وقوله : { وَلِيَعْلَمَ الذين نَافَقُواْ } حكمة ثانية لما حدث فى غزوة أحد ليعلم - سبحانه - المؤمنين من المنافقين علم عيان ورؤية وظهور يتميز معه عند الناس كل فريق عن الآخر تميزا ظاهرا .
إذ أن نصر المسملين فى بدر فتح الطريق أمام المنافقين للتظاهر باعتناق الإسلام . وعدم انتصارهم فى أحد ، كشف عن هؤلاء المنافقين وأظهرهم على حقيقتهم ، فإن من شأن الشدائد أنها تكشف عن معادن النفوس ، وحنايا القلوب .
ثم بين - سبحانه - بعض النصائح التى قيلت لهؤلاء المنافقين حتى يقلعوا عن نفاقهم ، وحكى مارد به المنافقون على الناصحين فقال : { وَقِيلَ لَهُمْ تَعَالَوْاْ قَاتِلُواْ فِي سَبِيلِ الله أَوِ ادفعوا قَالُواْ لَوْ نَعْلَمُ قِتَالاً لاَّتَّبَعْنَاكُمْ } .
أى فعل - سبحانه - ما فعل فى أحد ليميز المؤمنين من المنافقين الذين قيل لهم من النبى صلى الله عليه وسلم ومن بعض أصحابه : تعالوا معنا لتقاتلوا فى سبيل الله ، فإن لم تقاتلوا فادفعوا أى فانضموا إلى صفوف المقاتلين ، فيكثر عددهم بكم فإن كثرة العدد تزيد من خوف الأعداء .
أو المعنى : تعالوا معنا لتقاتلوا من أجل إعلاء كلمة الله ، فإن لم تفعلوا ذلك لضعف إيمانكم ، واستيلاء الشهوات والأهواء على نفوسكم ، فلا أقل من أن تقاتلوا لتدفعوا عن أنفسكم وعن مدينتكم عار الهزيمة .
أى إن لم تقاتلوا طلبا لمرضاة الله ، فقالتوا دفاعا عن أوطانكم وعزتكم .
قال الجمل : وهذه الجملة وعى قوله - تعالى - { وَقِيلَ لَهُمْ تَعَالَوْاْ } تحتمل وجهين :
أحدهما : أن تكون مستأنفة ، أخبر الله أنهم مأمورون إما بالقتال وإما بالدفع أى تكثير سواد المسلمين - أى عددهم .
والثانى : أن تكون معطوفة على { نَافَقُواْ } فتكون داخلة فى خبر الموصول . أى وليعلم الذين حصل منهم النافق والقول المذكور وإنما لم يأت بحرف العطف بين تعالوا وقاتلوا ، لأن المقصود أن تكون كل من الجملتين مقصودة بذاتها .
وقوله { قَالُواْ لَوْ نَعْلَمُ قِتَالاً لاَّتَّبَعْنَاكُمْ } حكاية لردهم القبيح على من نصحهم بالبقاء مع المجاهدين .
أى قال المنافقون - وعم عبد الله بن أبى وأتباعه - لو نعلم أنكم تقاتلون حقا لسرنا معكم ، ولكن الذى نعلمه هو أنكم ستذهبون إلى أحد ثم تعودون بدون قتال لأى سبب من الأسباب .
أو المعنى - كما يقول الزمخشرى - " لو نعلم ما يصح أن يسمى قتالا { لاَّتَّبَعْنَاكُمْ } يعنون أن ما أنتم فيه لخطأ رأيكم وزللكم عن الصواب ليس بشىء ، ولا يقال لمثله قتال ، إنما هو إلقاء بالنفس إلى التهلكة ، لأن رأى عبد الله بن أبى كان فى الإقامة بالمدينة وما كان يستصوب الخروج " .
وقال ابن جرير : " خرج رسول الله صلى الله عليه وسلم إلى أحد فى ألف رجل من أصحابه وحتى إذا كانوا بالشوط بين أحد والمدينة ، انخذل عنهم عبد الله بن أبى ابن سلول بثلث الناس وقال . أطاعهم ، أى رسول الله صلى الله عليه وسلم فخرج وعصانى . والله ما ندرى علام نقتل أنفسنا ها هنا أيها الناس ؟ فرجع بمن اتبعه من الناس من قومه أهل النفاق والريب ، فاتبعهم عبد الله بن عمرو بن حرام - أخو بنى سلمة - يقول لهم . يا قوم أذكركم الله أن تخذلوا نبيكم وقومكم - وقاتلوا فى سبيل الله أو ادفعوا - فقالوا : لو نعلم أنكم تقاتلون ما أسلمناكم ، ولكننا لا نرى أن يكون قتال .
فلما استعصوا عليه ، وأبوا إلا الانصراف عن المؤمنين قال لهم . أبعدكم الله يا أعداء الله فسيغنى الله رسوله عنكم ، ثم مضى مع رسول الله صلى الله عليه وسلم .
هذا هو موقف المنافقين فى غزوة أحد ، وهو موقف يدل على فساد قلوبهم ، وخبث نفوسهم ، وجبنهم عن لقاء الأعداء .
ولقد كان المؤمنون الصادقون على نقيض ذلك ، فلقد خرجوا مع رسول الله صلى الله عليه وسلم وثبتوا إلى جانبه فكانوا ممن قال الله فيهم : { مِّنَ المؤمنين رِجَالٌ صَدَقُواْ مَا عَاهَدُواْ الله عَلَيْهِ فَمِنْهُمْ مَّن قضى نَحْبَهُ وَمِنْهُمْ مَّن يَنتَظِرُ وَمَا بَدَّلُواْ تَبْدِيلاً } ولقد حكى لنا التاريخ أن بعض المؤمنين الذين كانت لهم أعذارهم التى تسقط عنهم الخروج للجهاد ، كانوا يخرجون مع المجاهدين لتكثير عددهم .
فعن أنس بن مالك قال : " رأيت يوم القادسية - عبد الله بن أم مكتوم - وكان رجلا أعمى - وعليه درع يجر أطرافها وبيده راية سوداء ، فقيل له : أليس قد أنزل الله عذرك ؟ فقال : بلى ولكنى أحب أن أكثر المسلمين بنفسى .
هذا ، وقد أصدر - سبحانه - حكمه العادل على أولئك المنافقين فقال : { هُمْ لِلْكُفْرِ يَوْمَئِذٍ أَقْرَبُ مِنْهُمْ لِلإِيمَانِ يَقُولُونَ بِأَفْوَاهِهِم مَّا لَيْسَ فِي قُلُوبِهِمْ والله أَعْلَمُ بِمَا يَكْتُمُونَ } .
أى هم يوم أن قالوا هذا القول الباطل قد بينوا حالهم ، وهتكوا أستارهم وكشفوا عن نفاقهم لمن كان يظن أنهم مؤمنون ، لأنهم قبل أن يقولوا : " لو نعلم قتالا لاتبعناكم " كانوا يتظاهرون بالإيمان ، وما ظهرت منهم أمارة تؤذن بكفرهم ، فلما انخذلوا عن عسكر المؤمنين وقالوا ما قالوا تباعدوا بذلك عن الإيمان المظنون بهم واقتربوا من الكفر .
أو المعنى : هم لأهل الكفر أقرب نصرة منهم لأهل الإيمان ، لأن تقليلهم سواد المسلمين بالانخذال فيه تقوية للمشركين .
قال الجمل : " وقوله { هُمْ } مبتدأ ، وقوله { أَقْرَبُ } خبره ، وقوله { لِلْكُفْرِ } وقوله { لِلإِيمَانِ } متعلقان بأقرب ، لأن أفعل التفضيل فى قوة عاملين . فكأنه قيل : قربوا من الكفر وقربوا من الإيمان ، وقربهم الكفر فى هذا اليوم أشد لوجود العلامة وهى خذلانهم للمؤمنين " .
وقوله { يَقُولُونَ بِأَفْوَاهِهِم مَّا لَيْسَ فِي قُلُوبِهِمْ } جملة مستأنفة مبينة لحالهم مطلقا لا فى ذلك اليوم فحسب .
أى أن هؤلاء القوم من صفاتهم الذميمة أنهم يقولون بألسنتهم قولا يخالف ما انطوت عليه قلوبهم من كفر ، وما امتلأت به نفوسهم من بغضاء لكم - أيها المؤمنون - .
قال صاحب الكشاف : وذكر الأفواه مع القلوب تصوير لنفاقهم وأن إيمانهم موجود فى أفواههم معدوم فى قلوبهم ، بخلاف صفة المؤمنين فى مواطأة قلوبهم لأفواههم " .
وقوله { والله أَعْلَمُ بِمَا يَكْتُمُونَ } تذييل قصد به زجرهم وتوعدهم بسوء المصير بسبب نفاقهم وخداعهم .
أى والله - تعالى - أعلم منكم - أيها المؤمنون - بما يضمره هؤلاء المنافقون من كفر ومن كراهية لدينكم ، لأنه - سبحانه - يعلم ما ظهر وما خفى من أمورهم ، وقد كشف الله لكم أحوالهم لكى تحذروهم ، وسيحاسبهم يوم القيامة على أعمالهم ، وسينزل بهم ما يستحقونه من عذاب مهين .
وهو يشير في هذه الآية إلى موقف عبد الله بن أبي بن سلول ، وممن معه ، ويسميهم : " الذين نافقوا " . . وقد كشفهم الله في هذه الموقعة ، وميز الصف الإسلامي منهم . وقرر حقيقة موقفهم يومذاك : ( هم للكفر يومئذ أقرب منهم للإيمان ) . . وهم غير صادقين في احتجاجهم بأنهم يرجعون لأنهم لا يعلمون أن هناك قتالا سيكون بين المسلمين والمشركين . فلم يكن هذا هو السبب في حقيقة الأمر ، وإنما هم : ( يقولون بأفواههم ما ليس في قلوبهم ) . . فقد كان في قلوبهم النفاق ، الذي لا يجعلها خالصة للعقيدة ، وإنما يجعل أشخاصهم واعتباراتها فوق العقيدة واعتباراتها . فالذي كان برأس النفاق - عبد الله بن أبي - أن رسول الله [ ص ] لم يأخذ برأيه يوم أحد . والذي كان به قبل هذا أن قدومه [ ص ] إلى المدينة بالرسالة الإلهية حرمه ما كانوا يعدونه له من الرياسة فيهم ، وجعل الرياسة لدين الله ، ولحامل هذا الدين ! . . فهذا الذي كان في قلوبهم ، والذي جعلهم يرجعون يوم أحد ، والمشركون على أبواب المدينة ، وجعلهم يرفضون الاستجابة إلى المسلم الصادق عبد الله بن عمرو بن حرام ، وهو يقول لهم : ( تعالوا قاتلوا في سبيل الله أو ادفعوا ) محتجين بأنهم لا يعلمون أن هناك قتالا ! وهذا ما فضحهم الله به في هذه الآية :
تفسير مقاتل بن سليمان 150 هـ :
ثم قال: {وليعلم}، يقول: وليرى إيمانكم، يعني {المؤمنين} صبرهم، {وليعلم}، يعني وليرى {الذين نافقوا} في إيمان أهل الشك عند البلاء والشدة، يعني عبد الله بن أبي وأصحابه المنافقين، {وقيل لهم تعالوا قاتلوا في سبيل الله أو ادفعوا} المشركين عن دياركم وأولادكم، وذلك أن عبد الله بن [عمرو بن حرام] الأنصاري يوم أحد دعا عبد الله بن أبي يوم أحد للقتال، فقال عبد الله بن أبي: {قالوا لو نعلم قتالا}، يقول: لو نعلم أن يكون اليوم قتالا {لاتبعناكم}، يقول الله عز وجل: لو استيقنوا بالقتال ما تبعوكم، {هم للكفر يومئذ أقرب منهم للإيمان يقولون بأفواههم ما ليس في قلوبهم والله أعلم بما يكتمون}، يعني من الكذب...
جامع البيان عن تأويل آي القرآن للطبري 310 هـ :
{وَقِيلَ لَهمْ تَعَالَوْا قاتِلُوا فِي سَبِيلِ اللّهِ أو ادْفَعوا قالوا لَوْ نَعْلَمْ قِتالاً لاتّبَعنْاكّمْ هُمْ للْكُفْرِ يَوْمَئِذٍ أقْرَبُ مِنْهمْ للإيِمَانِ يَقُولُونَ بأفْوَاهِهمْ ما لَيْسَ فِي قلُوبِهِمْ وَاللّهُ أعْلَمُ بِمَا يَكْتُمُونَ}. يعني تعالى ذكره بذلك: عبد الله بن أبيّ ابن سلول المنافق وأصحابَهُ الذين رجعوا عن رسول الله صلى الله عليه وسلم وعن أصحابه، حين سار نبيّ الله صلى الله عليه وسلم إلى المشركين بأُحد لقتالهم، فقال لهم المسلمون: تعالوا قاتلوا المشركين معنا، أو ادفعوا بتكثيركم سوادنا! فقالوا: لو نعلم أنكم تقاتلون لسرنا معكم إليهم، ولكنا معكم عليهم، ولكن لا نرى أنه يكون بينكم وبين القوم قتال. فأبدوا من نفاق أنفسهم ما كانوا يكتمونه، وأبدوا بألسنتهم بقولهم: {لَوْ نَعْلَمُ قِتالاً لاتّبَعْناكُمْ} غير ما كانوا يكتمونه ويخفونه، من عداوة رسول الله صلى الله عليه وسلم وأهل الإيمان به... واختلفوا في تأويل قوله {أوِ ادْفَعُوا} فقال بعضهم: معناه: أو كثّروا، فإنكم إذا كثرتم دفعتم القوم...
وقال آخرون: معنى ذلك: أو رابطوا إن لم تقاتلوا...
وأما قوله: {وَاللّهُ أعْلَمُ بِمَا يَكْتُمونَ} فإنه يعني به: والله أعلم من هؤلاء المنافقين الذين يقولون من العداوة والشنآن، وأنهم لو علموا قتالاً ما تبعوهم، ولا دافعوا عنهم، وهو تعالى ذكره محيط بما يخفونه من ذلك، مطلع عليه، ومحصيه عليهم حتى يهتك أستارهم في عاجل الدنيا، فيفضحهم به، ويصليهم به الدرك الأسفل من النار في الآخرة.
النكت و العيون للماوردي 450 هـ :
{هُمْ لِلْكُفْرِ يومئِذٍ أَقْربُ مِنهُم لِلإِيمَانِ} لأنهم بإظهار الإيمان لا يحكم عليهم بحكم الكفار، وقد كانوا قبل ذلك بإظهار الإيمان أقرب إلى الإيمان، ثم صاروا بما فعلوه أقرب إلى الكفر من الإيمان. {يَقُولُونَ بِأَفْوَاهِهِم مَّا لَيْسَ فِي قُلُوبِهِمْ} يعني ما يظهرونه من الإسلام وليس في قلوبهم منه شيء. وإنما قال: {يَقُولُونَ بِأَفْوَاهِهِم} وإن كان القول لا يكون إلا به لأمرين: أحدهما: التأكيد. والثاني: أنه ربما نسب القول إلى الساكت مجازاً إذ كان به راضياً...
الكشاف عن حقائق التنزيل للزمخشري 538 هـ :
{وَلِيَعْلَمَ} وهو كائن ليتميز المؤمنون والمنافقون، وليظهر إيمان هؤلاء ونفاق هؤلاء {وَقِيلَ لَهُمْ} من جملة الصلة عطف على نافقوا، وإنما لم يقل فقالوا لأنه جواب لسؤال اقتضاه دعاء المؤمنين لهم إلى القتال، كأنه قيل: فماذا قالوا لهم. فقيل: قالوا: لو نعلم. ويجوز أن تقتصر الصلة على {نَافَقُواْ}، ويكون {وَقِيلَ لَهُمْ} كلاما مبتدأ قسم الأمر عليهم بين أن يقاتلوا للآخرة كما يقاتل المؤمنون، وبين أن يقاتلوا إن لم يكن بهم غم الآخرة دفعاً عن أنفسهم وأهليهم وأموالهم، فأبوا القتال وجحدوا القدرة عليه رأساً لنفاقهم ودغلهم وذلك ما روى أن عبد الله بن أبيّ انخذل مع حلفائه، فقيل له، فقال ذلك. وقيل: {أَوِ ادفعوا} العدوّ بتكثيركم سواد المجاهدين وإن لم تقاتلوا لأنّ كثرة السواد مما يروع العدو ويكسر منه.
وعن سهل بن سعد الساعدي وقد كف بصره: لو أمكنني لبعت داري ولحقت بثغر من ثغور المسلمين فكنت بينهم وبين عدوهم. قيل وكيف وقد ذهب بصرك؟ قال لقوله: {أَوِ ادفعوا} أراد: كثروا سوادهم.
ووجه آخر وهو أن يكون معنى قولهم: {لَوْ نَعْلَمُ قِتَالاً} لو نعلم ما يصح أن يسمى قتالاً {لاتبعناكم} يعنون أن ما أنتم فيه لخطأ رأيكم وزللكم عن الصواب ليس بشيء، ولا يقال لمثله قتال، إنما هو إلقاء بالأنفس إلى التهلكة، لأنّ رأي عبد الله كان في الإقامة بالمدينة وما كان يستصوب الخروج {هُمْ لِلْكُفْرِ يَوْمَئِذٍ أَقْرَبُ مِنْهُمْ للإيمان} يعني أنهم قبل ذلك اليوم كانوا يتظاهرون بالإيمان وما ظهرت منهم أمارة تؤذن بكفرهم، فلما انخذلوا عن عسكر المؤمنين وقالوا ما قالوا، تباعدوا بذلك عن الإيمان المظنون بهم واقتربوا من الكفر. وقيل: هم لأهل الكفر أقرب نصرة منهم لأهل الإيمان، لأنّ تقليلهم سواد المسلمين بالانخذال تقوية للمشركين {يَقُولُونَ بأفواههم} لا يتجاوز إيمانهم أفواههم ومخارج الحروف منهم ولا تعي قلوبهم منه شيئاً. وذكر الأفواه مع القلوب تصوير لنفاقهم، وأنّ إيمانهم موجود في أفواههم معدوم في قلوبهم، خلاف صفة المؤمنين في مواطأة قلوبهم لأفواههم {والله أَعْلَمُ بِمَا يَكْتُمُونَ} من النفاق. وبما يجري بعضهم مع بعض من ذمّ المؤمنين وتجهيلهم وتخطئة رأيهم والشماتة بهم وغير ذلك، لأنكم تعلمون بعض ذلك علماً مجملاً بأمارات، وأنا أعلم كله علم إحاطة بتفاصيله وكيفياته...
المحرر الوجيز في تفسير الكتاب العزيز لابن عطية 542 هـ :
قوله تعالى: {وليعلم} معناه: ليكون العلم مع وجود المؤمنين والمنافقين: أي مساوقين للعلم الذي لم يزل ولا يزال. واللام في قوله: {ليعلم} متعلقة بفعل مقدر في آخر الكلام... واختلف الناس في معنى قوله: {أو ادفعوا} فقال السدي وابن جريج وغيرهما معناه: كثروا السواد وإن لم تقاتلوا، فيندفع القوم لكثرتكم، وقال أبو عون الأنصاري: معناه رابطوا، وهذا قريب من الأول، ولا محالة أن المرابط مدافع، لأنه لولا مكان المرابطين في الثغور لجاءها العدو، والمكثر للسواد مدافع، وقال أنس بن مالك: رأيت يوم القادسية عبد الله ابن أم مكتوم الأعمى، وعليه درع يجر أطرافها وبيده راية سوداء، فقيل له: أليس قد أنزل الله عذرك؟ قال: بلى، ولكني أكثر المسلمين بنفسي، وروي أنه قال: فكيف بسوادي في سبيل الله، وذهب بعض المفسرين إلى أن قول عبد الله بن عمرو: {أو ادفعوا}، إنما هو استدعاء القتال حمية، لأنه دعاهم إلى القتال في سبيل الله، وهو أن تكون كلمة الله هي العليا، فلما رأى أنهم ليسوا أهل ذلك، عرض عليهم الوجه الذي يحشمهم ويبعث الأنفة، أي أو قاتلوا دفاعاً عن الحوزة، ألا ترى أن قزمان قال: والله ما قاتلت إلا على أحساب قومي، وألا ترى أن بعض الأنصار قال يوم -أحد- لما رأى قريشاً قد أرسلت الظهر في زروع قناة قال: أترعى زروع بني قيلة ولما نضارب؟ وكان النبي صلى الله عليه وسلم قد أمر أن لا يقاتل أحد حتى يأمره بالقتال، فكأن عبد الله بن عمرو بن حرام دعاهم إلى هذا المقطع العربي الخارج عن الدين والقتال في سبيل الله.
وذهب جمهور المفسرين إلى أن قوله: {أقرب} مأخوذ من القرب ضد البعد، وسدت -اللام- في قوله: {للكفر}، و {للإيمان} -مسد إلى، وحكى النقاش: أن قوله {أقرب} مأخوذ من القرب بفتح القاف والراء وهو الطلب، والقارب طالب الماء، وليلة القرب ليلة الورد، فاللفظة بمعنى أطلب، واللام متمكنة على هذا القول، وقوله: {بأفواههم} تأكيد، مثل يطير بجناحيه، وقوله: {ما ليس في قلوبهم} يريد ما يظهرون من الكلمة الحاقنة لدمائهم، ثم فضحهم تعالى بقوله: {والله أعلم بما يكتمون} أي من الكفر وعداوة الدين وفي الكلام توعد لهم.
[نص مكرر لاشتراكه مع الآية 166]
اعلم أن هذا متعلق بما تقدم من قوله: {أو لما أصابتكم مصيبة} فذكر في هذه الآية الأولى أنها أصابتهم بذنبهم ومن عند أنفسهم، وذكر في هذه الآية أنها أصابتهم لوجه آخر، وهو أن يتميز المؤمن عن المنافق.
المسألة الأولى: قوله: {يوم التقى الجمعان} المراد يوم أحد، والجمعان: أحدهما جمع المسلمين أصحاب محمد صلى الله عليه وسلم، والثاني: جمع المشركين الذين كانوا مع أبي سفيان. المسألة الثانية: في قوله: {فبإذن الله} وجوه:
الأول: أن إذن الله عبارة عن التخلية وترك المدافعة، استعار الإذن لتخلية الكفار فإنه لم يمنعهم منهم ليبتليهم، لأن الإذن في الشيء لا يدفع المأذون عن مراده، فلما كان ترك المدافعة من لوازم الإذن أطلق لفظ الإذن على ترك المدافعة على سبيل المجاز.
الوجه الثاني: فبإذن الله: أي بعلمه كقوله: {وأذان من الله} أي إعلام، وكقوله: {آذناك ما منا من شهيد} وقوله: {فأذنوا بحرب من الله} وكل ذلك بمعنى العلم. طعن الواحدي فيه فقال: الآية تسلية للمؤمنين مما أصابهم ولا تقع التسلية إلا إذا كان واقعا بعلمه، لأن علمه عام في جميع المعلومات بدليل قوله تعالى: {وما تحمل من أنثى ولا تضع إلا بعلمه}.
الوجه الثالث: أن المراد من الإذن الأمر، بدليل قوله: {ثم صرفكم عنهم ليبتليكم} والمعنى أنه تعالى لما أمر بالمحاربة، ثم صارت تلك المحاربة مؤدية إلى ذلك الانهزام، صح على سبيل المجاز أن يقال حصل ذلك بأمره.
الوجه الرابع: وهو المنقول عن ابن عباس: أن المراد من الإذن قضاء الله بذلك وحكمه به وهذا أولى لأن الآية تسلية للمؤمنين مما أصابهم، والتسلية إنما تحصل إذا قيل إن ذلك وقع بقضاء الله وقدره، فحينئذ يرضون بما قضى الله. ثم قال: {وليعلم المؤمنين وليعلم الذين نافقوا} والمعنى ليميز المؤمنين عن المنافقين.
المسألة الأولى: قال الواحدي: يقال: نافق الرجل فهو منافق إذا أظهر كلمة الإيمان وأضمر خلافها، والنفاق اسم إسلامي اختلف في اشتقاقه على وجوه:
الأول: قال أبو عبيدة: هو من نافقاء اليربوع، وذلك لأن جحر اليربوع له بابان: القاصعاء والنافقاء، فإذا طلب من أيهما كان خرج من الآخر فقيل للمنافق أنه منافق، لأنه وضع لنفسه طريقين، إظهار الإسلام وإضمار الكفر، فمن أيهما طلبته خرج من الآخر.
الثاني: قال ابن الأنباري: المنافق من النفق وهو السرب، ومعناه أنه يتستر بالإسلام كما يتستر الرجل في السرب.
الثالث: أنه مأخوذ من النافقاء، لكن على غير هذا الوجه الذي ذكره أبو عبيدة، وهو أن النافقاء جحر يحفره اليربوع في داخل الأرض، ثم إنه يرقق بما فوق الجحر، حتى إذا رابه ريب دفع التراب برأسه وخرج، فقيل للمنافق منافق لأنه يضمر الكفر في باطنه، فإذا فتشته رمى عنه ذلك الكفر وتمسك بالإسلام.
المسألة الثانية: قوله: {وليعلم المؤمنين} ظاهره يشعر بأنه لأجل أن يحصل له هذا العلم أذن في تلك المصيبة، وهذا يشعر بتجدد علم الله، وهذا محال في حق علم الله تعالى، فالمراد ههنا من العلم المعلوم، والتقدير: ليتبين المؤمن من المنافق، وليتميز أحدهما عن الآخر حصل الإذن في تلك المصيبة، وقد تقدم تقرير هذا المعنى في الآيات المتقدمة والله أعلم.
المسألة الثالثة: في الآية حذف، تقديره: وليعلم إيمان المؤمنين ونفاق المنافقين. فإن قيل: لم قال: {وليعلم المؤمنين وليعلم الذين نافقوا} ولم يقل: وليعلم المنافقين. قلنا: الاسم يدل على تأكيد ذلك المعنى، والفعل يدل على تجدده، وقوله: {وليعلم المؤمنين} يدل على كونهم مستقرين على إيمانهم متثبتين فيه، وأما {نافقوا} فيدل على كونهم إنما شرعوا في الأعمال اللائقة بالنفاق في ذلك الوقت...
ثم قال تعالى: {وقيل لهم تعالوا قاتلوا في سبيل الله أو ادفعوا} وفيه مسائل:
المسألة الأولى: في أن هذا القائل من هو؟ وجهان: الأول: قال الأصم: أنه الرسول عليه الصلاة والسلام كان يدعوهم إلى القتال. الثاني: روي أن عبد الله بن أبي بن سلول لما خرج بعسكره إلى أحد قالوا: لم نلق أنفسنا في القتل، فرجعوا وكانوا ثلثمائة من جملة الألف الذين خرج بهم رسول الله صلى الله عليه وسلم، فقال لهم عبد الله بن عمرو بن حرام أبو جابر بن عبد الله الأنصاري: أذكركم الله أن تخذلوا نبيكم وقومكم عند حضور العدو، فهذا هو المراد من قوله تعالى: {وقيل لهم} يعني قول عبد الله هذا.
المسألة الثانية: قوله: {قاتلوا في سبيل الله أو ادفعوا} يعني إن كان في قلبكم حب الدين والإسلام فقاتلوا للدين والإسلام، وإن لم تكونوا كذلك، فقاتلوا دفعا عن أنفسكم وأهليكم وأموالكم، يعني كونوا إما من رجال الدين، أو من رجال الدنيا. قال السدي وابن جريج: ادفعوا عنا العدو بتكثير سوادنا إن لم تقاتلوا معنا، قالوا: لأن الكثرة أحد أسباب الهيبة والعظمة، والأول هو الوجه.
المسألة الثالثة: قوله تعالى: {قاتلوا في سبيل الله أو ادفعوا} تصريح بأنهم قدموا طلب الدين على طلب الدنيا، وذلك يدل على أن المسلم لا بد وأن يقدم الدين على الدنيا في كل المهمات. ثم قال تعالى: {قالوا لو نعلم قتالا لاتبعناكم هم للكفر يومئذ أقرب منهم للإيمان} وهذا هو الجواب الذي ذكره المنافقون وفيه وجهان: الأول: أن يكون المراد أن الفريقين لا يقتتلان البتة، فلهذا رجعنا.
الثاني: أن يكون المعنى لو نعلم ما يصلح أن يسمى قتالا لاتبعناكم، يعني أن الذي يقدمون عليه لا يقال له قتال، وإنما هو إلقاء النفس في التهلكة لأن رأي عبد الله كان في الإقامة بالمدينة، وما كان يستصوب الخروج. واعلم أنه إن كان المراد من هذا الكلام هو الوجه الأول فهو فاسد، وذلك لأن الظن في أحوال الدنيا قائم مقام العلم، وأمارات حصول القتال كانت ظاهرة في ذلك اليوم، ولو قيل لهذا المنافق الذي ذكر هذا الجواب: فينبغي لك لو شاهدت من شهر سيفه في الحرب أن لا تقدم على مقاتلته لأنك لا تعلم منه قتالا، وكذا القول في سائر التصرفات في أمور الدنيا، بل الحق أن الجهاد واجب عند ظهور أمارات المحاربة، ولا أمارات أقوى من قربهم من المدينة عند جبل أحد، فدل ذكر هذا الجواب على غاية الخزي والنفاق، وإنه كان غرضهم من ذكر هذا الجواب إما التلبيس، وإما الاستهزاء. وأما إن كان مراد المنافق هو الوجه الثاني فهو أيضا باطل، لأن الله تعالى لما وعدهم بالنصرة والإعانة لم يكن الخروج إلى ذلك القتال إلقاء للنفس في التهلكة. ثم إنه بين حالهم عندما ذكروا هذا الجواب فقال: {هم للكفر يومئذ أقرب منهم للإيمان} وفيه مسائل:
المسألة الأولى: في التأويل وجهان:
الأول: أنهم كانوا قبل هذه الواقعة يظهرون الإيمان من أنفسهم وما ظهرت منهم أمارة تدل على كفرهم، فلما رجعوا عن عسكر المؤمنين تباعدوا بذلك عن أن يظن بهم كونهم مؤمنين. واعلم أن رجوعهم عن معاونة المسلمين دل على أنهم ليسوا من المسلمين، وأيضا قولهم: {لو نعلم قتالا لاتبعناكم} يدل على أنهم ليسوا من المسلمين، وذلك لأنا بينا أن هذا الكلام يدل إما على السخرية بالمسلمين، وإما على عدم الوثوق بقول النبي صلى الله عليه وسلم وكل واحد منهما كفر.
الوجه الثاني: في التأويل أن يكون المراد أنهم لأهل الكفر أقرب نصرة منهم لأهل الإيمان، لأن تقليلهم سواد المسلمين بالانعزال يجر إلى تقوية المشركين.
المسألة الثانية: قال أكثر العلماء: إن هذا تنصيص من الله تعالى على أنهم كفار، قال الحسن إذا قال الله تعالى: {أقرب} فهو اليقين بأنهم مشركون، وهو مثل قوله: {مائة ألف أو يزيدون} فهذه الزيادة لا شك فيها، وأيضا المكلف لا يمكن أن ينفك عن الإيمان والكفر، فلما دلت الآية على القرب لزم حصول الكفر...
ثم قال تعالى: {يقولون بأفواههم ما ليس في قلوبهم} والمراد أن لسانهم مخالف لقلبهم، فهم وإن كانوا يظهرون الإيمان باللسان لكنهم يضمرون في قلوبهم الكفر. ثم قال: {والله أعلم بما يكتمون}. فإن قيل: إن المعلوم إذا علمه عالمان لا يكون أحدهما أعلم به من الآخر، فما معنى قوله: {والله أعلم بما يكتمون}. قلنا: المراد أن الله تعالى يعلم من تفاصيل تلك الأحوال ما لا يعلمه غيره.
تفسير المنار لرشيد رضا 1354 هـ :
ليبين في هذه الآية وما بعدها حال المنافقين مع المؤمنين كما بين من قبل حال الكافرين معهم، والذين نافقوا هم الذين أظهروا الإيمان وتبطنوا الكفر... والمعنى وليعلم حال الذين نافقوا، أيْ وقع منهم النفاق في هذه الواقعة ولم يقل المنافقين كما قال المؤمنين لأن النفاق لم يكن صفة ثابتة لهم كثبوت إيمان المؤمنين، فإن منهم من تاب بعد ذلك وصدق في إيمانه. أي ليظهر علمه بذلك فيترتب عليه مقتضاه من العبرة بسوء عاقبة المنافقين حتى فيما ظنوه حزما وتوقيا للمكروه واحتياطا في الأمر كالعبرة بحسن عاقبة الصادقين حتى فيما ظنوه شرا وسوءا وكرهوا حصوله.
أما قوله تعالى: (وقيل لهم تعالوا قاتلوا في سبيل الله أو ادفعوا) فمعناه أن هؤلاء الذين نافقوا قد دعوا إلى القتال على أنه في سبيل الله أي دفاع عن الحق والدين وأهله ابتغاء مرضاة الله وإقامة دينه لا للحمية والهوى ولا ابتغاء الكسب والغنيمة، أو على أنه دفاع عن أنفسهم وأهلهم ووطنهم فراوغوا وحاولوا، وقعدوا وتكاسلوا (قالوا لو نعلم قتالا لاتبعناكم) أي لو نعلم أنكم تلقون قتالا في خروجكم لاتبعناكم ولكننا نرى أن الأمر ينتهي بغير قتال، نزل ذلك في عبد الله بن أبي بن سلول وأصحابه الذين خرجوا من المدينة في جملة الألف الذين خرج بهم رسول الله صلى الله عليه وسلم ثم رجعوا من الطريق وهم ثلاث مئة ليخذلوا المسلمين ويوقعوا فيهم الفشل وقد تقدم ذكر ذلك في مجمل القصة عند الشروع في تفسير الآيات الواردة فيها. قال تعالى: (هم للكفر يومئذ أقرب منهم للإيمان) أي أقرب إلى الكفر منهم إلى الإيمان يوم قالوا ذلك القول لظهور صفته فيهم وانطباق آيته عليهم. فإن القعود عن الجهاد في سبيل الله والدفاع عن الوطن والأمة عند هجوم الأعداء من الفرائض التي لا يتعمد المؤمن تركها كما يعلم من الآيات الكثيرة في هذا السياق وغيره ومنها ما هو صريح في جعله من الصفات التي حصر الإيمان في المتصفين بها كقوله عز وجل: (إنما المؤمنون الذين آمنوا بالله ورسوله ثم لم يرتابوا وجاهدوا بأموالهم وأنفسهم في سبيل الله أولئك هم الصادقون) [الحجرات: 15].
قال الأستاذ الإمام: ليس قوله "يومئذ "للاحتراس بل لرفع شأن هذا اليوم الذي حصل فيه التمييز بين الفريقين وقال إنهم أقرب إلى الكفر ولم يقل إنهم كفار مع علمه بحالهم تأديبا لهم ومنعا للتهجم على التكفير بالعلامات والقرائن. أقول: يعني أن هذا الذي صدر منهم وإن كان من شأنه ألا يصدر إلا من الكافرين لا يعد بحد ذاته كفرا صريحا في حكم الظاهر لاحتمال العذر والتأويل، ولو سجل عليهم به ظاهرا لوجب أن يعاملوا معاملة الكفار، مع أنه صلى الله عليه وسلم كان يعاملهم بعد ذلك معاملة المؤمنين حتى أنه صلى على جنازة رئيسهم عبد الله بن أبي بعد بضع سنين من واقعة أحد، وحينئذ فضحهم الله تعالى في سورة التوبة بعد ما كان من ظهور كفرهم ونفاقهم في غزوة تبوك وأنزل عليه (ولا تصل على أحد منهم مات أبدا ولا تقم على قبره إنهم كفروا بالله ورسوله) [التوبة: 84].
فحاصل معنى عبارة الأستاذ الإمام أنه تعالى كان يعلم أنهم يبطنون الكفر وأن امتناعهم عن الجهاد عمل من أعمال الكفر ولكنه لم يصرح به في الآية بل صرح بما يومئ إليه تأديبا عسى أن يتوب منهم من لم يتمكن الكفر في قلبه ومنعا للناس من الهجوم على التكفير. فليعتبر بهذا متفقهة زماننا الذين يسارعون في تكفير من يخالف شيئا من تقاليدهم وعاداتهم وإن كان من أهل البصيرة في دينه وإيمانه والتقوى في عمله ولم يكونوا على شيء من ذلك.
وقوله تعالى: (يقولون بأفواههم ما ليس في قلوبهم) جملة مستأنفة مبينة لحالهم في مثل قولهم هذا أي إن الكذب دأبهم وعادتهم يصدر عنهم على الدوام والاستمرار ليستروا بذلك ما يضمرون، ويؤيدوا به ما يظهرون، وهل يكون نفاق بغير كذب؟ وفي تقييد القول بالأفواه توضيح لنفاقهم بمخالفة ظاهرهم لباطنهم وفي التنزيل آيات أخرى في بيان حالهم هذه. قال (والله أعلم بما يكتمون) من الكفر والكيد للمسلمين وتربص الدوائر بهم فهو يبين في كل حين من مخبآت سرائرهم ما تقتضيه الحال وتقوم به المصلحة ثم هو الذي يعاقبهم به في الدنيا والآخرة.
ومن مباحث اللفظ في الآية أن قوله تعالى: (وقيل لهم تعالوا قاتلوا) فيه وجهان أحدهما أنه عطف على "نافقوا" وهو الظاهر المتبادر، والثاني أنه استئناف وقوله قبله (وليعلم الذين نافقوا) قد تم به الكلام السابق. قالوا فالواو في قوله: (وقيل لهم) هي التي يسمونها واو الاستئناف على هذا القول.
وقد قال الأستاذ الإمام في هذه الواو ما حاصله: وقد خلط بعضهم في الكلام عن هذه الواو لعدم فهم المراد منها وليس هو بمعنى الاستئناف المشهور وإنما تأتي لوصل كلام بكلام آخر مباين للأول تمام المباينة من جهة ذاته، ومرتبط به من جهة السياق والغرض، ففي مثل هذه الحال إذا فصل الثاني من الأول يكون في الفصل البحت وحْشةٌ على السمع وإيهام للذهن أن الغرض الذي سبق له الكلام قد انتهى فيجيء المتكلم بالواو ليستمر الأنس بالكلام في الغرض الواحد ويظل الذهن منتظرا لغاية الفائدة والغرض منه فكأن المتكلم عند نطقه بالجملة المستأنفة بالواو للانتقال من جزء من كلامه قد تم إلى جزء آخر يراد به مثل ما يراد مما قبله، يقول: هذا جزء من الكلام يثبت غرضي ويبين مرادي وثم جزء آخر منه وهو كذا. وهذا الشرح مبني على كون الجملة المستأنفة لا اشتراك بينها وبين ما قبلها بوجه ما وإنما يقرنها بها السياق والغرض، وفيها رأي آخر وهو أنها عطف على معنى خفي فيما قبلها غير مذكور ولا معين وإنما ينتزع من الكلام انتزاعا، فلما كان كذلك لم يقولوا إن الواو فيها عاطفة إذ لا معطوف عليه في الكلام وقالوا للاستئناف مراعاة لصورة اللفظ...
التحرير والتنوير لابن عاشور 1393 هـ :
والمراد بالدفع حِراسة الجيش وهو الرباط أي: ادفعوا عنّا من يريدنا من العدوّ فلمّا قال عبد الله بن عمر بن حرام ذلك أجابه عبد الله بن أبي وأصحابه بقولهم: لَوْ نَعْلَمُ قتالاً لاتَّبعناكم، أي لم نعلم أنّه قتال... ومعنى {هم للكفر يومئذٍ أقرب منهم للإيمان} أنّ ما يُشاهد من حالهم يومئذ أقرب دلالة على أنهم يُبطنون الكفر مِن دلالة أقوالهم: إنَّا مسلمون، واعتذارِهم بقولهم: لو نعلم قتالاً لاتّبعناكم. أي إنّ عذرهم ظاهر الكذب، وإرادة تفشيل المسلمين، والقرب مجاز في ظهور الكفر عليهم. ويتعلّق كلّ من المجرورين في قوله: {منهم للإيمان} بقوله: {أقرب} لأنّ {أقرب} تفضيل يقتضي فاضلاً ومفضولاً، فلا يقع لبْس في تعلّق مجرورين به لأنّ السامع يَردّ كل مجرور إلى بعض معنى التفضيل. وقوله: {يقولون بأفواههم ما ليس في قلوبهم} استئناف لبيان مغزى هذا الاقتراب، لأنّهم يبدون من حالهم أنّهم مؤمنون، فكيف جُعلوا إلى الكفر أقربَ، فقيل: إنّ الذي يُبدونه ليس موافقاً لما في قلوبهم، وفي هذا الاستئناف ما يمنع أن يكون المراد من الكفر في قوله: {هم للكفر} أهلَ الكفر.
زهرة التفاسير - محمد أبو زهرة 1394 هـ :
ومرمى النص الكريم أن تلك الشدة التي نزلت تميز بها الصادقون من أهل الإيمان من المنافقين الذين كانوا يبثون روح الهزيمة في أوساط المؤمنين كما قال تعالى: {ما كان الله ليذر المؤمنين على ما أنتم عليه حتى يميز الخبيث من الطيب...179} [آل عمران] لقد دخل المنافقون صفوف المؤمنين بعد غزوة بدر، فكان لا بد أن يميزوا ويعرفوا ليتوقى المؤمنون شرهم، ولا يكاد ذلك إلا بتجربة تعرك فيها النفوس، وتلك التجربة كانت في غزوة أحد، فعلم أمر أهل النفاق من بعدها، حتى صاروا يعرفون بسيماهم وأقوالهم وأفعالهم، وقد عبر الله سبحانه عن المنافقين بقوله: {وليعلم الذين نافقوا} لبيان أن النفاق حدث جديد، قد وجد في صفوف المؤمنين، ولم يكن قبل بدر الكبرى، فالقوة في بدر قد أوجدته، والتجربة القاسية في أحد قد كشفته. ولقد قال سبحانه وتعالى في مظاهر المنافقين، وأوصافهم، وأحوالهم، وإعراضهم عن الجماعة في الشدة: {وقيل لهم تعالوا في سبيل الله او ادفعوا قالوا لو نعلم قتالا لاتبعناكم} هذه الجملة السامية فيها بيان حال أولئك المنافقين، وعدم مجاوبتهم نفسيا مع المؤمنين، وقد أشار سبحانه بهذا إلى انهم كانوا معوقين في ابتداء القتال، قيل لهم من النبي صلى الله عليه وسلم ومن الذين يعاشرونهم ويجاورونهم، ومن أهليهم وعشيرتهم: تعالوا، أي تساموا بأنفسكم وارتفعوا لتقاتلوا في سبيل الله تعالى مجاهدين مبتغين مرضاته بالدفاع عن الحق، فإن لم تسم نفوسكم إلى حد القتال طلبا لمرضاة الله، فلتقاتلوا دفاعا عن الوطن والعشيرة.
فالمعنى: قاتلوا لرضا الله، او ادفعوا عن أنفسكم عار الذل وعار سيطرة قريش عليكم عن لم تقاتلوا... ولكنهم امتنعوا لامتلاء قلوبهم بالنفاق. {قالوا لو نعلم قتالا لاتبعناكم}. و ظاهر المعنى أنهم يوهمون دعاتهم للخروج معهم أنهم لا يعتقدون أن قتالا يقع، وأن الأمر ينتهي بغير قتال...
ثم ختم الله سبحانه النص الكريم بقوله: {والله أعلم بما يكتمون}. أي أنهم يخادعون المؤمنين، ويبدون ما لا يخفون، ويحسبون أنهم يخادعون الله والذين آمنوا، وما يخدعون إلا أنفسهم وما يشعرون، فالله سبحانه وتعالى عليم بالسرائر وما يبيتونه للمؤمنين، وقد كشف الله تعالى بعض شئونهم، ليحترس المؤمنون منهم، ولكيلا ينخدعوا بهم، ولكي يتجنبوهم في الشدائد حتى لا يحدث لهم بسببهم محنة، وإن أولئك قد كتموا الرغبة الشديدة في الكيد للنبي وأصحابه، وأنهم كلما ثار حقدهم على النبي صلى الله عليه وسلم ازداد كيدهم، وما كان يثير حقدهم إلا نصر يؤيد الله تعالى به نبيه، وقد كتموا موالاتهم لأعداء الإسلام من اليهود وغيرهم، وإن أولئك المنافقين لا يكتفون بتخذيلهم، والمعركة قد ابتدأت، بل يظهرون الشماتة بعد أن وقعت، لكي يثبطوا المؤمنين عما يكون من قتال من بعد...
تفسير من و حي القرآن لحسين فضل الله 1431 هـ :
وهذا نموذج من النماذج التي كانت تتحرّك في المجتمع الإسلامي لتثير فيه الفتنة والخوف والتردّد، وتشوّه له وجه الصورة الحقيقيّة للأشياء، وتعطّل كثيراً من طاقاته وخطواته العمليّة السائرة نحو الهدف... وقد جاء القرآن ليكشف لنا عن هؤلاء في ما يذكره لنا من كلماتهم ومواقفهم، لنتعرّف من ذلك على ملامحهم، لنرصد تحرّكاتهم في ما نعيش الآن من حركة الحاضر، وما نريد أن نعايشه من أوضاع المستقبل، لأنَّ أسلوب القرآن من خلال ما يقدّمه إلينا من نماذج، يثير أمامنا التجربة في الماضي، لنتعلّم من وحيها كيف نتجاوز سلبياتها ونحتوي إيجابياتها في ما نستقبل من تجارب الحياة المماثلة...
تعرية الواقع المنافق: [وليعلَمَ] اللّه [الذين نافقوا] وأبطنوا الكفر وأظهروا الإيمان فكانوا جزءاً من المجتمع الإسلامي، فهم يتحرّكون في داخله كأنَّهم جماعة إسلامية مؤمنة في اهتماماتها بالواقع الإسلامي، وفي حديثها المتنوّع عن إيجابيات حركة المسلمين وسلبياتها، في الحرب والسلم، كما لو كانت المسألة لديهم مسألة الغيرة على الإسلام والمسلمين، وربَّما كان حديثهم حول المصلحة الإسلامية أكثر حماساً وانفعالاً من المسلمين الآخرين، للتدليل على إخلاصهم، فيخدعون البسطاء الطيبين من المسلمين عندما يمنحونهم الثقة، فيستمعون إليهم، ويأخذون بآرائهم وأفكارهم، فيؤدّي ذلك إلى اهتزاز المجتمع الإسلامي بفعل خططهم الخبيثة التي تختفي وراءها أحقادهم الثقافية، فيخيل للمؤمنين أنَّها صادرة عن غيرة على الإسلام وإخلاص للمسلمين. فكانت هذه الآية من أجل تعرية الواقع الذي يختزنونه في داخلهم، وفضح مخططاتهم في أساليبهم الخادعة من أجل أن يظهروا على حقيقتهم، فيعلم النَّاس من أمرهم ما كانوا يخفونه، وبذلك تسقط كلّ خططهم في الإضرار بالمسلمين. أمّا نسبة العلم إلى اللّه بصفات المخلوقين، باعتبار أنَّ للمعرفة وسائلها الواقعية التي إذا توفّرت أعطت الصورة الحقيقية للأشياء، كهؤلاء المنافقين الذين انفتح المسلمون عليهم في حركة المعركة، [وقيل لهم تعالوا قاتلوا في سبيل اللّه] كما يُقاتل المسلمون من أجل أن تكون كلمة اللّه هي العليا، ويكون الدِّين كلّه للّه فتكون الغلبة للمسلمين على الكافرين من خلال حشد كلّ القوى المسلمة المقاتلة في ساحة الحرب، ليحقّقوا التوازن في موازين القوى في المعركة [أو ادفعوا] العدوّ عن ساحة المسلمين بحشد القوّة التي ترهبه وتخيفه وتهزم روحه المعنوية وتكسر شوكته، فإنَّ الهدف الأساس في ساحة التحدِّيات هي هزيمة العدوّ نفسياً أو عسكرياً، كوسيلة من وسائل إضعافه وإسقاط معنوياته، لتنطلق المسيرة بقوّةٍ بعيداً عن مواقع الخطر. وهذا هو الذي توحي به كلمة [ادفعوا] التي تتضمن معنى الدفع النفسي والعملي بالوسائل المتنوّعة التي قد تتفادى القتال لتحقّق النتائج بدونه...
[قالوا لو نعلمُ قتالاً لاتَّبعناكُم] وهذا هو المنطق التبريري الذي يُحاول أن يجد عذراً في موقع العذر فهم يتحدّثون عن تصوّرهم بأنَّ المعركة سوف تنتهي سلميّاً بالطريقة الحاسمة التي لا تنفتح على قتال، ما لا يجعل هناك حاجة لوجودنا معكم، فليست القضية قضية انفصال عن مسؤولية المسيرة الإسلامية، بل هي قضية فقدان الضرورة الواقعية لكثرة المقاتلين، فلا يكون البُعد عن المعركة خطيئة أو مشكلة سلبية. وربَّما فسَّر البعض كلام المنافقين أنَّهم قالوا: لو أنَّنا كنّا نعتبر أنَّ المسألة مسألة قتال بينكم وبين العدوّ بحيث يمكن لكن أن تحقّقوا النصر عليه، مع احتمال أن يحقّق النصر عليكم لاتبعناكم، ولكنَّنا في دراساتنا للواقع نجد أنَّ حركتكم حركة انتحارية، لأنَّ موازين القوى وشروط المعركة لم تتوفر لديكم، بل كنتم كمن يلقي بنفسه إلى التهلكة، فليست المسألة عقلائية يتحرّك بها منطق العقل، فإنَّ المسلمين قد وقفوا في موقع غير مناسب لحركة المعركة ونقطةٍ غير ملائمة. ومهما كان المعنى، فقد كان موقفهم موقف الاعتذار والتعلل بالأعذار الواهية التي تبرّر تخلّفهم حتّى لا ينكشف أمرهم في نفاقهم الداخلي، فلم تكن المسألة كما تصوّروها أو شرحوها، بل كانت حرباً حقيقية انتصر المسلمون في بداياتها من خلال أخذهم بأسباب النصر، ما يوحي بأنَّ توازن القوى كان لمصلحة المسلمين، فلم ينهزموا من قلّة عدد أو من عدم توازن الموقف والموقع، بل كانت هزيمتهم من مخالفتهم للخطّة الموضوعة، واندفاعهم في الطمع الدنيوي الذي دفعهم إلى التخلي عن مراكزهم الحيوية.
[هم للكفر يومئذٍ أقربُ منهم للإيمان] إذ ظهرت حقيقتهم في ارتباطهم بواقع الكفر، وذلك من خلال موقفهم وكلامهم التبريري الذي يفصح عن عقيدتهم المنحرفة، لأنَّه لا ينطلق من حجّة مقبولة وواقع معقول، فكانوا مع الكافرين في الموقع والموقف، بينما كانوا في الماضي أقرب إلى المؤمنين في مواقف الإيمان التي كانوا يتظاهرون بها خداعاً ونفاقاً.
[يقولون بأفواههم ما ليس في قلوبهم] فهم يتكلّمون كلام المؤمنين، ويعتقدون عقيدة الكافرين، فلا يتجاوز إيمانهم مخارج الحروف في أفواههم، فليس للقلوب حصّة منه، وذلك هو شأن المنافقين الذين يظهرون غير ما يبطنون، أمّا المؤمنون فهم الذين تلتقي الكلمة عندهم في اللسان بالإيمان في الجنان، والقرآن في ذلك يؤكّد هويتهم الحقيقية. فليست القضية لديهم قضية الانحراف العملي، بل هي الانحراف في العقيدة، لأنَّ كلمات الإيمان وأساليب التبرير التي يبررون بها مواقفهم لا تمثِّل الواقع الداخلي عندهم، فهي مجرّد كلمات لا تعبّر عمّا في النفس من قريب ولا من بعيد، فإنَّ اللّه يعلم ما يكتمون في قلوبهم من كفر ونفاق.
[واللّه أعلمُ بما يكتمون] لأنَّه المطلع على أسرار خلقه، فلا يخفى عليه شيء مما يبطن هؤلاء المنافقون في قلوبهم ويكتمونه عن النَّاس.
الأمثل في تفسير كتاب الله المنزل - لجنة تأليف بإشراف الشيرازي 2009 هـ :
ثمّ يقول سبحانه في المقطع التالي من الآية: (وليعلم المؤمنين وليعلم الذين نافقوا).
إنه إشارة إلى أثر آخر من آثار هذه الحرب وهو تمييز المؤمنين عن المنافقين، وفرز أقوياء الإيمان عن ضعفاء الإيمان.
وعلى العموم فقد تميز المسلمون في معركة أُحد في طوائف ثلاث:
الطائفة الأُولى: وهم قلة، قد ثبتوا أمام العدو في تلك الموقعة حتّى آخر لحظه، حتّى قضى بعض وجرح بعض وتحمل أشد الآلام.
الطائفة الثانية: هم الذين زلزلوا، ووقعوا فريسة الاضطراب ولم يمكنهم الثبات حتّى آخر لحظة، ففروا من الميدان.
الطائفة الثالثة: وهم جماعة المنافقين الذين رجعوا من منتصف الطريق وأحجموا عن المشاركة والإسهام في القتال بحجج وأعذار واهية، وعادوا إلى المدينة، وهم عبد الله بن أبي بن سلول، وثلاثمائة شخص من أعوانه وأنصاره وجماعته.
فلو لم تقع حادثة أُحد لما تميزت هذه الصفوف مطلقاً، ولما اتضح الأمر بمثل هذا الاتضاح أبداً، ولما تبين كلّ شخص بقسماته الحقيقية، وملامحه الواقعية وصفاته الخاصة به، وبالتالي كان يمكن أن يتصور الجميع في مقام الادعاء أنهم مؤمنون واقعيون، وأنهم الأمثلة الكاملة للصالحين.
وفي الحقيقة تتضمن الآية الإشارة إلى أمرين:
الأول: العلة الفاعلية للهزيمة.
الثاني: العلة الغائية والنتيجة النهائية لها.
على أن هناك نقطة يلزم التنويه بها وهي أن الآية الحاضرة تقول: (وليعلم الذين نافقوا) ولم تقل «ليعلم المنافقين».
وبتعبير آخر: جاء ذكر النفاق بصيغة الفعل، ولم يأت بصورة «الوصف» وهو لعلّه لأجل أن النفاق لم يكن قد حصل في الجميع في شكل الصفة الثابتة اللازمة ولهذا نقرأ في التاريخ أن بعضهم قد وفق للتوبة وهدي إليها فيما بعد، والتحق بصف المؤمنين الصادقين، ثمّ إن القرآن الكريم يستعرض حواراً قد وقع بين بعض المسلمين، والمنافقين قبل المعركة بالشكل التالي: (وقيل لهم تعالوا قاتلوا في سبيل الله أو ادفعوا) فإن بعض المسلمين «وهو عبد الله بن عمر بن حرام على ما نقل عن ابن عباس) عندما رأى انسحاب عبد الله بن أبي سلول وانفصالهم عن الجيش الإسلامي، واعتزامهم العودة إلى المدينة قال: تعالوا قاتلوا في سبيل الله أو ادفعوا عن حريمكم وأنفسكم إن لم تقاتلوا في سبيل الله.
ولكنهم تعللوا، واعتذروا بأعذار واهية إذ قالوا: (لو نعلم قتالاً لاتبعناكم) أي إننا نظن أن الأمر ينتهي بلا قتال فلا حاجة لوجودنا معكم.
وبناءً على تفسير آخر قال المنافقون: لو أننا كنا نعتبر هذا قتالاً معقولاً لتعاونا معكم ولاتبعناكم، ولكننا لا نعتبر هذا قتالاً بل نوعاً من الانتحار والمغامرة الانتحارية لعدم التكافؤ بين قوى الكفر وقوى الإسلام، الأمر الذي يعني أن قتالهم أمر غير عقلاني، خاصة أن الجيش الإسلامي قد استقر في مكان غير مناسب ونقطة غير مؤاتية ولا ملائمة.
وعلى كلّ حال فإن هذه كانت مجرد اعتذارات وتعللات، لأن الحرب كانت حتمية الوقوع، ولأن المسلمين انتصروا في بداية المعركة، وأما ما لحق بهم من الهزيمة والانكسار فلم يكن إلاّ بسبب أخطاء ومخالفات ارتكبوها هم أنفسهم بحيث لولاها لما وقعت بهم هزيمة، ولذا يقول الله سبحانه: (هم للكفر يومئذ أقرب منهم للإيمان) أي أنهم يكذبون، هذا مضافاً إلى أنه يستفاد من هذه الجملة (أي أقرب) أن للإيمان والكفر درجات ترتبط باعتقاد الإنسان وأسلوب عمله وسلوكه.
ثمّ علل سبحانه ما ذكره عنهم بقوله: (يقولون بأفواههم ما ليس في قلوبهم) أي أنهم يظهرون خلاف ما يضمرون، ويبدون من القول خلاف ما يكتمون من الاعتقاد والنية، فإنهم لإصرارهم على اقتراحهم بالقتال داخل أسوار المدينة، أو رهبة من ضربات العدو، أو لعدم حبهم للإسلام أحجموا عن الإسهام في تلك المعركة، وامتنعوا عن المضي إلى أُحد في صحبة المسلمين، (والله أعلم بما يكتمون) فإن الله يعلم جيداً ما يخفونه ويضمرونه من النوايا، وسيكشف عن نواياهم للمسلمين في هذه الدنيا، كما سيعاقبهم ويحاسبهم على مواقفهم ونواياهم الشريرة في الآخرة.