وبعد أن بين - سبحانه - ما يدل على مظاهر قدرته فى ولادة يحيى - عليه السلام - حيث وهبه لوالديه بعد أن بلغا مبلغاً كبيراً من العمر يستبعد معه في العادة الإنجاب . . . بعد أن بين كل ذلك ساق قصة أخرى أدل على قدرة الله ونفاذ إرادته من قصة ولادة يحيى ، وهذه القصة هي قصة ولادة عيسى - عليه السلام - من غير أب . وقد مهد القرآن لولادة عيسى ببيان أن الله - تعالى - قد اصطفى أمه مريم وطهرها من كل فاحشة ، وفضلها على نساء زمانها ، وصانها من كل ما يخدش المروءة والشرف . استمع إلى القرآن الكريم وهو يحكي ذلك بأسلوبه البليغ الحكيم فيقول : { وَإِذْ قَالَتِ . . . . } .
قوله - تعالى - { وَإِذْ قَالَتِ الملائكة يامريم . . } إلخ معطوف على قوله : { إِذْ قَالَتِ امرأت عِمْرَانَ رَبِّ إِنِّي نَذَرْتُ لَكَ مَا فِي بَطْنِي } الخ عطف القصة على القصة ، فإن الله - تعالى - بعد أن ذكر ما قالته امرأة عمران عندما أحست بالحمل . وبعد ولادتها لمريم ، وما كان من شأنها وتربيتها وكفالتها بعد أن ذكر ذلك ، بين - سبحانه - ما كان من أمر مريم بعد أن بلغت رشدها واكتمل تكوينها ، وجاء بقصة زكريا بين قصة الأم وابنتها لما بينهما من مناسبة إذ أن دعاء زكريا ربه كان سببه ما رآه من إكرام الله - سبحانه - لمريم ولأن الكل لبيان اصطفاء آل عمران .
والمعنى ، واذكر يا محمد للناس وقت أن قالت الملائكة لمريم - التي تقبلها ربها بقبول حسن وأنبتها نباتا حسنا - يا مريم { إِنَّ الله اصطفاك } أى اختارك واجتباك لطاعته ، وقبلك لخدمة بيته { وَطَهَّرَكِ } من الأدناس والأقذار ، ومن كل ما يتنافى مع الخلق الحميد ، والطبع السليم { واصطفاك على نِسَآءِ العالمين } بأن وهب لك عيسى من غير أب دون أن يمسسك بشر . وجعلك أنت وهو آية للعالمين .
فأنت ترى أن الله - تعالى - قد مدح مريم مدحا عظيما بأن شهد لها بالاصطفاء والطهر والمحبة ، وأكد هذا الخبر للاعتناء بشأنه ، والتنويه بقدره .
والاصطفاء الأول إشارة إلى ما اتفق لها من الأمور الحسنة في أول عمرها بأن قبل الله - تعالى - تحريرها أى خدمتها لبيته ، مع أنها أنثى ولم يحصل مثل هذا المعنى لغيرها من الإناث ، وبأن فرغها لعبادته وخصها في هذا المعنى بأنواع اللطف والهداية والعصمة ، وبأن كفاها أمر معيشتها فكان يأتيها رزقها من عند الله . .
وأما الاصطفاء الثاني فالمراد به أنه - تعالى - وهب لها عيسى - عليه السلام من غير أب ، وجعلها وابنها آية للعالمين " .
ولا شك أن ولادتها لعيسى من غير أب ودون أن يمسها بشر ، هو أمر اختصت به مريم ولم تشاركها فيه امرأة قط فى أى زمان أو مكان ، فهى أفضل النساء في هذه الحيثية .
أما من حيث قوة الإيمان ، وصلاح الأعمال فيجوز أن يحمل اصطفاؤها على نساء العالمين على معنى تفضيلها على عالمى زمانها من النساء وبعضهم يرى أفضليتها على جميع النساء في سائر الأعصار .
هذا وقد أورد ابن كثير عدداً من الأحاديث التي وردت في فضل مريم وفي فضل غيرها من النساء ، ومن ذلك ما أخرجه الشيخان عن علي بن أبي طالب أنه قال : سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول : " خير نسائها مريم بنت عمران ، وخير نسائها خديجة بنت خويلد "
وروى الترمذي عن أنس أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال : " حسبك من نساء العالمين مريم بنت عمران ، وخديجة بن خويلد ، وفاطمة بنت محمد ، وآسية بنت مزاحم امرأة فرعون " وأخرج البخارى عن أبى موسى الأشعري قال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم " كمل من الرجال كثير ولم يكمل من النساء إلا آسية امرأة فرعون ، ومريم بنت عمران ، وإن فضل عائشة على النساء كفضل الثريد على سائر الطعام " .
وقول الملائكة لمريم إن الله اصطفاك وطهرك . . . إلخ الراجح أنهم قالوه لها مشافهة ، لأن هذا ما يدل عليه ظاهر الاية ، وإليه ذهب صاحب الكشاف فقد قال : روي أنهم كلموها شفاها معجزة لزكريا ، أو إرهاصا لنبوة عيسى - عليه السلام - .
وقال الجمل قوله : { وَإِذْ قَالَتِ الملائكة } أى مشافهة لها بالكلام ، وهذا من باب التربية الروحية بالتكاليف الشرعية المتعلقة بحال كبرها بعد التربية الجسمانية اللائقة بحال صغرها " .
وقيل كأن خطابهم لها بالإلهام أو بالرؤيا الصادقة في النوم .
والأول أولى لأنه هو الظاهر من الآية ، ولأنه الموافق لأقوال جمهور المفسرين ، ولأنه جاء صريحا في آيات أخرى أن الملك قد تمثل لها بشراً سويا وكلمها ، وذلك في قوله - تعالى - في سورة مريم : { واذكر فِي الكتاب مَرْيَمَ إِذِ انتبذت مِنْ أَهْلِهَا مَكَاناً شَرْقِياً فاتخذت مِن دُونِهِم حِجَاباً فَأَرْسَلْنَآ إِلَيْهَآ رُوحَنَا فَتَمَثَّلَ لَهَا بَشَراً سَوِيّاً قَالَتْ إني أَعُوذُ بالرحمن مِنكَ إِن كُنتَ تَقِيّاً قَالَ إِنَّمَآ أَنَاْ رَسُولُ رَبِّكِ لأَهَبَ لَكِ غُلاَماً زَكِيّاً } قال الآلوسي : " واستدل بهذه الآية من ذهب إلى نبوة مريم : لأن تكليم الملائكة يقتضيها ومنعها اللقانى وغيره من العلماء ، لأن الملائكة قد كلموا من ليس بنبي إجماعا ، فقد جاء في الحديث الشريف أنهم كلموا رجلا خرج لزيارة أخ له في الله ، وأخبروه بأن الله يحبه كما أحب هو أخاه ، ولم يقل أحد بنبوته - فكلام الملائكة لمريم لا يقتضي نبوتها وهو الصحيح " .
وكأنما كانت هذه الخارقة تمهيدا - في السياق - لحادث عيسى الذي انبثقت منه كل الأساطير والشبهات . . وإن هو إلا حلقة من سلسلة في ظواهر المشيئة الطليقة . . فهنا يبدأ في قصة المسيح عليه السلام . وإعداد مريم لتلقي النفخة العلوية بالطهارة والقنوت والعبادة . .
( وإذ قالت الملائكة : يا مريم إن الله اصطفاك وطهرك واصطفاك على نساء العالمين . يا مريم اقنتي لربك واسجدي واركعي مع الراكعين ) . .
وأي اصطفاء ؟ ! وهو يختارها لتلقي النفخة المباشرة ، كما تلقاها أول هذه الخليقة : " آدم " ؟ وعرض هذه الخارقة على البشرية من خلالها وعن طريقها ؟ إنه الاصطفاء للأمر المفرد في تاريخ البشرية . . وهو بلا جدال أمر عظيم . .
ولكنها - حتى ذلك الحين - لم تكن تعلم ذلك الأمر العظيم !
والإشارة إلى الطهر هنا إشارة ذات مغزى . وذلك لما لابس مولد عيسى - عليه السلام - من شبهات لم يتورع اليهود أن يلصقوها بمريم الطاهرة ، معتمدين على أن هذا المولد لا مثال له في عالم الناس فيزعموا أن وراءه سرا لا يشرف . . قبحهم الله ! !
وهنا تظهر عظمة هذا الدين ؛ ويتبين مصدره عن يقين . فها هو ذا محمد [ ص ] رسول الإسلام الذي يلقى من أهل الكتاب - ومنهم النصارى - ما يلقى من التكذيب والعنت والجدل والشبهات . . ها هو ذا يحدث عن ربه بحقيقة مريم العظيمة وتفضيلها على " نساء العالمين " بهذا الإطلاق الذي يرفعها إلى أعلى الآفاق . وهو في معرض مناظرة مع القوم الذين يعتزون بمريم ، ويتخذون من تعظيمها مبررا لعدم إيمانهم بمحمد وبالدين الجديد !
أي صدق ؟ وآية عظمة ؟ وأية دلالة على مصدر هذا الدين ، وصدق صاحبه الأمين !
إنه يتلقى " الحق " من ربه ؛ عن مريم وعن عيسى عليه السلام ؛ فيعلن هذا الحق ، في هذا المجال . . ولو لم يكن رسولا من الله الحق ما أظهر هذا القول في هذا المجال بحال !
تفسير مقاتل بن سليمان 150 هـ :
{وإذ قالت الملائكة يا مريم}، وهي في المحراب، {إن الله اصطفاك}: اختارك، {وطهرك} من الفاحشة والألم، {واصطفاك}: واختارك، {على نساء العالمين} بالولد من غير بشر...
جامع البيان عن تأويل آي القرآن للطبري 310 هـ :
يعني بذلك جلّ ثناؤه: والله سميع عليم {إذْ قالتِ امْرَأةُ عِمْرَانَ رَبّ إنّي نَذَرْتُ لَكَ ما فِي بَطْنِي مُحَرّرا}، {وَإذْ قالَتِ المَلائِكَةُ يا مَرْيَمُ إنّ اللّهَ اصْطَفاكِ}.
ومعنى قوله: {اصْطَفاكِ}: اختارك واجتباك لطاعته، وما خصك به من كرامته. {وَطَهّرَكِ}: طهر دينك من الريب والأدناس التي في أديان نساء بني آدم. {وَاصْطَفاكِ على نِساءِ العَالَمِينَ}: اختارك على نساء العالمين في زمَانك بطاعتك إياه، ففضلك عليهم. كما روي عن رسول الله صلى الله عليه وسلم أنه قال: «خَيْرُ نِسائِها مَرْيَمُ بِنْتُ عِمْرَانَ، وَخَيْرُ نِسائها خَدِيجَةُ بِنْتُ خُوَيْلِدٍ» يعني بقوله: خير نسائها: خير نساء أهل الجنة.
عن قتادة قوله: {وَإذْ قالَتِ المَلائِكَةُ يا مَرْيَمُ إنّ اللّهَ اصْطَفَاكِ وَطَهّرَكِ وَاصْطفاكِ على نِساءِ العالَمِينَ} ذكر لنا أن نبيّ الله، كان يقول: «حَسْبُكَ بِمَرْيَمَ بِنْتِ عِمْرَانَ، وَامْرَأَةِ فِرْعَوْنَ، وَخَدِيجَةَ بِنْتِ خُوَيْلِدٍ، وَفاطِمَةَ بِنْتِ مُحَمّدٍ مِنْ نِساءِ العالَمِينَ». قال قتادة: ذكر لنا أن نبيّ الله صلى الله عليه وسلم كان يقول: «خَيْرُ نِساءٍ رَكِبْنَ الإبِلَ صَوَالِحُ نِساءِ قُرَيْشٍ، أحْناهُ على وَلَدٍ فِي صِغَرِهِ، وأرْعاهُ على زَوْجٍ فِي ذَاتِ يَدِهِ». وكانت الملائكة فيما ذكر ابن إسحاق تقول ذلك لمريم شفاها.
تأويلات أهل السنة للماتريدي 333 هـ :
{إن الله اصطفاك} أي: اصطفاك لعبادة نفسه، وخصها له، ما لم يكن ذلك لأحد من النساء، فيكون بذلك صفوتها، وقيل: اصطفاها بولادة عيسى عليه السلام إذا خرج منها نبيا مباركا تقيا على خلاف ولادة البشر...
{وطهرك} قيل: من الآثام والفواحش، وقيل: {وطهرك} من مس الذكور وما قذفت به...
{واصطفاك على نساء العالمين}: هو ما ذكرنا من صفوتها أن جعلها لعبادة نفسه خالصة، أو ما قد ولدت من غير أب على خلاف سائر البشر.
الكشاف عن حقائق التنزيل للزمخشري 538 هـ :
{يامريم} روي أنهم كلموها شفاها معجزة لزكريا أو إرهاصا لنبوّة عيسى... {اصطفاك} أولاً حين تقبلك من أمك ورباك واختصك بالكرامة السنية... {وَطَهَّرَكِ} مما يستقذر من الأفعال ومما قرفك به اليهود... {على نِسَاء العالمين} بأن وهب لك عيسى من غير أب؛ ولم يكن ذلك لأحد من النساء...
ولا يجوز أن يكون الاصطفاء أولا من الاصطفاء الثاني، لما أن التصريح بالتكرير غير لائق، فلا بد من صرف الاصطفاء الأول إلى ما اتفق لها من الأمور الحسنة في أول عمرها، والاصطفاء الثاني إلى ما اتفق لها في آخر عمرها. النوع الأول من الاصطفاء: فهو أمور:
أحدها: أنه تعالى قبل تحريرها مع أنها كانت أنثى ولم يحصل مثل هذا المعنى لغيرها من الإناث ...
وثالثها: أنه تعالى فرغها لعبادته، وخصها في هذا المعنى بأنواع اللطف والهداية والعصمة.
ورابعها: أنه كفاها أمر معيشتها، فكان يأتيها رزقها من عند الله تعالى على ما قال الله تعالى: {أنى لك هذا قالت هو من عند الله}.
وخامسها: أنه تعالى أسمعها كلام الملائكة شفاها، فهذا هو المراد من الاصطفاء الأول،...
أحدها: أنه تعالى طهرها عن الكفر والمعصية، فهو كقوله تعالى في أزواج النبي صلى الله عليه وسلم {ويطهركم تطهيرا} [الأحزاب: 33].
وثانيها: أنه تعالى طهرها عن مسيس الرجال.
ورابعها: وطهرك من الأفعال الذميمة، والعادات القبيحة.
وخامسها: وطهرك عن مقالة اليهود وتهمتهم وكذبهم.
وأما الاصطفاء الثاني: فالمراد أنه تعالى وهب لها عيسى عليه السلام من غير أب، وأنطق عيسى حال انفصاله منها حتى شهد بما يدل على براءتها عن التهمة، وجعلها وابنها آية للعالمين.
التيسير في أحاديث التفسير للمكي الناصري 1415 هـ :
[نص مكرر لاشتراكه مع الآية 38]
توجيه لعباده المؤمنين حتى يملؤوا قلوبهم بمثل هذا الأمل والرجاء، وهو في نفس الوقت تنويه (بالذرية الطيبة) التي هي من نعم الله الكبرى الجديرة بالابتهال والدعاء... غير أن الذرية المرغوبة والمطلوبة هي الذرية (الطيبة) كما في دعاء زكرياء، لا الذرية الخبيثة، "وطيب الذرية "مرجعه في أغلب الأحوال إلى طيب منبتها، أي إلى طيب الأسرة وحسن تربيتها، وإلى قدرتها على تحمل مسؤوليتها، من الوجهتين الروحية والمادية، الدينية والدنيوية، وإلا كانت الذرية نقمة لا نعمة، نقمة على نفسها أولا، ونقمة على أسرتها ثانيا، ونقمة على وطنها كله في نهاية الأمر، وعلى مثل هذا النوع من الذرية التي لا ينبغي أن يترك لها الحبل على الغارب ينطبق قوله تعالى: {يَأيُّهَا الذِينَ امَنُوا قُوا أَنفُسَكُم وَأَهلِيكُم نَاراً} وذلك حتى لا يستشري فيها الفساد، ويضيع منها الرشاد، فينطبق عليها حينئذ قوله تعالى: {إِنَّ مِن أَزوَاجِكُم وَأَولاَدِكُم عَدُواًّ لَكُم فاحذَرُوهُم}...
قال جبريل مبلغا عن رب العزة: {يمَرْيَمُ إِنَّ اللَّهَ اصْطَفَاكِ وَطَهَّرَكِ وَاصْطَفَاكِ عَلَى نِسَآءِ الْعَالَمِينَ} وما الاصطفاء؟ إن الاصطفاء اختيار واجتباء، وهو مأخوذ من الصفو أو الصافي، أي الشيء الخالص من الكدر. وعادة تؤخذ المعاني من المحسات، وعندما تقول الماء الصافي أي الماء غير المكدر،... أو كما يقول الحق: {وَأَنْهَارٌ مِّنْ عَسَلٍ مُّصَفًّى} [محمد: 15]...
وعندما يقول الحق: {إِنَّ اللَّهَ اصْطَفَاكِ وَطَهَّرَكِ وَاصْطَفَاكِ عَلَى نِسَآءِ الْعَالَمِينَ} نحن هنا أمام اصطفاءين، الاصطفاء الأول ورد دون أن تسبقه كلمة "على "والاصطفاء الثاني تسبقه كلمة "على" والمقصود بالاصطفاء الأول هو إبلاغ مريم أن الله ميزها بالإيمان، والصلاح والخلق الطيب، ولكن هذا الاصطفاء الأول جاء مجردا عن "على" أي أن هذا الاصطفاء الأول لا يمنع أن يوجد معها في مجال هذا الاصطفاء آخرون، بدليل قول الحق: {إِنَّ اللَّهَ اصْطَفَى ءَادَمَ وَنُوحاً وَآلَ إِبْرَاهِيمَ وَآلَ عِمْرَانَ عَلَى الْعَالَمِينَ} [آل عمران: 33]. ثم أورد الحق سبحانه أنه طهرها، وجاء من بعد ذلك بالاصطفاء الثاني المسبوق ب "على" فقال {وَاصْطَفَاكِ عَلَى نِسَآءِ الْعَالَمِينَ} إذن فهذا خروج للرجال عن دائرة هذا الاصطفاء، ولن يكون مجال الاصطفاء موضوعا يتعلق بالرجولة؛ فهي مصطفاة على نساء العالمين، فكأنه لا توجد أنثى في العالمين تشاركها هذا الاصطفاء. لماذا؟ لأنها الوحيدة التي ستلد دون ذكر، وهذه مسألة لن يشاركها فيها أحد...
والمصطفى هو الله، لكن ما علة الاصطفاء؟ إن الذي يصطفيه الله إنما يصطفيه لمهمة، وتكون مهمة صعبة. إذن هو يصطفيه حتى يشيع اصطفاؤه في الناس. كأن الله قد خصه بالاصطفاء من أجل الناس ومصلحتهم، سواء أكان هذا الاصطفاء لمكان أم لإنسان أم لزمان ليشيع صفاؤه في كل ما اصطفى عليه. لقد اصطفى الله الكعبة من أجل ماذا؟ حتى يتجه كل إنسان إلى الكعبة. إذن فقد اصطفاها من أجل البشر وليشيع اصطفاؤها في كل مكان آخر، ولذلك قال الحق عن الكعبة: {إِنَّ أَوَّلَ بَيْتٍ وُضِعَ لِلنَّاسِ لَلَّذِي بِبَكَّةَ مُبَارَكاً وَهُدًى لِّلْعَالَمِينَ} [آل عمران: 96]. وإذا اصطفى الحق سبحانه زمانا، كاصطفائه لرمضان، فلماذا اصطفاه؟ ليشيع صفاؤه، وصفاء ما أنزل فيه في كل زمان. إذن فاصطفاء الحق للشخص أو للمكان أو للزمان هو لمصلحة بقية الناس أو الأمكنة أو الأزمنة، لماذا؟ لأن أحدا من الخلق ليس ابنا لله، وليس هناك مكان أولى بمكان عند الله. ولكن الله يصطفي زمانا على زمان، ومكانا على مكان، وإنسانا على إنسان ليشيع اصطفاء المُصطفى في كل ما اصطُفِىَ عليه. إذن فهل يجب على الناس أن يفرحوا بالمصطفى، أو لا يفرحوا به؟ إن عليهم أن يفرحوا به؛ لأنه جاء لمصلحتهم...