ثم أمر الله - تعالى - نبيه صلى الله عليه وسلم أن يلتجئ إلى خالقه وحده من شرور هؤلاء المشركين ، وأن يفوض أمره إليه ، فقال - تعالى - { قُلِ اللهم فَاطِرَ السماوات والأرض عَالِمَ الغيب والشهادة أَنتَ تَحْكُمُ بَيْنَ عِبَادِكَ فِي مَا كَانُواْ فِيهِ يَخْتَلِفُونَ } .
ولفظ : { اللهم } أصله يا الله . فلما استعمل دون حرف النداء . عوض عنه بالميم المشددة التى فى آخره .
ولفظ " فاطر ، عالم " منصوبان على النداء .
أى : قل - أيها الرسول الكريم - على سبيل الاستعاذة والاعتزال لما عليه هؤلاء المشركون من جهل وسفه ، يا الله ، يا خالق السموات والأرض ويا عالم الغائب والمشاهد والخفى والظاهر من أمور خلقك ، أنت وحدك الذى تحكم بين عبادك فيما كانوا فيه يختلفون فى الدنيا ، فتجازى كل نفس بما تستحقه من ثواب أو عقاب .
وما دام الأمر كذلك ، فاهدنى إلى صراط المستقيم ، وجنبنى الشرك والمشركين .
فالمقصود بالآية الكريمة تسلية الرسول صلى الله عليه وسلم عما فعله المشركون معه ، وإرشاده إلى ما يعصمه من كيدهم . وتعليم العباد وجوب الالتجاء إلى الله - تعالى - وحده - لدفع كيد أعدائه عنهم .
وقد ساق الإِملام ابن كثير عند تفسير لهذه الآية جملة من الأحاديث ، منها ما رواه الإِمام مسلم فى صحيحه عن أبى مسلمة بن عبد الرحمن قال : سألت عائشة : بأى شئ كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يفتتح صلاته إذا قام من الليل ؟
قالت : كان إذا قام من الليل افتتح صلاته بقوله : " اللهم رب جبريل وميكائيل وإسرافيل ، فاطر السموات والأرض . عالم الغيب والشهادة ، أنت تحكم بين عبادك فيما كانوا فيه يختلفون ، أهدنى لما اخْتُلِفَ فيه من الحق بإذنك ، إنك تهدى من تشاء إلى صراط مستقيم . . . " .
وقال صاحب الكشاف : " بعل - بكسر العين - أى : دهش وفزع رسول الله صلى الله عليه وسلم من شدة شكيمتهم فى الكفر ، فقيل له : " ادع الله بأسمائه الحسنى ، وقل : أنت وحدك تقدر على الحكم بينى وبينهم ، ولا حيلة لغيرك فيهم " وفيه وصف حالهم ، وإعذار لرسول الله صلى الله عليه وسلم وتسلية له ، ووعيد لهم . .
والجواب على هذا المسخ والانحراف والضلال هو ما لقنه الله لرسوله [ صلى الله عليه وسلم ] في مواجهة مثل هذه الحال :
( قل : اللهم فاطر السماوات والأرض ، عالم الغيب والشهادة ، أنت تحكم بين عبادك فيما كانوا فيه يختلفون ) . .
إنه دعاء الفطرة التي ترى السماء والأرض ؛ ويتعذر عليها أن تجد لها خالقاً إلا الله فاطر السماوات والأرض ، فتتجه إليه بالاعتراف والإقرار . وتعرفه بصفته اللائقة بفاطر السماوات والأرض . ( عالم الغيب والشهادة )المطلع
على الغائب والحاضر ، والباطن والظاهر . ( أنت تحكم بين عبادك فيما كانوا فيه يختلفون ) . . فهو وحده الحكم يوم يرجعون إليه . وهم لا بد راجعون .
القول في تأويل قوله تعالى : { قُلِ اللّهُمّ فَاطِرَ السّمَاوَاتِ وَالأرْضِ عَالِمَ الْغَيْبِ وَالشّهَادَةِ أَنتَ تَحْكُمُ بَيْنَ عِبَادِكَ فِي مَا كَانُواْ فِيهِ يَخْتَلِفُونَ } .
يقول تعالى ذكره لنبيه محمد صلى الله عليه وسلم : قل يا محمد ، الله خالق السموات والأرض عالمَ الغَيْبِ والشّهادَةِ الذي لا تراه الأبصار ، ولا تحسه العيون والشهادة الذي تشهده أبصار خلقه ، وتراه أعينهم أنْتَ تَحْكُمُ بينَ عِبادِكَ فتفصل بينهم بالحقّ يوم تجمعهم لفصل القضاء بينهم فيما كانُوا فِيهِ في الدنيا يَخْتَلِفُونَ من القول فيك ، وفي عظمتك وسلطانك ، وغير ذلك من اختلافهم بينهم ، فتقضي يومئذ بيننا وبين هؤلاء المشركين الذين إذا ذكرت وحدك اشمأزّت قلوبهم ، وإذا ذكر مَنْ دونك استبشروا بالحقّ . وبنحو الذي قلنا في ذلك قال أهل التأويل . ذكر من قال ذلك :
حدثنا محمد ، قال : حدثنا أحمد ، قال : حدثنا أسباط ، عن السديّ ، في قوله : فاطِرَ السّمَوَاتِ والأرْضِ فاطر : قال خالق . وفي قوله عالِمَ الغَيْبِ قال : ما غاب عن العباد فهو يعلمه ، وَالشّهادَةِ : ما عرف العباد وشهدوا ، فهو يعلمه .
أمر الله تعالى نبيه بالدعاء ورد الحكم إلى عدله ، ومعنى هذا الأمر تضمن الإجابة ، و { اللهم } عند سيبويه منادى ، وكذلك عند الكوفيين ، إلا أنه خالفهم في هذه الميم المشددة . فقال سيبويه : هي عوض من حرف النداء المحذوف إيجازاً ، وهي دلالة على أن ثم ما حذف . وقال الكوفيون : بل هو فعل اتصل بالمكتوبة وهو : أم ، ثم حذفت الهمزة تخفيفاً ، فكأن معنى { اللهم } : بالله أم بفضلك ورحمتك .
و : { فاطر } منادى مضاف ، أي { فاطر السماوات } . و { الغيب } : ما غاب عن البشر . و { الشهادة } : ما شاهدوه .
مشروع تقني يهدف لتوفير قالب تقني أنيق وحديث يليق بالمحتوى الثري لمشروع الجامع التاريخي لتفسير القرآن الكريم الصادر عن مؤسسة البحوث والدراسات العلمية (مبدع)، وقد تم التركيز على توفير تصفح سلس وسهل للمحتوى ومتوافق تماما مع أجهزة الجوال، كما تم عمل بعض المميزات الفريدة كميزة التلوين التلقائي للنصوص والتي تم بناء خوارزمية برمجية مخصصة لهذا الغرض.
تم الحصول على المحتوى من برنامج الجامع التاريخي لتفسير القرآن الكريم.
المشروع لا يتبع أي جهة رسمية أو غير رسمية، إنما هي جهود فردية ومبادرات شخصية لبعض الخبراء في مجال البرمجيات.
المشروع لازال في بداياته وننوي إن شاء الله العمل على تطويره بشكل مستمر وسنضع خطة تطوير توضح المميزات التي يجري العمل عليها إن شاء الله.
الدعاء للقائمين عليه، نشر الموقع والتعريف به، إرسال الملاحظات والمقترحات.