ثم حكى - سبحانه - لونا آخر من أراجيفهم وأكاذيبهم التى قصدوا من ورائها الإساءة إلى المؤمنين ، والتشكيك فى صدق تعاليم الإسلام فقال - تعالى - : { الذين قَالُواْ لإِخْوَانِهِمْ وَقَعَدُواْ لَوْ أَطَاعُونَا مَا قُتِلُوا } .
أى أن هؤلاء المنافقين لم يكتفوا بما ارتكبوه من جنايات قبيل غزوة أحد وخلالها ، بل إنهم بعد انتهاء المعركة قالوا لإخوانهم الذين هم مثلهم فى المشرب والاتجاه ، : قالوا لهم وقد وقعوا عن القتال : لو أن هؤلاء الذين استشهدوا فى أحد أطاعونا وقعدوا معنا فى المدينة لما أصابهم القتل ، ولكنهم خالفونا فكان مصيرهم إلى القتل .
ويجوز أن تكون اللام فى قوله " لإخوانهم " للتعليل فيكون المعنى : أنهم قالوا من أجل إخوانهم الذين استشهدوا فى غزوة أحد ، لو أن هؤلاء الذين قتلوا أطاعونا ولم يخرجوا لبقوا معنا على قيد الحياة ، كما هو حالنا الآن ، ولكنهم لم يستمعوا إلى نصحنا وخرجوا للقتال فقتلوا .
وعلى كلا التفسيرين فقولهم هذا يدل على خبث نفوسهم ، وانطماس بصيرتهم وجهلهم بقدرة الله ونفاذ إرادته ، وشماتتهم فيما حل بالمسلمين من قتل وجراح يوم أحد .
ولذا فقد رد الله عليهم بما يخرس ألسنتهم ، ويدحض قولهم ، ويكشف عن جهلهم وسوء تفكيرهم فقال - تعالى - { قُلْ فَادْرَءُوا عَنْ أَنْفُسِكُمُ الْمَوْتَ إِن كُنْتُمْ صَادِقِينَ } .
أى قل لهم يا محمد على سبيل التوبيخ والتهكم بعقولهم الفارغة : إذا كنتم تظنون أنكم دفعتم عن أنفسكم الموت بقعودكم فى بيوتكم ، وامتناعكم عن الخروج للقتال ، إذا كنتم تظنون ذلك { فَادْرَءُوا } أى ادفعوا عن أنفسكم الموت المكتوب عليكم ، والذى سيدرككم ولو كنتم فى بروج مشيدة .
فالمقصود من هذه الجملة الكريمة الرد عليهم بما يبطل أقوالهم عن طريق الحس والمشاهدة ، وذلك ببيان أن القعود عن الجهاد لا يطيل الحياة ، كما أن الخروج إلى ساحات القتال لا ينقص شيئا من الآجال ، فكم من مجاهد عاد من جهاده سالما ، وكم من قاعد أتاه الموت وهو فى عقر داره .
فزعم هؤلاء المنافقين بأن أولئك الذين استشهدوا فى أحد لو أطاعوهم ولم يخرجوا للقتال لما أصابهم القتل زعم باطل ، وإلا فإن كانوا صادقين فى هذا الزعم فليدفعوا عن أنفسهم الموت الذى سينزل بهم حتما فى الوقت الذى يشاؤه الله ، ولا شك أنهم لن يستطيعوا دفعه فثبت كذبهم وافتراؤهم .
وقوله تعالى { الذين قَالُواْ لإِخْوَانِهِمْ } فى محل نصب بدل من قوله { الذين نَافَقُواْ } .
أو فى محل رفع بدل من الضمير فى قوله { يَكْتُمُونَ } فكأنه قيل : والله أعلم بما يكتم هؤلاء الذين قالوا لإخوانهم وقعدوا . . .
وقوله { وَقَعَدُواْ } حال من الضمير فى { قَالُواْ } بتقدير حرف قد أى قالوا ما قالوا والحال أنهم قد قعدوا عن القتال .
وجواب الشرط فى قوله { الْمَوْتَ إِن كُنْتُمْ صَادِقِينَ } محذوف لدلالة ما قبله عليه وهو قوله { قُلْ فَادْرَءُوا عَنْ أَنْفُسِكُمُ الْمَوْتَ } .
والتقدير : إن كنتم صادقين فى زعمكم أن الذين قتلوا فى أحد لو أطاعوكم وقعدوا كما قعدتم لما أصابهم القتل ، إن كنتم صادقين فى هذا الزعم فادرأوا عن أنفسكم الموت عند حلوله .
قال الآلوسى : والمراد أن ما ادعيتموه سببا للنجاة ليس بمستقيم ، ولو فرض استقامته فليس بمفيد ، أما الأول : فلأن أسباب النجاة كثيرة . غايته أن القعود والنجاة وجدا معا وهو لا يدل على السببية .
وأما الثانى : فلأن المهروب عنه بالذات هو الموت الذى القتل أحد أسبابه فإن صح ما ذكرتم فادفعوا سائر أسبابه ، فإن أسباب الموت فى إمكان المدافعة بالحيل وامتناعها سواء وأنفسكم أعز عليكم ، وأمرها أهم لديكم " .
وقال ابن القيم : وكان من الحكم التى اشتملت عليها غزوة أحد ، أن تكلم المنافقون بما فى نفوسهم ، فسمعه المؤمنون ، وسمعوا رد الله عليهم ، وجوابه لهم ، وعرفوا مراد النفاق ، وما يؤول إليه ، كيف يحرم صاحبه سعادة الدنيا والآخرة .
فالله الله كم من حكمة فى ضمن هذه القصة بالغة ، ونعمة على المؤمنين سابغة ، وكم فيها من تحذير وتخويف وإرشاد وتنبيه ، وتعريف بأسباب الخير والشر ومآلهما وعاقبتهما .
ثم مضى يكشف بقية موقفهم في محاولة خلخلة الصفوف والنفوس :
( الذين قالوا لإخوانهم - وقعدوا - لو أطاعونا ما قتلوا ) . .
فهم لم يكتفوا بالتخلف - والمعركة على الأبواب - وما يحدثه هذا التخلف من رجة وزلزلة في الصفوف والنفوس ، وبخاصة أن عبد الله بن أبي ، كان ما يزال سيدا في قومه ، ولم يكشف لهم نفاقه بعد ، ولم يدمغه الله بهذا الوصف الذي يهز مقامه في نفوس المسلمين منهم . بل راحوا يثيرون الزلزلة والحسرة في قلوب أهل الشهداء وأصحابهم بعد المعركة ، وهم يقولون :
فيجعلون من تخلفهم حكمة ومصلحة ، ويجعلون من طاعة الرسول [ ص ] واتباعه مغرما ومضرة . وأكثر من هذا كله يفسدون التصور الإسلامي الناصع لقدر الله ، ولحتمية الأجل ، ولحقيقة الموت والحياة ، وتعلقهما بقدر الله وحده . . ومن ثم يبادرهم بالرد الحاسم الناصع ، الذي يرد كيدهم من ناحية ، ويصحح التصور الإسلامي ويجلو عنه الغبش من ناحية :
( قل : فادرؤوا عن أنفسكم الموت إن كنتم صادقين ) . .
فالموت يصيب المجاهد والقاعد ، والشجاع والجبان . ولا يرده حرص ولا حذر . ولا يؤجله جبن ولا قعود . . والواقع هو البرهان الذي لا يقبل المراء . . وهذا الوقاع هو الذي يجبههم به القرآن الكريم ، فيرد كيدهم اللئيم ، ويقر الحق في نصابه ، ويثبت قلوب المسلمين . ويسكب عليها الطمأنينة والراحة واليقين . .
ومما يلفت النظر في الاستعراض القرآني لأحداث المعركة ، تأخيره ذكر هذا الحادث - حادث نكول عبد الله ابن أبي ومن معه عن المعركة - وقد وقع في أول أحداثها وقبل ابتدائها . . تأخيره إلى هذا الموضع من السياق . .
وهذا التأخير يحمل سمة من سمات منهج التربية القرآنية . . فقد آخره حتى يقرر جملة القواعد الأساسية للتصور الإسلامي التي قررها ؛ وحتى يقر في الأخلاد جملة المشاعر الصحيحة التي أقرها ؛ وحتى يضع تلك الموازين الصادقة للقيم التي وضعها . . ثم يشير هذه الإشارة إلى " الذين نافقوا " . وفعلتهم وتصرفهم بعدها ، وقد تهيأت النفوس لإدراك ما في هذه الفعلة وما في هذا التصرف من انحراف عن التصور الصحيح ، وعن القيم الصحيحة في الميزان الصحيح . . وهكذا ينبغي أن تنشأ التصورات والقيم الإيمانية في النفس المسلمة ، وأن توضع لها الموازين الصحيحة التي تعود إليها لاختبار التصورات والقيم ، ووزن الأعمال والأشخاص ، ثم تعرض عليها الأعمال والأشخاص - بعد ذلك - فتحكم عليها الحكم المستنير الصحيح ، بذلك الحس الإيماني الصحيح . .
ولعل هنالك لفتة أخرى من لفتات المنهج الفريد . فعبد الله بن أبي كان إلى ذلك الحين ما يزال عظيما في قومه - كما أسلفنا - وقد ورم أنفه لأن النبي [ ص ] لم يأخذ برأيه - لأن إقرار مبدأ الشورى وإنفاذه اقتضى الأخذ بالرأي الآخر الذي بدا رجحان الاتجاه إليه في الجماعة - وقد أحدث تصرف هذا المنافق الكبير رجة في الصف المسلم ، وبلبلة في الأفكار ، كما أحدثت أقاويله بعد ذلك عن القتلى حسرات في القلوب وبلبلة في الخواطر . . فكان من حكمة المنهج إظهار الاستهانة به وبفعلته وبقوله ؛ وعدم تصدير الاستعراض القرآني لأحداث الغزوة بذلك الحادث الذي وقع في أولها ؛ وتأخيره إلى هذا الموضع المتأخر من السياق . مع وصف الفئة التي قامت به بوصفها الصحيح : " الذين نافقوا " والتعجيب من أمرهم في هذه الصيغة المجملة : ( ألم تر إلى الذين نافقوا ؟ ) ، وعدم إبراز اسم كبيرهم أو شخصه ، ليبقى نكره في : " الذين نافقوا " كما يستحق من يفعل فعلته ، وكما تساوي حقيقته في ميزان الإيمان . . ميزان الإيمان الذي أقامه فيما سبق من السياق . .
{ الّذِينَ قَالُواْ لإِخْوَانِهِمْ وَقَعَدُواْ لَوْ أَطَاعُونَا مَا قُتِلُوا قُلْ فَادْرَءُوا عَنْ أَنْفُسِكُمُ الْمَوْتَ إِن كُنْتُمْ صَادِقِينَ }
يعني تعالى ذكره بذلك : وليعلم الله الذين نافقوا ، الذين قالوا لإخوانهم وقعدوا . فموضع «الذين » نصب على الإبدال من «الذين نافقوا » ، وقد يجوز أن يكون رفعا على الترجمة عما في قوله : { يَكْتُمُوْنَ } من ذكر «الذين نافقوا » فمعنى الاَية : وليعلم الله الذين قالوا لإخوانهم الذين أصيبوا مع المسلمين في حربهم المشركين بأُحد يوم أُحد ، فقتلوا هنالك من عشائرهم وقومهم ، { وقَعَدُوا } يعني : وقعد هؤلاء المنافقون القائلون ما قالوا مما أخبر الله عزّ وجلّ عنهم من قيلهم عن الجهاد مع إخوانهم وعشائرهم في سبيل الله : { لو أَطاعُونَا } يعني : لو أطاعنا من قتل بأُحد من إخواننا وعشائرنا { ما قُتِلُوا } يعني : ما قتلوا هنالك . قال الله عزّ وجلّ لنبيه محمد صلى الله عليه وسلم : قل يا محمد لهؤلاء القائلين هذه المقالة من المنافقين : فادرءوا ، يعني : فادفعوا من قول القائل : درأت عن فلان القتل ، بمعنى : دفعت عنه ، أدرؤه درءا ، ومنه قول الشاعر :
تَقولُ وَقدْ دَرأْتُ لهَا وَضِيِني *** أهَذَا دِينُهُ أبَدا وَدِيِني
يقول تعالى ذكره : قل لهم : فادفعوا إن كنتم أيها المنافقون صادقين في قيلكم : لو أطاعنا إخواننا في ترك الجهاد في سبيل الله مع محمد صلى الله عليه وسلم وقتالهم أبا سفيان ومن معه من قريش ، ما قتلوا هنالك بالسيف ، ولكانوا أحياء بقعودهم معكم وتخلفهم عن محمد صلى الله عليه وسلم وشهود جهاد أعداء الله معه¹ الموت ، فإنكم قد قعدتم عن حربهم ، وقد تخلفتم عن جهادهم ، وأنتم لا محالة ميتون . كما :
حدثنا ابن حميد ، قال : حدثنا سلمة ، عن ابن إسحاق : { الّذِينَ قالُوا لإخْوَانِهِمْ } الذين أصيبوا معكم من عشائرهم وقومهم : { لَوْ أطاعُونا ما قُتِلُوا } . . . الاَية : أي أنه لا بد من الموت ، فإن استطعتم أن تدفعوه عن أنفسكم فافعلوا ، وذلك أنهم إنما نافقوا وتركوا الجهاد في سبيل الله ، حرصا على البقاء في الدنيا وفرارا من الموت .
ذكر من قال : الذين قالوا لإخوانهم هذا القول هم الذين قال الله فيهم : { وَلِيَعْلَمَ الّذِينَ نافَقُوا } .
حدثنا بشر ، قال : حدثنا يزيد ، قال : حدثنا سعيد ، عن قتادة ، قوله : { الّذِينَ قالُوا لإخْوَانِهِمْ وَقَعَدُوا لَوْ أطاعُونا ما قُتِلُوا } . . . الاَية ، ذكر لنا أنها نزلت في عدوّ الله عبد الله بن أبيّ .
حدثنا محمد ، قال : حدثنا أحمد ، قال : حدثنا أسباط ، عن السدّيّ ، قال : هم عبد الله بن أبيّ وأصحابه .
حدثنا القاسم ، قال : حدثنا الحسين ، قال : ثني حجاج ، عن ابن جريج ، قال : هو عبد الله بن أبيّ الذي قعد وقال لإخوانه الذين خرجوا مع النبيّ صلى الله عليه وسلم يوم أُحد : { لَوْ أطاعُونا ما قُتِلُوا } . . . الاَية . قال ابن جريج عن مجاهد ، قال : قال جابر بن عبد الله : هو عبد الله بن أبيّ ابن سلول .
حدثت عن عمار ، عن ابن أبي جعفر ، عن أبيه ، عن الربيع قوله : { الّذِينَ قالُوا لإخْوَانِهِمْ وَقَعَدُوا } . . . الاَية ، قال : نزلت في عدوّ الله عبد الله بن أبيّ .
{ الذين } بدل من «الذين » المتقدم ، و «إخوانهم » المقتولون من الخزرج وهي أخوة نسب ومجاورة ، وقوله تعالى : { لإخوانهم } معناه لأجل إخوانهم وفي شأن إخوانهم ، ويحتمل أن يكون قوله : { لإخوانهم } للأحياء من المنافقين ، ويكون الضمير في { أطاعونا } هو للمقتولين ، وقوله : { وقعدوا } جملة في موضع الحال وهي حالة معترضة أثناء الكلام ، وقوله : { لو أطاعونا } يريد في أن لا يخرجوا إلى قريش ، وقرأ الحسن بن أبي الحسن : «ما قتّلوا » بشد التاء ، وهذا هو القول بالأجلين ، فرد الله تعالى عليهم بقوله : { قل فادرؤوا } الآية ، والدرء الدفع ومنه قول دغفل النسابة{[3703]} : [ الرجز ]
صَادَفَ دَرْءُ السَّيْلِ درءاً يَدْفَعُهْ . . . وَالْعِبءُ لا تَعْرفُهُ أَوْ تَرْفَعُه
ولزوم هذه الحجة هو أنكم أيها القائلون : إن التوقي واستعمال النظر يدفع الموت ، فتوقوا وانظروا في الذي يغشاكم منه حتف أنوفكم ، فادفعوه إن كان قولكم صدقاً ، أي إنما هي آجال مضروبة عند الله .
قوله : { الذين قالوا لإخوانهم } بدل من { الذين نافقوا } ، أو صفة له ، إذا كان مضمون صلته أشهر عند السامعين ، إذ لعلّهم عُرفوا من قبل بقولهم فيما تقدّم { لو كانوا عندنا ما ماتوا وما قتلوا } فذُكِر هنا وصفاً لهم ليتميّزُوا كمال تمييز . واللام في ( لإخوانهم ) للتعليل وليست للتعدية ، قالوا : كما هي في قوله : { وقالوا لإخوانهم إذا ضربوا في الأرض } [ آل عمران : 156 ] .
والمراد بالإخوان هنا عين المراد هناك ، وهم الخزرج الذين قتلوا يوم أُحُد ، وهم من جلّة المؤمنين .
وجملة { وقعدوا } حال معترَضة ، ومعنى لو أطاعونا أي امتثلوا إشارتنا في عدم الخروج إلى أُحُد ، وفعلوا كما فعلنا ، وقرأ الجمهور : ما قُتِلوا بتخفيف التاء من القتل . وقرأه هشام عن ابن عامر بتشديد التاء من التقتيل للمبالغة في القتل ، وهو يفيد معنى تفظيعهم ما أصاب إخوانهم من القتل طعناً في طاعتهم النبي صلى الله عليه وسلم
وقوله : { قل فادرءوا عن أنفسكم الموت إن كنتم صادقين } أي ادرأوه عند حلوله ، فإنّ من لم يمت بالسيف مات بغيره أي : إن كنتم صادقين في أنّ سبب موت إخوانكم هو عصيان أمركم .
تفسير مقاتل بن سليمان 150 هـ :
فرجع يومئذ عبد الله بن أبي في ثلاثمائة ولم يشهدوا القتال، فقال عبد الله بن [عمرو بن حرام] وأصحابه: أبعدكم الله، سيغني الله عز وجل نبيه صلى الله عليه وسلم والمؤمنين عن نصركم، فلما انهزم المؤمنون وقتلوا يومئذ، قال عبد الله بن أبي: لو أطاعونا ما قتلوا، يعني عبد الله بن عمرو وأصحابه، فأنزل الله عز وجل في قول عبد الله بن أبي: {الذين قالوا لإخوانهم} في النسب والقرابة، وليسوا بإخوانهم في الدين، ولا الولاية، كقوله سبحانه: {وإلى ثمود أخاهم صالحا} (هود: 61)، ليس بأخيهم في الدين ولا في الولاية، ولكن أخاهم في النسب والقرابة، {وقعدوا} عن القتال، {لو أطاعونا ما قتلوا}، فأوجب الله لهم الموت صفرة قمأة والإيجاب لمن كرهوا قتله من أقربائهم، فقال سبحانه: {قل فادرءوا عن أنفسكم الموت إن كنتم صادقين}...
جامع البيان عن تأويل آي القرآن للطبري 310 هـ :
... معنى الآية: وليعلم الله الذين قالوا لإخوانهم الذين أصيبوا مع المسلمين في حربهم المشركين بأُحد يوم أُحد، فقتلوا هنالك من عشائرهم وقومهم، {وقَعَدُوا} يعني: وقعد هؤلاء المنافقون القائلون ما قالوا مما أخبر الله عزّ وجلّ عنهم من قيلهم عن الجهاد مع إخوانهم وعشائرهم في سبيل الله: {لو أَطاعُونَا} يعني: لو أطاعنا من قتل بأُحد من إخواننا وعشائرنا {ما قُتِلُوا} يعني: ما قتلوا هنالك. قال الله عزّ وجلّ لنبيه محمد صلى الله عليه وسلم: قل يا محمد لهؤلاء القائلين هذه المقالة من المنافقين: فادرءوا، يعني: فادفعوا من قول القائل: درأت عن فلان القتل، بمعنى: دفعت عنه... يقول تعالى ذكره: قل لهم: فادفعوا إن كنتم أيها المنافقون صادقين في قيلكم: لو أطاعنا إخواننا في ترك الجهاد في سبيل الله مع محمد صلى الله عليه وسلم وقتالهم أبا سفيان ومن معه من قريش، ما قتلوا هنالك بالسيف، ولكانوا أحياء بقعودهم معكم وتخلفهم عن محمد صلى الله عليه وسلم وشهود جهاد أعداء الله معه الموت، فإنكم قد قعدتم عن حربهم، وقد تخلفتم عن جهادهم، وأنتم لا محالة ميتون...
تأويلات أهل السنة للماتريدي 333 هـ :
معناه، والله أعلم: أن من قتل في سبيل الله فمكتوب ذلك عليه، ومن مات في بيت فمكتوب عليه. فإذا لم يقدروا دفع ما كتب عليهم من الموت كيف زعمتم أنهم لو قعدوا ما قتلوا؟ وهو مكتوب عليهم كالموت...
الكشف والبيان في تفسير القرآن للثعلبي 427 هـ :
التبيان في تفسير القرآن للطوسي 460 هـ :
قوله: (قل فادرأوا عن أنفسكم الموت إن كنتم صادقين) معناه ادفعوا... فان قيل كيف يلزمهم دفع الموت عن أنفسهم بقولهم أنهم لو لم يخرجوا لم يقتلوا؟ قيل لأن من علم الغيب في السلامة من القتل يجب أن يمكنه أن يدفع عن نفسه الموت فليدفعه، فهو، أجدى عليه. فان قيل: كيف كان هذا القول منهم كذبا مع أنه إخبار على ماجرت به العادة؟ قلنا: لأنهم لا يدرون لعلهم لو لم يخرجوا لدخل المشركون عليهم في ديارهم، فقتلوهم، هذا قول أبي علي، وقال غيره معنى (إن كنتم صادقين) أي محقين في تثبيطكم من الجهاد فرارا من القتل.
لطائف الإشارات للقشيري 465 هـ :
الذين ركنوا إلى ما سوَّلت لهم نفوسهم من إيثار الهوى، ثم اعترضوا على من يصرف أحكام القضاء وقالوا لو تَحَرَّزُوا عن البروز للقتال لم يسقطوا عن درجة السلامة.. لمَذْمُومةٌ تلك الظنون، ولَذَاهِبَةٌ عن شهود التحقيق تلك القلوب. قُلْ لهم -يا محمد- استديموا لأنفسكم الحياة، وادفعوا عنها هجوم الوفاة! ومتى تقدرون على ذلك؟! هيهات هيهات!.
الكشاف عن حقائق التنزيل للزمخشري 538 هـ :
{لإخوانهم} لأجل إخوانهم من جنس المنافقين المقتولين يوم أحد أو إخوانهم في النسب وفي سكنى الدار {وَقَعَدُواْ} أي قالوا وقد قعدوا على القتال: لو أطاعنا إخواننا فيما أمرناهم به من القعود ووافقونا فيه لما قتلوا كما لم نقتل {قُلْ فَادْرَءوا عَنْ أَنفُسِكُمُ الْمَوْتَ إِن كُنتُمْ صادقين} معناه: قل إن كنتم صادقين في أنكم وجدتم إلى دفع القتل سبيلاً وهو القعود عن القتال، فجدوا إلى دفع الموت سبيلاً، يعني أن ذلك الدفع غير مغن عنكم، لأنكم إن دفعتم القتل الذي هو أحد أسباب الموت، لم تقدروا على دفع سائر أسبابه المبثوثة، ولا بد لكم من أن يتعلق بكم بعضها. وروي: أنه مات يوم قالوا هذه المقالة سبعون منافقاً. فإن قلت: فقد كانوا صادقين في أنهم دفعوا القتل عن أنفسهم بالقعود، فما معنى قوله: {إِن كُنتُمْ صادقين}؟ قلت: معناه أن النجاة من القتل يجوز أن يكون سببها القعود عن القتال وأن يكون غيره، لأن أسباب النجاة كثيرة، وقد يكون قتال الرجل سبب نجاته ولو لم يقاتل لقتل، فما يدريكم أن سبب نجاتكم القعود وأنكم صادقون في مقالتكم؟ وما أنكرتم أن يكون السبب غيره. ووجه آخر: إن كنتم صادقين في قولكم: لو أطاعونا وقعدوا ما قتلوا، يعني أنهم لو أطاعوكم وقعدوا لقتلوا قاعدين كما قتلوا مقاتلين. وقوله: {فَادْرَءوا عَنْ أَنفُسِكُمُ الْمَوْتَ} استهزاء بهم، أي إن كنتم رجالاً دفاعين لأسباب الموت، فادرأوا جميع أسبابه حتى لا تموتوا...
المحرر الوجيز في تفسير الكتاب العزيز لابن عطية 542 هـ :
ولزوم هذه الحجة هو أنكم أيها القائلون: إن التوقي واستعمال النظر يدفع الموت، فتوقوا وانظروا في الذي يغشاكم منه حتف أنوفكم، فادفعوه إن كان قولكم صدقاً، أي إنما هي آجال مضروبة عند الله...
تفسير المنار لرشيد رضا 1354 هـ :
ثم ذكر المنافقين قولا آخر قالوه بعد القتال- وإنما كان القول السابق قبل القتال اعتذارا عن القعود والتخلف- فقال: (الذين قالوا لإخوانهم وقعدوا لو أطاعونا ما قتلوا) أي هم الذين قالوا لإخوانهم، أو هو بدل من قوله "الذين نافقوا "أو نعت له. أي قالوا لأجل إخوانهم الذين قتلوا في أحد وفي شأنهم والحال أنهم هم قد قعدوا عن القتال: لو أطاعونا في القعود عن القتال فلم يخرجوا كما أننا لم نخرج لما قتلوا كما أننا نحن لم نقتل إذ لم نخرج. قال الأستاذ الإمام: هذا وصف آخر من أوصاف المنافقين جاء في سياق التقريع المتقدم. وقدم القول فيه على القعود عن القتال لأنه أقبح منه، فإن القعود ربما كان لعذر أو التمس الناس له عذرا واللوم فيه على فاعله وحده لأن إثمه لا يتعداه إلى غيره. وأما هذا القول الخبيث فإنه أدل على فساد السريرة وضعف العقل والدين، وضرره يتعدى لما فيه من تثبيط همم المجاهدين، أقول: ويدل على إصرارهم ما اجترموه من التثبيط والنهي حين انفصل ابن أبي بأصحابه من العسكر مؤيدين ذلك بالاحتجاج على أنهم فعلوا الصواب وقد دحض الله تعالى حجتهم بقوله لنبيه (قل فادرءوا عن أنفسكم الموت إن كنتم صادقين) قال الأستاذ الإمام أي أن هذا القول في حكمه الجازم يتضمن أن علمهم قد أحاط بأسباب الموت في هذه الواقعة، وإذا جاز هذا فيها جاز في غيرها، وحينئذ يمكنهم درء الموت أي دفعه عن أنفسهم ولذلك طالبهم به وجعله حجة عليهم.
وقد يقال: إن فرقا بين التوقي من القتل بالبعد عن أسبابه وبين دفع الموت بالمرة، فالموت حتم عند انتهاء الأجل المحدود وإن طال والقتل ليس كذلك فكيف احتج عليهم بطلب درء الموت عن أنفسهم؟ قال: وهذا اعتراض يجيء من وقوف النظر فكل يعلم ولا سيما من حارب أنه ما كل من حارب يقتل فقد عرف بالتجربة أن كثيرين يصابون بالرصاص في أثناء القتال ولا يموتون وأن كثيرين يخرجون من المعمعة سالمين ولا يلبثون بعدها أن يموتوا حتف أنوفهم كما يموت كثير من القاعدين عن القتال. فما كل مقاتل يموت، ولا كل قاعد يسلم، وإذا لم يكن أحد الأمرين حتما سقط قولهم وظهر بطلانه. وأقول: إنه ذكر في المسألة كلاما آخر لم أكتبه في وقته ولم أفرغ له بعده حتى نسيته. وكل من سمع كلام من لاقوا الحروب يعجب من كثرة الوقائع التي يسلم فيها المخاطرون ويهلك الحذرون...
تيسير الكريم المنان في تفسير القرآن لابن سعدي 1376 هـ :
أي: جمعوا بين التخلف عن الجهاد، وبين الاعتراض والتكذيب بقضاء الله وقدره، قال الله ردًّا عليهم: {قل فادرءوا} أي: ادفعوا {عن أنفسكم الموت إن كنتم صادقين} إنهم لو أطاعوكم ما قتلوا، لا تقدرون على ذلك ولا تستطيعونه. وفي هذه الآيات دليل على أن العبد قد يكون فيه خصلة كفر وخصلة إيمان، وقد يكون إلى أحدهما أقرب منه إلى الأخرى...
في ظلال القرآن لسيد قطب 1387 هـ :
ثم مضى يكشف بقية موقفهم في محاولة خلخلة الصفوف والنفوس: (الذين قالوا لإخوانهم -وقعدوا- لو أطاعونا ما قتلوا).. فهم لم يكتفوا بالتخلف -والمعركة على الأبواب- وما يحدثه هذا التخلف من رجة وزلزلة في الصفوف والنفوس، وبخاصة أن عبد الله بن أبي، كان ما يزال سيدا في قومه، ولم يكشف لهم نفاقه بعد، ولم يدمغه الله بهذا الوصف الذي يهز مقامه في نفوس المسلمين منهم. بل راحوا يثيرون الزلزلة والحسرة في قلوب أهل الشهداء وأصحابهم بعد المعركة، وهم يقولون: (لو أطاعونا ما قتلوا).. فيجعلون من تخلفهم حكمة ومصلحة، ويجعلون من طاعة الرسول صلى الله عليه وسلم واتباعه مغرما ومضرة. وأكثر من هذا كله يفسدون التصور الإسلامي الناصع لقدر الله، ولحتمية الأجل، ولحقيقة الموت والحياة، وتعلقهما بقدر الله وحده.. ومن ثم يبادرهم بالرد الحاسم الناصع، الذي يرد كيدهم من ناحية، ويصحح التصور الإسلامي ويجلو عنه الغبش من ناحية: (قل: فادرؤوا عن أنفسكم الموت إن كنتم صادقين)..
فالموت يصيب المجاهد والقاعد، والشجاع والجبان. ولا يرده حرص ولا حذر. ولا يؤجله جبن ولا قعود.. والواقع هو البرهان الذي لا يقبل المراء.. وهذا الوقاع هو الذي يجبههم به القرآن الكريم، فيرد كيدهم اللئيم، ويقر الحق في نصابه، ويثبت قلوب المسلمين. ويسكب عليها الطمأنينة والراحة واليقين..
ومما يلفت النظر في الاستعراض القرآني لأحداث المعركة، تأخيره ذكر هذا الحادث -حادث نكول عبد الله ابن أبي ومن معه عن المعركة- وقد وقع في أول أحداثها وقبل ابتدائها.. تأخيره إلى هذا الموضع من السياق.. وهذا التأخير يحمل سمة من سمات منهج التربية القرآنية.. فقد آخره حتى يقرر جملة القواعد الأساسية للتصور الإسلامي التي قررها؛ وحتى يقر في الأخلاد جملة المشاعر الصحيحة التي أقرها؛ وحتى يضع تلك الموازين الصادقة للقيم التي وضعها..
ثم يشير هذه الإشارة إلى "الذين نافقوا". وفعلتهم وتصرفهم بعدها، وقد تهيأت النفوس لإدراك ما في هذه الفعلة وما في هذا التصرف من انحراف عن التصور الصحيح، وعن القيم الصحيحة في الميزان الصحيح.. وهكذا ينبغي أن تنشأ التصورات والقيم الإيمانية في النفس المسلمة، وأن توضع لها الموازين الصحيحة التي تعود إليها لاختبار التصورات والقيم، ووزن الأعمال والأشخاص، ثم تعرض عليها الأعمال والأشخاص -بعد ذلك- فتحكم عليها الحكم المستنير الصحيح، بذلك الحس الإيماني الصحيح.. ولعل هنالك لفتة أخرى من لفتات المنهج الفريد. فعبد الله بن أبي كان إلى ذلك الحين ما يزال عظيما في قومه -كما أسلفنا- وقد ورم أنفه لأن النبي صلى الله عليه وسلم لم يأخذ برأيه -لأن إقرار مبدأ الشورى وإنفاذه اقتضى الأخذ بالرأي الآخر الذي بدا رجحان الاتجاه إليه في الجماعة- وقد أحدث تصرف هذا المنافق الكبير رجة في الصف المسلم، وبلبلة في الأفكار، كما أحدثت أقاويله بعد ذلك عن القتلى حسرات في القلوب وبلبلة في الخواطر..
فكان من حكمة المنهج إظهار الاستهانة به وبفعلته وبقوله؛ وعدم تصدير الاستعراض القرآني لأحداث الغزوة بذلك الحادث الذي وقع في أولها؛ وتأخيره إلى هذا الموضع المتأخر من السياق. مع وصف الفئة التي قامت به بوصفها الصحيح: "الذين نافقوا "والتعجيب من أمرهم في هذه الصيغة المجملة: (ألم تر إلى الذين نافقوا؟)، وعدم إبراز اسم كبيرهم أو شخصه، ليبقى نكره في:"الذين نافقوا "كما يستحق من يفعل فعلته، وكما تساوي حقيقته في ميزان الإيمان.. ميزان الإيمان الذي أقامه فيما سبق من السياق...
التحرير والتنوير لابن عاشور 1393 هـ :
والمراد بالإخوان هنا عين المراد هناك، وهم الخزرج الذين قتلوا يوم أُحُد، وهم من جلّة المؤمنين.
وجملة {وقعدوا} حال معترَضة، ومعنى لو أطاعونا أي امتثلوا إشارتنا في عدم الخروج إلى أُحُد، وفعلوا كما فعلنا، وقرأ الجمهور: ما قُتِلوا بتخفيف التاء من القتل. وقرأه هشام عن ابن عامر بتشديد التاء من التقتيل للمبالغة في القتل، وهو يفيد معنى تفظيعهم ما أصاب إخوانهم من القتل طعناً في طاعتهم النبي صلى الله عليه وسلم
وقوله: {قل فادرءوا عن أنفسكم الموت إن كنتم صادقين} أي ادرأوه عند حلوله، فإنّ من لم يمت بالسيف مات بغيره أي: إن كنتم صادقين في أنّ سبب موت إخوانكم هو عصيان أمركم.
زهرة التفاسير - محمد أبو زهرة 1394 هـ :
وخلاصة القول: إنهم فرحون بأنهم لم يقتلوا لأنهم لم يخرجوا، ولائمون لمن خرجوا وقتلوا، شامتون فيهم، وهم بهذا يقررون أن موتهم سببه الخروج للقتال، وقد رد الله سبحانه وتعالى ذلك عليهم ببيان أن الموت مكتوب على الإنسان، وتقدير أسبابه، فقد يكون قتال ولا موت، وقد يكون موت من غير قتال، فقال سبحانه: {قل فادرءوا عن أنفسكم الموت عن كنتم صادقين}. الفاء هنا هي التي تسمى فاء الإفصاح وهي تفصح عن شرط مقدر، والمعنى: إذا كنتم تظنون أنكم دفعتم عن أنفسكم الموت بامتناعكم عن الذهاب إلى الميدان وقعودكم في الديار، فادرءوا أي ادفعوا عن أنفسكم الموت المكتوب الذي لا تفرون منه أبدا وهذا كقوله تعالى: {أينما تكونوا يدرككم الموت ولو كنتم في بروج مشيدة...78} [النساء].
والمرمى في هذا النص أنهم يعتقدون أنهم نجوا من الموت بقعودهم، فهل يعتقدون أنهم نجوا منه نهائيا؟. إنه ملاحقهم، مادام ملاحقهم وهو حقيقة مقررة يثبتها الحس المستمر، فلماذا تفرون من القتال؟ والتعليق في قوله تعالى: {إن كنتم صادقين} لإفادة كذب حسهم، وكذب قولهم في زعمهم أن القعود سبب للنجاة، فإن الله سبحانه وتعالى يذكر لهم أنهم إن كانوا صادقين في أن القعود سبب للنجاة، فليدفعوا عن أنفسهم الموت؛ لأن الموت لا يدفعه قعود ولا يستعجله خروج.
ولتوضيح هذا الذي نقصده نقول: إن كلام هؤلاء المنافقين ككلام الكافرين الذي حكاه الله تعالى آنفا في قوله تعالى: {يا أيها الذين آمنوا لا تكونوا كالذين كفروا وقالوا لإخوانهم إذا ضربوا في الأرض أو كانوا غزى لو كانوا عندنا ما ماتوا وما قتلوا ليجعل الله ذلك حسرة في قلوبهم...156} [آل عمران]. وإن هؤلاء قد زعموا أن القعود دافع للموت مانع من نزوله، فإن كان في إمكانهم بقعود أو نحوه أن يدفعوه فليدفعوه إذا جاء إن كانوا صادقين في هذا الزعم الذي زعموه، والمؤدى أن الموت إذا جاء الأجل ليس له من دفاع، فلا ينجي منه القعود، ولا ينزله الخروج، فزعمهم بأنهم كانوا ينجون لو لم يخرجوا زعم باطل، وإن كانوا صادقين فليدفعوه إذا نزل. اللهم اجعل لنا في الموت عبرة، واجعل خير أعمالنا خواتيمها، وخير أيامنا يوم لقائك يا رب العالمين...
تفسير من و حي القرآن لحسين فضل الله 1431 هـ :
ويُتابع هؤلاء المنافقون عملية الإيحاء بالأفكار السلبيّة التي تملأ نفوس المؤمنين حسرةً وألماً وتُبعدهم عن خطّ الإيمان في تصوّراتهم الحياتية، ويصوّر لنا القرآن هذه العمليّة: [الذين قالوا لإخوانهم] الذين قتلوا في المعركة [وقعدوا] فلم يخرجوا معهم ليقاتلوا المشركين [لو أطاعونا] في البقاء في بيوتهم والقعود عن القتال وهو ما أمرناهم به [ما قتلوا] فهم قد عرّضوا أنفسهم للقتل، أمّا نحن فقد استطعنا أن نحفظ حياتنا بقعودنا عن الخروج، وذلك بحصولنا على السَّلامة من الموت. [قل] يا محمَّد [فادرأوا عن أنفسكم] أي فادفعوا [الموت] إذا كنتم تملكون أسباب الحياة والموت وتعرفون مصادر الموت وموارده، فإذا كانت مسألة الحياة هي القعود عن القتال والبقاء في البيوت، وكانت مسألة الموت هي الاندفاع إلى الحرب والمشاركة فيها، فهل تستطيعون الحصول على الخلود وأنتم باقون في بيوتكم أو بعيدون عن ساحة الحرب؟! فإنَّ قضية الموت والحياة ليست خاضعة للفرص التي يوفرها الإنسان لنفسه أو يختارها في بعض مجالاته، بل هي بيد اللّه [فإذا جاء أجلُهُم لا يستأخرون ساعةً ولا يستقدمون] (الأعراف: 34)؛ [قل لو كنتم في بيوتكم لبرز الذين كتب عليهم القتلُ إلى مضاجعهم] (آل عمران: 154)؛ وهكذا أراد اللّه، من خلال هذا التحدّي للمفاهيم التي طرحوها في الساحة، أن يكشف كذبهم وزيف واقعهم، لأنَّهم لا يستطيعون مواجهة هذا التحدّي في قليلٍ أو كثير. [إن كنتم صادقين] فهل يُبعدكم البُعد عن ساحة الجهاد عن الموت في ما تستقبلونه من الزمان؟ إنَّ ذلك لن يعفيكم من القضاء المحتوم الذي يجري على سنّة اللّه في الإنسان، فكلّ إنسان يموت بأجله، فلا يهرب من الحرب الجهادية ليسلم؛ فقد يلتقي بالموت وهو في راحةٍ ودعةٍ وأمان...
الأمثل في تفسير كتاب الله المنزل - لجنة تأليف بإشراف الشيرازي 2009 هـ :
لم يكتف المنافقون بانصرافهم عن الإسهام مع المؤمنين في القتال، والسعي في إضعاف الروح المعنوية للآخرين، بل عمدوا إلى لوم المقاتلين المجاهدين بعد عودتهم من المعركة، وبعد ما لحق بهم ما لحق قائلين (لو أطاعونا ما قتلوا).
فيرد عليهم القرآن الكريم في الآية الحاضرة قائلاً (الذين قالوا لإخوانهم وقعدوا لو أطاعونا ما قتلوا قل فادرأوا عن أنفسكم الموت إن كنتم صادقين).
يعني أنكم بكلامكم هذا تريدون الادعاء بأنكم مطلعون على عالم الغيب. وإنكم عارفون بالمستقبل وحوادثه، فإذا كنتم صادقين في ذلك فادفعوا عن أنفسكم الموت، لأنكم طبقاً لهذا الادعاء ينبغي أن تعرفوا علة موتكم، وتقدرون على تجنبها، وتحاشيها، وإبطال مفعولها.
افرضوا أنكم لم تقتلوا في ساحات الجهاد والشرف، فهل يمكنكم أن تضمنوا لأنفسكم سناً طويلاً، وعمراً خالداً؟؟ هل يمكنكم أن تمنعوا الموت عن أنفسكم أبداً ودائماً؟؟
فإذا لم يمكنكم تحاشي الموت هذه النهاية المحتّمة لكل نفس فلماذا تموتون في الفراش بذل وهوان، ولا تختارون الشهادة والموت بشرف وعز في ساحات الجهاد ضد أعداء الله وأعداء الرسالة؟؟
ثمّ إن الآية الحاضرة تتضمن نقطة أخرى يجب الانتباه إليها وهي:
لقد عبّر القرآن عن المؤمنين في هذه الآية بأنهم إخوان للمنافقين في حين لم يكن المؤمنون إخواناً للمنافقين إطلاقاً، فما هذه الأنواع من الملامة والتوبيخ للمنافقين؟ فيكون المعنى هو: إنكم أيها المنافقون كنتم تعتبرون المؤمنين إخواناً لكم فكيف تركتم نصرتهم في هذه اللحظات الخطيرة؟ ولهذا أردف سبحانه هذه الكلمة (لإخوانهم) بكلمة «الذين قعدوا» أي تقاعسوا عن المشاركة في المعركة.
فهل يصحّ أن يدعي الإنسان أخوته لآخر ثمّ يخذله حين يحتاج إلى نصره وتأييده ويقعد عنه حين يحتاج إلى حمايته؟!