تأويلات أهل السنة للماتريدي - الماتريدي  
{وَلِيَعۡلَمَ ٱلَّذِينَ نَافَقُواْۚ وَقِيلَ لَهُمۡ تَعَالَوۡاْ قَٰتِلُواْ فِي سَبِيلِ ٱللَّهِ أَوِ ٱدۡفَعُواْۖ قَالُواْ لَوۡ نَعۡلَمُ قِتَالٗا لَّٱتَّبَعۡنَٰكُمۡۗ هُمۡ لِلۡكُفۡرِ يَوۡمَئِذٍ أَقۡرَبُ مِنۡهُمۡ لِلۡإِيمَٰنِۚ يَقُولُونَ بِأَفۡوَٰهِهِم مَّا لَيۡسَ فِي قُلُوبِهِمۡۚ وَٱللَّهُ أَعۡلَمُ بِمَا يَكۡتُمُونَ} (167)

الآية 167 وقوله تعالى : { وليعلم المؤمنين } { وليعلم الذين نافقوا } لما ذكرنا في ما تقدم : ليعلم ما قد علم أنهم يؤمنون ويصبرون على البلايا والقتال مؤمنين صابرين محتسبين{[4574]} ينافقون ولا يبرون{[4575]} منافقين غير صابرين ولا محتسبين{[4576]} .

وقوله تعالى : { قاتلوا في سبيل الله أو ادفعوا } قوله : { أو ادفعوا } يحتمل { أو ادفعوا } أي كثروا السواد لأن المشركين إذا رأوا سواد المؤمنين كثيرا يرهبهم ذلك ويخوفهم كقوله عز وجل : { وأعدوا لهم ما استطعتم من قوة ومن رباط الخيل ترهبون به عدو الله وعدوكم } ( الأنفال 60 ) ويحتمل { أو ادفعوا } العدو عن أنفسكم لما لعلهم يقصدون أنفس المؤمنين المقاتلين { أو ادفعوا } عن أموالكم وذراريكم ويقصدون ذلك { أو ادفعوا } عن دينكم وقد يقصدون ذلك . أو أن يكون قوله عز وجل { قاتلوا في سبيل الله أو ادفعوا } واحدا أي قاتلوا في سبيل الله وادفعوا والله أعلم .

وقوله تعالى : { هم للكفر يومئذ أقرب منهم للإيمان } يعني المنافقين أخبر أنهم إلى الكفر أقرب من الإيمان للكفر وإلى الكفر من الكفر ، كل ذلك لغة وفي حرف حفصة : { هم للكفر يومئذ أقرب منهم } هم على الكفر أقرب . وتأويله والله أعلم أن المنافقين كانوا لا يعرفون الله عز وجل ولا كانوا يميلون إلى حيث مالت النعمة إن كانت مع المؤمنين فيظهرون من أنفسهم الوفاق لهم ، وإن كانت مع المشركين فمعهم كقوله عز وجل : { الذين يتربصون / 73- أ/ بكم فإن كان لكم فتح من الله قالوا ألم نكن معكم } الآية ( النساء 141 ) وكقوله عز وجل : { ومن الناس من يعبد الله على حرف } الآية ( الحج 11 ) .

وأما الكفار فإنهم كانوا يعرفون الله لكنهم يعبدون الأصنام والأوثان لوجهين :

أحدهما : لما اتخذوها أربابا .

والثاني : يطلبون بذلك تقربهم إلى الله زلفى كقولهم : { ما نعبدهم إلا ليقربونا إلى الله زلفى } ( الزمر 3 ) لكنهم إذا أصابتهم الشدة ولم يروا في ما عبدوا الفرج عن ذلك فزعوا إلى الله عز وجل كقوله تعالى : { فإذا ركبوا في الفلك دعوا الله مخلصين له الدين } ( العنكبوت 65 ) فإذا ذهب ذلك عنهم عادوا إلى دينهم الأول وقوله : عز وجل : { وإذا مس الإنسان ضر دعا ربه منيبا إليه } الآية ( الزمر 8 ) .

وأما المؤمنون فهم في جميع أحوالهم : الرخاء والشدة والضراء والسراء مخلصين لله صابرين على مصائبهم وشدائدهم { قالوا إنا لله وإنا إليه راجعون } ( البقرة 156 ) .

وقوله تعالى : { هم للكفر يومئذ أقرب منهم للإيمان } يحتمل هذا وجوها : قيل إنما كانوا كذا لأنهم كانوا يقولون للمؤمنين : { ألم نكن معكم وإن كان للكافرين نصيب قالوا ألم نستحوذ عليكم ونمنعكم من المؤمنين } ( النساء 141 ) ذكروا كونهم مع المؤمنين وذكروا في الكافرين استحواذهم عليهم ومنعهم على المؤمنين فذلك آية الأقرب منهم . ويحتمل { أقرب منهم للإيمان } لأن ما أظهروا من الإيمان كذب ، والكفر نفسه كذب فما أظهروا من الإيمان فهو كذب إلى الكذب الذي هم عليه أقرب وهو الكفر وعن ابن عباس رضي الله عنه : { هم للكفر يومئذ أقرب منهم للإيمان } أنه قال : ( هم يومئذ أقرب لأنهم كانوا في الحقيقة كفارا على دينهم ) وفي قوله تعالى : { هم للكفر يومئذ أقرب منهم للإيمان } يحتمل الذم وقيل : كقوله جل وعلا : { إن رحمت الله قريب من المحسنين } أي هي لهم وبالله التوفيق .

وذلك لأنهم كانوا أهل نفاق والكفر لم يكن يفارق قلوبهم ، وما كان من إيمانهم كان بظاهر اللسان ثم قد يفارقها أكثر أوقاتهم والله أعلم . وقد يكونون{[4577]} على القرب من حيث قد كانوا شاكين في أمر الإيمان تاركي{[4578]} الإيمان . إن حقيقته تصديق عن معرفة ، ولم يكن لهم معرفة ، والكفر قد يكون بالتكذيب ، كان لهم بما يكذب علم بالكذب أولا ، فلذلك كان الكفر أقرب إليهم .

ويحتمل { أقرب منهم } أولى بهم ، وهم به أحق أن يعرفوا بما جعل الله لهم من أعلام ذلك في لحن القول ثم في أفعال الخير ثم في ( أحوال ){[4579]} الجهاد ومما يظهر منهم من آثار الكفر في الأقوال والأفعال مما جاء به القرآن والله أعلم .

فإن قيل في قوله : { أو لما أصابتكم مصيبة قد أصبتهم مثليها قلتم أنى هذا قل هو من عند أنفسكم } كيف عم هؤلاء بالعقوبة ؟ وإنما كان العصيان والخلاف في الأمر من بعضهم لا من الكل ؟ قيل : لما خرج لهم ذلك مخرج الامتحان والابتلاء لا مخرج الجزاء لفعلهم ولله أن يمتحن عباده ابتداء بأنواع المحن من غير أن يسبق منهم خلاف في الأمر وعصيان ، وكل عقوبة خرجت مخرج جزاء عصيان وخلاف في أمر لم يؤاخذ غير مرتكبها لقوله عز وجل : { ولا تزر وازرة وزر أخرى } ( الأنعام 164 ) وما خرج مخرج الامتحان جاز أن يعمهم لما ذكرنا أن له ابتداء وإن كان ما كان منهم بمعونة غيرهم فعمتهم لذلك بذلك كقطاع لاطريق والسراق{[4580]} أن تعمهم العقوبة جميعا : من أخذ ومن لم ياخذ ومن تولى ومن لم يتول فكذلك هذا وكانوا جميعا كنفس واحدة فعمهم بذلك والله أعلم .


[4574]:احتسب بكذا أجرا عند الله: اعتده ينوي به وجه الله.
[4575]:في م: يبصرون.
[4576]:من م في الأصل: تحسبين.
[4577]:في الأصل و م: يكون.
[4578]:في الأصل و م: تاركو.
[4579]:من م ساقطة من الأصل...
[4580]:في الأصل: وكسراق في م: والسارق وفي م: والسارق.