التفسير الوسيط للقرآن الكريم لسيد طنطاوي - سيد طنطاوي [إخفاء]  
{وَإِذۡ قَالَتِ ٱلۡمَلَـٰٓئِكَةُ يَٰمَرۡيَمُ إِنَّ ٱللَّهَ ٱصۡطَفَىٰكِ وَطَهَّرَكِ وَٱصۡطَفَىٰكِ عَلَىٰ نِسَآءِ ٱلۡعَٰلَمِينَ} (42)

وبعد أن بين - سبحانه - ما يدل على مظاهر قدرته فى ولادة يحيى - عليه السلام - حيث وهبه لوالديه بعد أن بلغا مبلغاً كبيراً من العمر يستبعد معه في العادة الإنجاب . . . بعد أن بين كل ذلك ساق قصة أخرى أدل على قدرة الله ونفاذ إرادته من قصة ولادة يحيى ، وهذه القصة هي قصة ولادة عيسى - عليه السلام - من غير أب . وقد مهد القرآن لولادة عيسى ببيان أن الله - تعالى - قد اصطفى أمه مريم وطهرها من كل فاحشة ، وفضلها على نساء زمانها ، وصانها من كل ما يخدش المروءة والشرف . استمع إلى القرآن الكريم وهو يحكي ذلك بأسلوبه البليغ الحكيم فيقول : { وَإِذْ قَالَتِ . . . . } .

قوله - تعالى - { وَإِذْ قَالَتِ الملائكة يامريم . . } إلخ معطوف على قوله : { إِذْ قَالَتِ امرأت عِمْرَانَ رَبِّ إِنِّي نَذَرْتُ لَكَ مَا فِي بَطْنِي } الخ عطف القصة على القصة ، فإن الله - تعالى - بعد أن ذكر ما قالته امرأة عمران عندما أحست بالحمل . وبعد ولادتها لمريم ، وما كان من شأنها وتربيتها وكفالتها بعد أن ذكر ذلك ، بين - سبحانه - ما كان من أمر مريم بعد أن بلغت رشدها واكتمل تكوينها ، وجاء بقصة زكريا بين قصة الأم وابنتها لما بينهما من مناسبة إذ أن دعاء زكريا ربه كان سببه ما رآه من إكرام الله - سبحانه - لمريم ولأن الكل لبيان اصطفاء آل عمران .

والمعنى ، واذكر يا محمد للناس وقت أن قالت الملائكة لمريم - التي تقبلها ربها بقبول حسن وأنبتها نباتا حسنا - يا مريم { إِنَّ الله اصطفاك } أى اختارك واجتباك لطاعته ، وقبلك لخدمة بيته { وَطَهَّرَكِ } من الأدناس والأقذار ، ومن كل ما يتنافى مع الخلق الحميد ، والطبع السليم { واصطفاك على نِسَآءِ العالمين } بأن وهب لك عيسى من غير أب دون أن يمسسك بشر . وجعلك أنت وهو آية للعالمين .

فأنت ترى أن الله - تعالى - قد مدح مريم مدحا عظيما بأن شهد لها بالاصطفاء والطهر والمحبة ، وأكد هذا الخبر للاعتناء بشأنه ، والتنويه بقدره .

قال الفخر الرازي ما ملخصه :

والاصطفاء الأول إشارة إلى ما اتفق لها من الأمور الحسنة في أول عمرها بأن قبل الله - تعالى - تحريرها أى خدمتها لبيته ، مع أنها أنثى ولم يحصل مثل هذا المعنى لغيرها من الإناث ، وبأن فرغها لعبادته وخصها في هذا المعنى بأنواع اللطف والهداية والعصمة ، وبأن كفاها أمر معيشتها فكان يأتيها رزقها من عند الله . .

وأما الاصطفاء الثاني فالمراد به أنه - تعالى - وهب لها عيسى - عليه السلام من غير أب ، وجعلها وابنها آية للعالمين " .

ولا شك أن ولادتها لعيسى من غير أب ودون أن يمسها بشر ، هو أمر اختصت به مريم ولم تشاركها فيه امرأة قط فى أى زمان أو مكان ، فهى أفضل النساء في هذه الحيثية .

أما من حيث قوة الإيمان ، وصلاح الأعمال فيجوز أن يحمل اصطفاؤها على نساء العالمين على معنى تفضيلها على عالمى زمانها من النساء وبعضهم يرى أفضليتها على جميع النساء في سائر الأعصار .

هذا وقد أورد ابن كثير عدداً من الأحاديث التي وردت في فضل مريم وفي فضل غيرها من النساء ، ومن ذلك ما أخرجه الشيخان عن علي بن أبي طالب أنه قال : سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول : " خير نسائها مريم بنت عمران ، وخير نسائها خديجة بنت خويلد "

وروى الترمذي عن أنس أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال : " حسبك من نساء العالمين مريم بنت عمران ، وخديجة بن خويلد ، وفاطمة بنت محمد ، وآسية بنت مزاحم امرأة فرعون " وأخرج البخارى عن أبى موسى الأشعري قال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم " كمل من الرجال كثير ولم يكمل من النساء إلا آسية امرأة فرعون ، ومريم بنت عمران ، وإن فضل عائشة على النساء كفضل الثريد على سائر الطعام " .

وقول الملائكة لمريم إن الله اصطفاك وطهرك . . . إلخ الراجح أنهم قالوه لها مشافهة ، لأن هذا ما يدل عليه ظاهر الاية ، وإليه ذهب صاحب الكشاف فقد قال : روي أنهم كلموها شفاها معجزة لزكريا ، أو إرهاصا لنبوة عيسى - عليه السلام - .

وقال الجمل قوله : { وَإِذْ قَالَتِ الملائكة } أى مشافهة لها بالكلام ، وهذا من باب التربية الروحية بالتكاليف الشرعية المتعلقة بحال كبرها بعد التربية الجسمانية اللائقة بحال صغرها " .

وقيل كأن خطابهم لها بالإلهام أو بالرؤيا الصادقة في النوم .

والأول أولى لأنه هو الظاهر من الآية ، ولأنه الموافق لأقوال جمهور المفسرين ، ولأنه جاء صريحا في آيات أخرى أن الملك قد تمثل لها بشراً سويا وكلمها ، وذلك في قوله - تعالى - في سورة مريم : { واذكر فِي الكتاب مَرْيَمَ إِذِ انتبذت مِنْ أَهْلِهَا مَكَاناً شَرْقِياً فاتخذت مِن دُونِهِم حِجَاباً فَأَرْسَلْنَآ إِلَيْهَآ رُوحَنَا فَتَمَثَّلَ لَهَا بَشَراً سَوِيّاً قَالَتْ إني أَعُوذُ بالرحمن مِنكَ إِن كُنتَ تَقِيّاً قَالَ إِنَّمَآ أَنَاْ رَسُولُ رَبِّكِ لأَهَبَ لَكِ غُلاَماً زَكِيّاً } قال الآلوسي : " واستدل بهذه الآية من ذهب إلى نبوة مريم : لأن تكليم الملائكة يقتضيها ومنعها اللقانى وغيره من العلماء ، لأن الملائكة قد كلموا من ليس بنبي إجماعا ، فقد جاء في الحديث الشريف أنهم كلموا رجلا خرج لزيارة أخ له في الله ، وأخبروه بأن الله يحبه كما أحب هو أخاه ، ولم يقل أحد بنبوته - فكلام الملائكة لمريم لا يقتضي نبوتها وهو الصحيح " .

 
في ظلال القرآن لسيد قطب - سيد قطب [إخفاء]  
{وَإِذۡ قَالَتِ ٱلۡمَلَـٰٓئِكَةُ يَٰمَرۡيَمُ إِنَّ ٱللَّهَ ٱصۡطَفَىٰكِ وَطَهَّرَكِ وَٱصۡطَفَىٰكِ عَلَىٰ نِسَآءِ ٱلۡعَٰلَمِينَ} (42)

33

وكأنما كانت هذه الخارقة تمهيدا - في السياق - لحادث عيسى الذي انبثقت منه كل الأساطير والشبهات . . وإن هو إلا حلقة من سلسلة في ظواهر المشيئة الطليقة . . فهنا يبدأ في قصة المسيح عليه السلام . وإعداد مريم لتلقي النفخة العلوية بالطهارة والقنوت والعبادة . .

( وإذ قالت الملائكة : يا مريم إن الله اصطفاك وطهرك واصطفاك على نساء العالمين . يا مريم اقنتي لربك واسجدي واركعي مع الراكعين ) . .

وأي اصطفاء ؟ ! وهو يختارها لتلقي النفخة المباشرة ، كما تلقاها أول هذه الخليقة : " آدم " ؟ وعرض هذه الخارقة على البشرية من خلالها وعن طريقها ؟ إنه الاصطفاء للأمر المفرد في تاريخ البشرية . . وهو بلا جدال أمر عظيم . .

ولكنها - حتى ذلك الحين - لم تكن تعلم ذلك الأمر العظيم !

والإشارة إلى الطهر هنا إشارة ذات مغزى . وذلك لما لابس مولد عيسى - عليه السلام - من شبهات لم يتورع اليهود أن يلصقوها بمريم الطاهرة ، معتمدين على أن هذا المولد لا مثال له في عالم الناس فيزعموا أن وراءه سرا لا يشرف . . قبحهم الله ! !

وهنا تظهر عظمة هذا الدين ؛ ويتبين مصدره عن يقين . فها هو ذا محمد [ ص ] رسول الإسلام الذي يلقى من أهل الكتاب - ومنهم النصارى - ما يلقى من التكذيب والعنت والجدل والشبهات . . ها هو ذا يحدث عن ربه بحقيقة مريم العظيمة وتفضيلها على " نساء العالمين " بهذا الإطلاق الذي يرفعها إلى أعلى الآفاق . وهو في معرض مناظرة مع القوم الذين يعتزون بمريم ، ويتخذون من تعظيمها مبررا لعدم إيمانهم بمحمد وبالدين الجديد !

أي صدق ؟ وآية عظمة ؟ وأية دلالة على مصدر هذا الدين ، وصدق صاحبه الأمين !

إنه يتلقى " الحق " من ربه ؛ عن مريم وعن عيسى عليه السلام ؛ فيعلن هذا الحق ، في هذا المجال . . ولو لم يكن رسولا من الله الحق ما أظهر هذا القول في هذا المجال بحال !

 
جامع البيان عن تأويل آي القرآن للطبري - الطبري [إخفاء]  
{وَإِذۡ قَالَتِ ٱلۡمَلَـٰٓئِكَةُ يَٰمَرۡيَمُ إِنَّ ٱللَّهَ ٱصۡطَفَىٰكِ وَطَهَّرَكِ وَٱصۡطَفَىٰكِ عَلَىٰ نِسَآءِ ٱلۡعَٰلَمِينَ} (42)

القول في تأويل قوله تعالى :

{ وَإِذْ قَالَتِ الْمَلاَئِكَةُ يَمَرْيَمُ إِنّ اللّهَ اصْطَفَاكِ وَطَهّرَكِ وَاصْطَفَاكِ عَلَىَ نِسَآءِ الْعَالَمِينَ }

يعني بذلك جلّ ثناؤه : والله سميع عليم { إذْ قالتِ امْرَأةُ عِمْرَانَ رَبّ إنّي نَذَرْتُ لَكَ ما فِي بَطْنِي مُحَرّرا } ، { وَإذْ قالَتِ المَلائِكَةُ يا مَرْيَمُ إنّ اللّهَ اصْطَفاكِ } .

ومعنى قوله : { اصْطَفاكِ } اختارك واجتباك لطاعته ، وما خصك به من كرامته . وقوله : { وَطَهّرَكِ } يعني : طهر دينك من الريب والأدناس التي في أديان نساء بني آدم . { وَاصْطَفاكِ على نِساءِ العَالَمِينَ } يعني : اختارك على نساء العالمين في زمَانك بطاعتك إياه ، ففضلك عليهم . كما روي عن رسول الله صلى الله عليه وسلم أنه قال : «خَيْرُ نِسائِها مَرْيَمُ بِنْتُ عِمْرَانَ ، وَخَيْرُ نِسائها خَدِيجَةُ بِنْتُ خُوَيْلِدٍ » يعني بقوله : خير نسائها : خير نساء أهل الجنة .

حدثني بذلك الحسين بن عليّ الصدائي ، قال : حدثنا محاضر بن المورّع ، قال : حدثنا هشام بن عروة ، عن أبيه ، عن عبد الله بن جعفر ، قال : سمعت عليا بالعراق ، يقول : سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول : «خَيْرُ نِسائها مَرْيَمُ بِنْتُ عِمْرَانَ ، وَخَيْرُ نِسائها خَدِيجَةُ » .

حدثني يونس ، قال : أخبرنا ابن وهب ، قال : ثني المنذر بن عبد الله الخزامي ، عن هشام بن عروة ، عن أبيه ، عن عبد الله بن جعفر بن أبي طالب ، أن رسول الله صلى الله عليه وسلم ، قال : «خَيْرُ نِساءِ الجَنّةِ مَرْيَمُ بِنْتُ عِمْرَانَ ، وَخَيْرُ نِساءِ الجَنّةِ خَدِيجَةُ بِنْتُ خُوَيْلِدٍ » .

حدثنا بشر ، قال : حدثنا يزيد ، قال : حدثنا سعيد ، عن قتادة قوله : { وَإذْ قالَتِ المَلائِكَةُ يا مَرْيَمُ إنّ اللّهَ اصْطَفَاكِ وَطَهّرَكِ وَاصْطفاكِ على نِساءِ العالَمِينَ } ذكر لنا أن نبيّ الله ، كان يقول : «حَسْبُكَ بِمَرْيَمَ بِنْتِ عِمْرَانَ ، وَامْرَأَةِ فِرْعَوْنَ ، وَخَدِيجَةَ بِنْتِ خُوَيْلِدٍ ، وَفاطِمَةَ بِنْتِ مُحَمّدٍ مِنْ نِساءِ العالَمِينَ » . قال قتادة : ذكر لنا أن نبيّ الله صلى الله عليه وسلم كان يقول : «خَيْرُ نِساءٍ رَكِبْنَ الإبِلَ صَوَالِحُ نِساءِ قُرَيْشٍ ، أحْناهُ على وَلَدٍ فِي صِغَرِهِ ، وأرْعاهُ على زَوْجٍ فِي ذَاتِ يَدِهِ » . قال قتادة : وذكر لنا أنه كان يقول : «لَوْ عَلِمْتُ أنّ مَرْيَمَ رَكِبَتِ الإبِلَ ما فَضّلْتُ عَلَيْهَا أحَدا » .

حدثنا الحسن بن يحيى ، قال : أخبرنا عبد الرزاق ، قال : أخبرنا معمر ، عن قتادة ، في قوله : { يا مَرْيَمُ إنّ اللّهَ اصْطَفَاكِ وَطَهّرَكِ وَاصْطَفَاكِ على نِساءِ العَالَمِينَ } قال : كان أبو هريرة يحدّث أن النبيّ صلى الله عليه وسلم قال : «خَيْرُ نِساءٍ رَكِبْنَ الإبِلَ صُلّحُ نِساءِ قُرَيْشٍ أحْناهُ على وَلَدٍ وأرْعاهُ لِزَوْجٍ فِي ذَاتِ يَدِهِ » قال أبو هريرة : ولم تركب مريم بعيرا قط .

حدثت عن عمار ، قال : حدثنا ابن أبي جعفر ، عن أبيه قوله : { وَإذْ قالَتِ المَلائِكَةُ يا مَرْيَمُ إنّ الله اصْطَفَاكِ وَطَهّرَكِ وَاصْطَفَاكِ على نِساءِ العالَمِينَ } قال : كان ثابت البناني يحدّث عن أنس بن مالك أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال : «خَيْرُ نِساءِ العالَمِينَ أرْبَعٌ : مَرْيَمُ بِنْتُ عِمْرَانَ ، وآسِيَةُ بِنْتُ مُزَاحِمٍ امْرَأةُ فِرْعَوْنَ ، وَخَدِيجَةُ بِنْتُ خُوَيْلِدٍ ، وَفَاطِمَةُ بِنْتُ مُحَمّدٍ » .

حدثني المثنى ، قال : حدثنا آدم العسقلاني ، قال : حدثنا شعبة ، قال : حدثنا عمرو بن مرّة ، قال : سمعت مرّة الهمداني يحدّث عن أبي موسى الأشعري ، قال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : «كَمُلَ مِنَ الرّجالِ كَثِيرٌ ، وَلَمْ يَكْمُلْ مِنَ النّساءِ إلاّ مَرْيَمُ وآسِيَةُ امْرأةُ فِرْعَوْنَ وَخَدِيجَةُ بِنْتُ خُوَيْلِدٍ وَفاطِمَةُ بِنْتُ مُحَمّدٍ » .

حدثني المثنى ، قال : حدثنا أبو الأسود المصري ، قال : حدثنا ابن لهيعة ، عن عمارة بن غزية ، عن محمد بن عبد الرحمن بن عمرو بن عثمان ، أن فاطمة بنت حسين بن عليّ حدثته أن فاطمة بنت رسول الله صلى الله عليه وسلم قالت : دخل رسول الله صلى الله عليه وسلم يوما وأنا عند عائشة ، فناجاني ، فبكيت ، ثم ناجاني ، فضحكت ، فسألتني عائشة عن ذلك ، فقلت : لقد عجلتِ ، أخبرك بسرّ رسول الله صلى الله عليه وسلم ! فتركتني ، فلما توفي رسول الله صلى الله عليه وسلم ، سألتها عائشة ، فقالت : نعم ، ناجاني فقال : «جِبْرِيلُ كانَ يُعارِضُ القُرْآنَ كُلّ عامٍ مَرّةً ، وَإنّهُ قَدْ عارَضَ القُرْآنَ مَرّتَيْنِ ، وَإنّهُ لَيْسَ مِنْ نَبِيّ إلاّ عُمّرَ نِصْفُ عُمْرِ الّذِي كَانَ قَبْلَهُ ، وَإنّ عِيسىَ أخِي كانَ عُمْرُهُ عِشْرِينَ وَمِائَةَ سَنَةٍ ، وَهَذِهِ لِي سِتّونَ ، وأحْسِبُنِي مَيّتا فِي عامِي هَذَا ، وَإنّهُ لَمْ تُرْزأ امْرأةٌ مِنْ نِساءِ العَالَمِينَ بِمِثْلِ مَا رُزِئْتِ ، وَلا تَكُونِي دُونَ امْرأةٍ صَبْرا » . قالت : فبكيت ، ثم قال : «أَنْتِ سَيّدَةُ نِساءِ أهْلِ الجَنّةِ إلاّ مَرْيَمَ البَتُولَ » فتُوفي عامه ذلك .

حدثني المثنى ، قال : حدثنا أبو الأسود ، قال : حدثنا ابن لهيعة ، عن عمرو بن الحارث ، أن أبا زياد الحميريّ حدثه ، أنه سمع عمار بن سعد يقول : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : «فُضّلَتْ خَدِيجَةُ على نِساءِ أُمّتِي كَما فُضّلَتْ مَرْيَمُ عَلى نِساءِ العَالَمِينَ » .

وبمثل الذي قلنا في معنى قوله : { وَطَهّرَكِ } : أنه وطهر دينك من الدنس والريب ، قال مجاهد .

حدثني محمد بن عمرو ، قال : حدثنا أبو عاصم ، عن عيسى ، عن ابن أبي نجيح ، عن مجاهد في قول الله : { إنّ اللّهَ اصْطَفاكِ وَطَهّرَكِ } قال : جعلك طيبة إيمانا .

حدثني المثنى ، قال : حدثنا أبو حذيفة ، قال : حدثنا شبل ، عن ابن أبي نجيح ، عن مجاهد ، مثله .

حدثنا القاسم ، قال : حدثنا الحسين ، قال : ثني حجاج ، عن ابن جريج : { وَاصْطَفاكِ على نِساءِ العالَمِينَ } قال : ذلك للعالمين يومئذ .

وكانت الملائكة فيما ذكر ابن إسحاق تقول ذلك لمريم شفاها .

حدثنا ابن حميد ، قال : حدثنا سلمة ، قال : ثني ابن إسحاق ، قال : كانت مريم حبيسا في الكنيسة ، ومعها في الكنيسة غلام اسمه يوسف ، وقد كان أمه وأبوه جعلاه نذيرا حبيسا ، فكانا في الكنيسة جميعا ، وكانت مريم إذا نفد ماؤها وماء يوسف ، أخذا قلتيهما فانطلقا إلى المفازة التي فيها الماء الذي يستعذبان منه ، فيملآن قلتيهما ، ثم يرجعان إلى الكنيسة ، والملائكة في ذلك مقبلة على مريم : { يا مَرْيَمُ إنّ اللّهَ اصْطَفاكِ وَطَهّرَكِ وَاصْطَفاكِ على نِساءِ العَالَمِينَ } فإذا سمع ذلك زكريا ، قال : إن لابنة عمران لشأنا .

 
أنوار التنزيل وأسرار التأويل للبيضاوي - البيضاوي [إخفاء]  
{وَإِذۡ قَالَتِ ٱلۡمَلَـٰٓئِكَةُ يَٰمَرۡيَمُ إِنَّ ٱللَّهَ ٱصۡطَفَىٰكِ وَطَهَّرَكِ وَٱصۡطَفَىٰكِ عَلَىٰ نِسَآءِ ٱلۡعَٰلَمِينَ} (42)

{ وإذا قالت الملائكة يا مريم إن الله اصطفاك وطهرك واصطفاك على نساء العالمين } كلموها شفاها كرامة لها ، ومن أنكر الكرامة زعم أن ذلك كانت معجزة لزكريا أو إرهاصا لنبوة عيسى عليه الصلاة والسلام ، فإن الإجماع على أنه سبحانه وتعالى لم يستنبئ امرأة لقوله تعالى : { وما أرسلنا من قبلك إلا رجالا } . وقيل ألهموها ، والاصطفاء الأول تقبلها من أمها ولم يقبل قبلها أنثى وتفريغها للعبادة وإغناؤها برزق الجنة عن الكسب وتطهيرها عما يستقذر من النساء . والثاني هدايتها وإرسال الملائكة إليها ، وتخصيصها بالكرامات السنية كالوالد من غير أب وتبرئتها مما قذفتها به اليهود بإنطاق الطفل وجعلها وابنها آية للعالمين .

 
التحرير والتنوير لابن عاشور - ابن عاشور [إخفاء]  
{وَإِذۡ قَالَتِ ٱلۡمَلَـٰٓئِكَةُ يَٰمَرۡيَمُ إِنَّ ٱللَّهَ ٱصۡطَفَىٰكِ وَطَهَّرَكِ وَٱصۡطَفَىٰكِ عَلَىٰ نِسَآءِ ٱلۡعَٰلَمِينَ} (42)

عطف على جملة { إذْ قالت امرأةُ فرعون } . انتقال من ذِكر أمّ مريم إلى ذكر مريم .

ومريم عَلَم عبراني ، وهو في العبرانية بكسر الميم ، وهو اسم قديم سميت به أخت موسى عليه السلام ، وليس في كتب النصارى ذكر لاسم أبي مريم أمِّ عيسى ولا لمولدها ولكنها تبتدىء فجأة بأنّ عذراء في بلد الناصرة مخطوبة ليوسف النجار ، قد حملت من غير زوج .

والعرب يطلقون اسم مريم على المرأة المترجّلة التي تكثر مجالسة الرجال كما قال رؤبة : قلت لزِير لَمْ تصله مريمهْ .

( والزير بكسر الزاي الذي يكثر زيارة النساء ) وقال في « الكشاف » : مريم في لغتهم أي لغة العبرانيين بمعنى العابدة .

وتكرّر فعل { اصطفاك } لأنّ الاصطفاء الأول اصطفاء ذاتي ، وهو جعلها منزّهة زكية ، والثاني بمعنى التفضيل على الغير . فلذلك لم يُعَدّ الأول إلى متعلّق . وعدُيّ الثاني . ونساء العالمين نساء زمانها ، أو نساء سائر الأزمنة . وتكليم الملائكة والاصطفاء يدلان على نبوءتها والنبوءة تكون للنساء دون الرسالة .