ثم بين - سبحانه - ما أعطاه الله لذى القرنين من نعم فقال : { إِنَّا مَكَّنَّا لَهُ فِي الأرض وَآتَيْنَاهُ مِن كُلِّ شَيْءٍ سَبَباً فَأَتْبَعَ سَبَباً } .
وقوله : { مكنا } من التمكين بمعنى إعطائه الوسائل التى جعلته صاحب نفوذ وسلطان فى أقطار الأرض المختلفة . والمفعول محذوف ، أى : إنا مكنا له أمره من التصرف فيها كيف يشاء . بأن أعطيناه سلطانا وطيد الدعائم ، وآتيناه من كل شئ أراده فى دنياه لتقوية ملكه { سببا } أى سبيلا وطريقا يوصله إلى مقصوده ، كآلات السير ، وكثرة الجند ، ووسائل البناء والعمران .
وهذه الأسباب التى أعطاها الله إياه ، لم يرد حديث صحيح بتفصيلها ، فعلينا أن نؤمن بأن الله - تعالى - قد أعطاه وسائل عظيمة لتدعيم ، ملكه ، دون أن نلتفت إلى ما ذكره هنا بعض المفسرين من إسرائيليات لا قيمة لها .
وقوله : إنّا مَكّنا لَهُ الأرْضِ وآتَيْناهُ مِنْ كُلّ شَيْءٍ سبَبا يقول : إنا وطأنا له في الأرض ، وآتَيْناهُ مِنْ كُلّ شَيْءٍ سبَبا يقول : وآتيناه من كلّ شيء : يعني ما يتسبب إليه وهو العلم به .
وبنحو الذي قلنا في ذلك قال أهل التأويل . ذكر من قال ذلك :
حدثني عليّ ، قال : حدثنا عبد الله ، قال : ثني معاوية ، عن عليّ ، عن ابن عباس ، قوله : وآتَيْناهُ مِنْ كُلّ شَيْءٍ سبَبا يقول : علما .
حدثنا بشر ، قال : حدثنا يزيد ، قال : حدثنا سعيد ، عن قتادة ، قوله : وآتَيْناهُ مِنْ كُلّ شَيْءٍ سبَبا : أي علما .
حدثني يونس ، قال : أخبرنا ابن وهب ، قال : قال ابن زيد ، في قوله : وآتَيْناهُ مِنْ كُلّ شَيْءٍ سبَبا قال : من كلّ شيء علما .
حدثنا القاسم ، قال : حدثنا الحسين ، قال : ثني حجاج ، عن ابن جريج ، قوله : وآتَيْناهُ مِنْ كُلّ شَيْءٍ سبَبا قال : علم كلّ شيء .
حدثني محمد بن سعد ، قال : ثني أبي ، قال : ثني عمي ، قال : ثني أبي ، عن أبيه ، عن ابن عباس وآتَيْناهُ مِنْ كُلّ شَيْءٍ سبَبا علما .
حُدثت عن الحسين ، قال : سمعت أبا معاذ يقول : حدثنا عبيد ، قال : سمعت الضحاك يقول في قوله : وآتَيْناهُ مِنْ كُلّ شَيْءٍ سبَبا يقول : علما .
والتمكين له في الأرض أنه ملك الدنيا ، ودانت له الملوك كلها ، فروي أن جميع من ملك الدنيا كلها أربعة : مؤمنان وكافران ، والمؤمنان : سليمان بن داود ، والإسكندر ، والكافران نمرود وبخت نصر ، وقوله { وآتيناه من كل شيء سبباً } معناه علماً في كل أمر ، وأقيسة يتوصل بها إلى معرفة الأشياء ، وقوله { كل شيء } عموم ، معناه الخصوص في كل ما يمكن أن يعلمه ويحتاج إليه ، وثم لا محالة أشياء لم يؤتَ منها سبباً يعلمها به ، واختلف في { ذي القرنين } فقيل هو نبي ، وهذا ضعيف . وقيل هو ملَك بفتح اللام ، وروي عن علي بن أبي طالب أنه سمع رجلاً يدعو آخر يا ذا القرنين ، فقال أما كفاكم أن تسميتم بأسماء الأنبياء حتى تسميتم بأسماء الملائكة .
وروي عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه سئل عنه فقال «ملك مسح الأرض من تحتها بالأسباب »{[7890]} وقيل هو عبد ملِك بكسر اللام صالح ، نصح لله فأيده ، قاله علي بن أبي طالب ، وقال فيكم اليوم مثله ، وعنى بذلك نفسه ، والله أعلم .
جامع البيان عن تأويل آي القرآن للطبري 310 هـ :
وقوله:"إِنَّا مَكَّنَّا لَهُ فِي الأرْضِ وَآتَيْنَاهُ مِنْ كُلِّ شَيْءٍ سَبَبًا" يقول: إنا وطأنا له في الأرض، "وَآتَيْنَاهُ مِنْ كُلِّ شَيْءٍ سَبَبًا "يقول وآتيناه من كل شيء، يعني ما يتسبب إليه وهو العلم به... قال ابن زيد، في قوله "وَآتَيْنَاهُ مِنْ كُلِّ شَيْءٍ سَبَبًا" قال: من كلّ شيء علما..
تأويلات أهل السنة للماتريدي 333 هـ :
والأشبه أن يكون أنه كان ملكا. ألا ترى أنه قال: {إنا مكنا له في الأرض} أي ملكنا له في الأرض جملة، ذكر تمكين الأرض له جملة، يصنع فيها ما يشاء، لم يخص له ناحية منها دون ناحية، وليس كقوله: {أولم نمكن لهم حرما آمنا} الآية (القصص: 57) وكقوله: {ولقد مكناهم فيما إن مكناكم فيه} (الأحقاف: 26) ههنا خص مكانا لهم دون مكان. وأما في ذي القرنين فذكر التمكين له في الأرض، لم يخص ناحية منها دون ناحية؛ فهو أن ملكه، ومكن له الأرض كلها. وقول الحسن: إنه علمه، وولى له الحكم فهذا لا يدل أنه كان نبيا؛ لأن الملوك هم الذين كانوا يتولون الجهاد والغزو في ذلك الزمان. ألا ترى إلى قوله: {ابعث لنا ملكا نقاتل في سبيل الله}؟ (البقرة: 246) إن الملوك هم الذين كانوا يتولون الجهاد والغزو والقتال في ذلك الزمان مع العدو، فعلى ذلك هذا، وقوله: {أما من ظلم فسوف نعذبه} (الكهف: 87) {وأما من آمن وعمل صالحا فله جزاء الحسنى وسنقول له من أمرنا يسرا} (الكهف: 88) يحتمل منه إلهاما من الله تعالى أو تعليم الملك الذي كان فيه أو كان معه نبي، فأخبر له بذلك، والله أعلم.
{وآتيناه من كل شيء سببا} اختلف في ذلك:
قال بعضهم: علم المنازل أي منازل الأرض ومعالمها وآثارها.
وقال بعضهم: إعطاء السبب الذي به صلاح ما مكن له، وملك له مما تقع الحاجة إليه...
وأصله أنه ذكر أنه آتاه الذي به صلاح ما مكن، وملك عليه، ولم يبين ما ذلك السبب؟ فلا ندري ماذا أراد بذلك؟ والله أعلم...
النكت و العيون للماوردي 450 هـ :
{إِنَّا مَكَنَّا لَهُ فِي الأَرْضِ} يَحتمِل وجهين:
أحدهما: باستيلائه على مُلْكِها.
الثاني: بقِيامِه بمَصالحِها...
جهود الإمام الغزالي في التفسير 505 هـ :
قال في أعظم ملوك الأرض ذي القرنين: {إِنَّا مَكَّنَّا له في الأرضِ} فلم يكن جميعُ مُلْكِه وسَلْطَنَتِه إلا بتمكينِ الله تعالى إيّاه في جُزْءٍ مِن الأرضِ. [الإحياء: 4/322]...
الكشاف عن حقائق التنزيل للزمخشري 538 هـ :
{مِن كُلّ شيء} أي من أسباب كل شيء، أراده من أغراضه ومقاصده في ملكه {سَبَباً} طريقاً موصلاً إليه، والسبب ما يتوصل به إلى المقصود من علم أو قدرة أو آلة...
المحرر الوجيز في تفسير الكتاب العزيز لابن عطية 542 هـ :
{وآتيناه من كل شيء سبباً} معناه علماً في كل أمر، وأقيسة يتوصل بها إلى معرفة الأشياء، وقوله {كل شيء} عموم، معناه الخصوص في كل ما يمكن أن يعلمه ويحتاج إليه، وثم لا محالة أشياء لم يؤتَ منها سبباً يعلمها به...
نظم الدرر في تناسب الآيات و السور للبقاعي 885 هـ :
ولما كانت قصته من أدل دليل على عظمة الله، جلاها في ذلك المظهر فقال: {إنا} مؤكداً لأن المخاطبين بصدد التعنت والإنكار {مكنا} أي بما لنا من العظمة، قيل: بالملك وحده، وقيل مع النبوة، لأن ما ينسب إلى الله تعالى على سبيل الامتنان والإحسان جدير بأن يحمل على النهاية لا سيما إذا عبر عنه بمظهر العظمة {له في الأرض} مكنة يصل بها إلى جميع مسلوكها، ويظهر بها على سائر ملوكها {وءاتيناه} بعظمتنا {من كل شيء} يحتاج إليه في ذلك {سبباً} قال أبو حيان: وأصل السبب الحبل، ثم توسع فيه حتى صار يطلق على ما يتوصل به إلى المقصود...
إرشاد العقل السليم إلى مزايا الكتاب الكريم لأبي السعود 982 هـ :
{إِنَّا مَكَّنَّا لَهُ في الأرض} شُروعٌ في تلاوة الذِّكْر المعهودِ حسبما هو الموعودُ، والتمكينُ هاهنا: الإقدارُ..، يقال: مَكَّنَه ومَكَّنَ له ومعنى الأولِ جَعَله قادراً وقوياً، ومعنى الثاني جَعَل له قدرةً وقوةً، ولِتلازُمِهما في الوجود وتقارُبِهما في المعنى يُستعمَل كلٌّ منهما في مَحَلّ الآخَر...
محاسن التأويل للقاسمي 1332 هـ :
{إِنَّا مَكَّنَّا لَهُ فِي الْأَرْضِ} أي بالقوة والرأي والتدبير والسعة في المال والاستظهار بالعدد وعظم الصيت وكبر الشهرة...
في ظلال القرآن لسيد قطب 1387 هـ :
(إِنَّا مَكَّنَّا له في الأرضِ وآتَيْنَاهُ مِنْ كُلِّ شَيْءٍ سَبَباً).. لقد مَكَّنَ اللهُ له في الأرض، فأعطاه سلطانا وطيدَ الدّعائمِ؛ ويَسَّرَ له أسبابَ... البِناء والعُمْران... والمَتاعِ.. وسائر ما هو مِن شأن البَشر أن يُمَكَّنوا فيه في هذه الحياة...
التحرير والتنوير لابن عاشور 1393 هـ :
التمكين: جعل الشيء متمكناً، أي راسخاً، وهو تمثيل لقوّة التصرف بحيث لا يزعزع قوته أحد. وحق فعل (مكنّا) التعدية بنفسه، فيقال: مكّناه في الأرض كقوله {مكناهم في الأرض ما لم نمكن لكم} [الأنعام: 6]. اللام في قوله: {مَكَّنَّا لَهُ في الأَرْضِ} للتوكيد كاللام في قولهم: شكرت له، ونصحت له، والجمْع بينهما تفنن. وعلى ذلك جاء قوله تعالى: {مكناهم في الأرض ما لم نمكن لكم} [الأنعام: 6]. فمعنى التمكين في الأرض إعطاء المقدرة على التصرف. والمراد بالأرض أهل الأرض، والمراد بالأرض أرض معينة وهي أرض مُلكه. وتقدم عند قوله تعالى: {وكذلك مكنا ليوسف في الأرض} [يوسف: 56]...
التيسير في أحاديث التفسير للمكي الناصري 1415 هـ :
لَقب "ذي القرنين "الذي يَظهَر أنه لَقَبٌ مُشترَكٌ بين عدة أشخاص لم يُطلقه كتابُ الله على الإسكندر المقدوني، اليوناني الأصل، والوثني العقيدة، الذي هو أحد مَن اشتَهروا بهذا اللقب، بل هو شخصٌ آخَرُ تَحَدَّث كتابُ الله عما آتاهُ مِن نَصْرٍ وتمكينٍ، حتى امتَدَّ نفوذُه من المغرب إلى المشرق، ونَصَّتِ الآياتُ الكريمةُ على... امتنانِ الله عليه وتنويهِه بشأنه، إذ قال تعالى: {إِنَّا مَكَّنَّا له في الأرضِ وآتَيْنَاهُ مِن كلِّ شيءٍ سَبَباً}، والتَّمْكينُ والتَّوفيقُ، إنما ينالُهما عبادُه الصالحون... قولُه تعالى: {وآتَيْنَاهُ مِنْ كُلِّ شيءٍ سَبَباً} بعدَ قولِه: {إِنَّا مَكَّنَّا لَهُ في الأرضِ} إشارةٌ إلى أنّ التّمْكينَ في الأرض، أيَّ أرضٍ كانت، واستقرارَ السُّلطانِ فيها، إنما يَتِمّ عند توافُر الأسباب والعواملِ الضرورية له، ويُفهَم من هذا أنه مَتَى اخْتَلَّ سببٌ من تلك الأسباب أو عاملٌ من تلك العوامل، وَقَعَ مِن الخَلَل بِحَسَبِه، وعلى قَدْرِ أهمِّيّتِه، وعلى رأس تلك الأسباب والعوامل: الإيمانُ بالله، وإقامةُ العَدْلِ بين الناس، ومُقاومةُ الفسادِ ورَدْعُ المُفْسدين، وهذه الأسبابُ والعواملُ كلُّها توفَّرت في ذي القرنين، طِبْقاً لِمَا حَكاه كِتابُ اللهِ في قِصّتِه...
فالتمكين يعني إعطاءه إمكانات لكل غرض يريده فيصرف به الأمور، لكن لماذا مكناه؟ مكناه لأنه مأمون على تصريف الأمور وفق منهج الله، ومأمون على ما أعطاه الله من إمكانات...
تفسير من و حي القرآن لحسين فضل الله 1431 هـ :
{مَكَّنَّا لَهُ}: جعلنا له قوّة وسلطاناً. {إِنَّا مَكَّنَّا لَهُ فِي الأرْضِ} فأعطيناه من القوة والسلطة والسيطرة، {وَآتَيْنَاهُ مِن كُلِّ شَيْءٍ سَبَباً} من الوسائل الفكرية والروحية والمادية، ومن القوى البشرية المتعاونة معه، المؤيّدة له، ومن المواقع المتقدمة في ساحات الصراع الواسعة على مستوى العالم الذي يحيط به...
الأمثل في تفسير كتاب الله المنزل - لجنة تأليف بإشراف الشيرازي 2009 هـ :
وفي استئناف الحديث عن ذي القرنين يقول تعالى: (إِنَّا مكنّا لهُ في الأرض). أي منحناه سُبل القوة والقدرة والحكم. (وآتيناه مِن كل شيء سبباً). بالرغم من أنّ مفهوم (السبب) يعني الحبل المستخدم في تسلُّق النخيل، إلا أن بعض المفسّرين يحصره في الوسائل المستخدمة في إِنجاز الأعمال، إِلاَّ أنَّ الواضح مِن مفهوم الآية أنَّ الكلمة المذكورة يُراد مِنها معناها ومفهومها الواسع، حيث إنَّ الله تبارك وتعالى منحَ ذا القرنين أسباب الوصول لكل الأشياء: العقل، العلم الكافي، الإِدارة السليمة، القوّة والقدرة، الجيوش والقوى البشرية، بالإِضافة إلى الإِمكانات المادية. أي إِنَّهُ مُنحَ كل الأسباب والسبُل المادية والمعنوية الكفيلة بتحقيق الأهداف المنشودة...