النجم : 37 ] ، أي : قام بجميع ما أمر به ، وكمل طاعة ربه ؛ ولهذا قال تعالى : { وَآتَيْنَاهُ أَجْرَهُ فِي الدُّنْيَا وَإِنَّهُ فِي الآخِرَةِ لَمِنَ الصَّالِحِينَ } ، كما قال تعالى : { إِنَّ إِبْرَاهِيمَ كَانَ أُمَّةً قَانِتًا لِلَّهِ حَنِيفًا وَلَمْ يَكُ مِنَ الْمُشْرِكِينَ . شَاكِرًا لأنْعُمِهِ اجْتَبَاهُ وَهَدَاهُ إِلَى صِرَاطٍ مُسْتَقِيمٍ . وَآتَيْنَاهُ فِي الدُّنْيَا حَسَنَةً وَإِنَّهُ فِي الآخِرَةِ لَمِنَ الصَّالِحِينَ } [ النحل : 120 - 121 ] .
مشروع تقني يهدف لتوفير قالب تقني أنيق وحديث يليق بالمحتوى الثري لمشروع الجامع التاريخي لتفسير القرآن الكريم الصادر عن مؤسسة البحوث والدراسات العلمية (مبدع)، وقد تم التركيز على توفير تصفح سلس وسهل للمحتوى ومتوافق تماما مع أجهزة الجوال، كما تم عمل بعض المميزات الفريدة كميزة التلوين التلقائي للنصوص والتي تم بناء خوارزمية برمجية مخصصة لهذا الغرض.
تم الحصول على المحتوى من برنامج الجامع التاريخي لتفسير القرآن الكريم.
المشروع لا يتبع أي جهة رسمية أو غير رسمية، إنما هي جهود فردية ومبادرات شخصية لبعض الخبراء في مجال البرمجيات.
المشروع لازال في بداياته وننوي إن شاء الله العمل على تطويره بشكل مستمر وسنضع خطة تطوير توضح المميزات التي يجري العمل عليها إن شاء الله.
الدعاء للقائمين عليه، نشر الموقع والتعريف به، إرسال الملاحظات والمقترحات.