أما الذين لم يتقوا الله ، ولم يلجأوا إلى حماه ، ولم يخالفوا الشيطان فقد عبر عنهم القرآن بقوله : { وَإِخْوَانُهُمْ يَمُدُّونَهُمْ فِي الغي ثُمَّ لاَ يُقْصِرُونَ } .
يمدونهم من المد ، وهو الزيادة يقال : مده يمده أى : زاده . والغى : الضلال ، مصدر غوى يغوى غيا وغواية .
أى : وإخوان الشياطين من المشركين والغافلين تزيدهم الشياطين من الضلال عن طريق الوسوسة والإغراء بأرتكاب المعاصى والموبقات { ثُمَّ لاَ يُقْصِرُونَ } أى : ثم لا يكف هؤلاء الشياطين عن إمداد أوليائهم من الإنس بألوان الشرور والآثام حتى يهلكوهم . ويجوز أن يعود الضمير لإخوانهم : أى ثم لا يكف هؤلاء الناس عن الغى والضلال مهما وعظهم الواعظون وأرشدهم المرشدون .
و { يُقْصِرُونَ } من أقصر عن الشىء إذا كف عنه ونزع مع القدرة عليه .
ذلك شأن المتقين : ( إذا مسهم طائف من الشيطان تذكروا فإذا هم مبصرون ) . . جاء بيان هذا الشأن معترضاً بين أمر الله سبحانه بالإعراض عن الجاهلين ؛ وبيان ماذا ومن ذا وراء هؤلاء الجاهلين ، يدفعهم إلى الجهل والحمق والسفه الذي يزاولون . . فلما انتهى التعقيب عاد السياق يحدث عن الجاهلين :
( وإخوانهم يمدونهم في الغي ثم لا يقصرون . وإذا لم تأتهم بآية قالوا : لولا اجتبيتها . قل : إنما أتبع ما يوحى إلي من ربي ، هذا بصائر من ربكم وهدى ورحمة لقوم يؤمنون )
وإخوانهم الذين يمدونهم في الغي هم شياطين الجن . . وقد يكونون هم شياطين الإنس أيضاً . . إنهم يزيدون لهم في الضلال ، لا يكلون ولا يسأمون ولا يسكتون ! وهم من ثم يحمقون ويجهلون ! ويظلون فيما هم فيه سادرين .
القول في تأويل قوله تعالى : { وَإِخْوَانُهُمْ يَمُدّونَهُمْ فِي الْغَيّ ثُمّ لاَ يُقْصِرُونَ } . .
يقول تعالى ذكره : وإخوان الشياطين تمدّهم الشياطين في الغيّ . يعني بقوله : يمُدّونَهُمْ يزيدونهم . ثُمّ لا يُقْصِرُونَ عما قصر عنه الذين اتقوا إذا مسهم طائف من الشيطان . وإنما هذا خبر من الله عن فريقي الإيمان والكفر ، بأن فريق الإيمان وأهل تقوى الله إذا استزلهم الشيطان تذكروا عظمة الله وعقابه ، فكفتهم رهبته عن معاصيه وردتهم إلى التوبة والإنابة إلى الله مما كان منهم من زلة ، وأن فريق الكافرين يزيدهم الشيطان غيّا إلى غيهم إذا ركبوا معصية من معاصي الله ، ولا يحجزُهم تقوى الله ولا خوف المعاد إليه عن التمادي فيها والزيادة منها ، فهو أبدا في زيادة من ركوب الإثم ، والشيطان يزيده أبدا ، لا يُقصر الإنسيّ عن شيء من ركوب الفواحش ولا الشيطان من مدّه منه . كما :
حدثني المثنى ، قال : حدثنا عبد الله بن صالح ، قال : ثني معاوية ، عن عليّ ، عن ابن عباس : وإخْوَانُهُمْ يَمُدّونَهُمْ فِي الغَيّ ثُمّ لا يُقْصِرُونَ قال : لا الإنس يقصرون عما يعملون من السيئات ، ولا الشياطين تمسك عنهم .
حدثني محمد بن سعد ، قال : ثني أبي ، قال : ثني عمي ، قال : ثني أبي ، عن أبيه ، عن ابن عباس ، قوله : وإخْوَانُهُمْ يَمُدّونَهُمْ فِي الغَيّ ثُم لا يُقْصِرُونَ يقول : هم الجنّ يوحون إلى أوليائهم من الإنس ، ثم لا يقصرون ، يقول : لا يسأمون .
حدثنا محمد بن الحسين ، قال : حدثنا أحمد بن المفضل ، قال : حدثنا أسباط ، عن السديّ : وإخْوَانُهُمْ يَمُدّونَهُمْ فِي الغَيّ إخوان الشياطين من المشركين ، يمدّهم الشيطان في الغيّ . ثُمّ لا يُقْصِرُونَ .
حدثنا القاسم ، قال : حدثنا الحسين ، قال : ثني حجاج ، قال : قال ابن جريج ، قال عبد الله بن كثير : وإخوانهم من الجنّ ، يمدّون إخوانهم من الإنس ، ثم لا يقصرون ، ثم يقول لا يقصر الإنسانُ . قال : والمدّ الزيادة ، يعني : أهل الشرك ، يقول : لا يقصر أهل الشرك ، كما يقصر الذين اتقوا لأنهم لا يحجزهم الإيمان . قال ابن جريج ، قال مجاهد وإخْوَانُهُمْ من الشياطين يَمُدّونَهُمْ فِي الغَيّ ثُمّ لا يُقْصِرُونَ استجهالاً يمدّون أهل الشرك . قال ابن جريج : وَلَقَدْ ذَرَأْنا لِجَهَنّمَ كَثِيرا مِنَ الجِنّ وَالإنْسِ قال : فهؤلاء الإنس . يقول الله : وَإخْوَانُهُمْ يَمُدّونَهُمْ فِي الغَيّ .
حدثنا محمد بن عبد الأعلى ، قال : ثني محمد بن ثور ، عن معمر ، عن قتادة : وإخْوَانُهُمْ يَمُدّونَهُمْ فِي الغَيّ ثُمّ لا يُقْصِرُونَ قال : إخوان الشياطين يمدّهم الشياطين في الغيّ ثم لا يقصرون .
حدثنا محمد بن عمرو ، قال : حدثنا أبو عاصم ، قال : حدثنا عيسى ، عن ابن أبي نجيح ، عن مجاهد : وإخْوَانُهُمْ من الشياطين . يَمُدّونَهُمْ فِي الغَيّ استجهالاً .
وكان بعضهم يتأوّل قوله : ثُمّ لا يُقْصِرُونَ بمعنى : ولا الشياطين يُقْصِرون في مدّهم إخوانهم من الغيّ . ذكر من قال ذلك .
حدثنا بشر بن معاذ ، قال : حدثنا يزيد ، قال : حدثنا سعيد ، عن قتادة ، قوله : وإخْوَانُهُمْ يَمُدّونَهُمْ فِي الغَيّ ثُمّ لا يُقْصِرُونَ عنهم ، ولا يرحمونهم .
قال أبو جعفر : وقد بيّنا أولى التأويلين عندنا بالصواب ، وإنما اخترنا ما اخترنا من القول في ذلك على ما بيّناه لأن الله وصف في الاَية قبلها أهل الإيمان به وارتداعهم عن معصيته وما يكرهه إلى محبته عند تذكرهم عظمته ، ثم أتبع ذلك الخبر عن إخوان الشياطين وركوبهم معاصيه ، وكان الأولى وصفهم بتماديهم فيها ، إذ كان عقيب الخبر عن تقصير المؤمنين عنها .
وأما قوله : يَمُدّونَهُمْ فإن القرّاء اختلفت في قراءته ، فقرأه بعض المدنيين : «يُمِدّونَهُمْ » بضم الياء من أمددت . وقرأته عامة قرّاء الكوفيين والبصريين : يَمُدّونَهُمْ بفتح الياء من مددت .
قال أبو جعفر : والصواب من القراءة في ذلك عندنا : يَمُدّونَهُمْ بفتح الياء ، لأن الذي يمدّ الشياطينُ إخوانهم من المشركين إنما هو زيادة من جنس الممدود ، وإذا كان الذي مدّ من جنس الممدود كان كلام العرب مددت لا أمددت .
وأما قوله : يُقْصِرُونَ فإن القرّاء على لغة من قال : أَقْصرت أُقصِر ، وللعرب فيه لغتان : قَصَرْت عن الشيء ، وأقْصَرْت عنه .
جامع البيان عن تأويل آي القرآن للطبري 310 هـ :
يقول تعالى ذكره: وإخوان الشياطين تمدّهم الشياطين في الغيّ. يعني بقوله:"يمُدّونَهُمْ": يزيدونهم. "ثُمّ لا يُقْصِرُونَ "عما قصر عنه الذين اتقوا إذا مسهم طائف من الشيطان. وإنما هذا خبر من الله عن فريقي الإيمان والكفر، بأن فريق الإيمان وأهل تقوى الله إذا استزلهم الشيطان تذكروا عظمة الله وعقابه، فكفتهم رهبته عن معاصيه وردتهم إلى التوبة والإنابة إلى الله مما كان منهم من زلة، وأن فريق الكافرين يزيدهم الشيطان غيّا إلى غيهم إذا ركبوا معصية من معاصي الله، ولا يحجزُهم تقوى الله ولا خوف المعاد إليه عن التمادي فيها والزيادة منها، فهو أبدا في زيادة من ركوب الإثم، والشيطان يزيده أبدا، لا يُقصر الإنسيّ عن شيء من ركوب الفواحش ولا الشيطان من مدّه منه... وكان بعضهم يتأوّل قوله: "ثُمّ لا يُقْصِرُونَ "بمعنى: ولا الشياطين يُقْصِرون في مدّهم إخوانهم من الغيّ... وقد بيّنا أولى التأويلين عندنا بالصواب، وإنما اخترنا ما اخترنا من القول في ذلك على ما بيّناه لأن الله وصف في الآية قبلها أهل الإيمان به وارتداعهم عن معصيته وما يكرهه إلى محبته عند تذكرهم عظمته، ثم أتبع ذلك الخبر عن إخوان الشياطين وركوبهم معاصيه، وكان الأولى وصفهم بتماديهم فيها، إذ كان عقيب الخبر عن تقصير المؤمنين عنها...
الكشف والبيان في تفسير القرآن للثعلبي 427 هـ :
{ثُمَّ لاَ يُقْصِرُونَ}... لا يسأمون ولا يفترون. قال ابن عباس: لا الإنس يقصرون عما يعملون من السيئات ولا الجن ممسك عنهم.
الكشاف عن حقائق التنزيل للزمخشري 538 هـ :
وأما إخوان الشياطين الذين ليسوا بمتقين، فإن الشياطين يمدونهم في الغيِّ، أي يكونون مدداً لهم فيه ويعضدونهم. وقرئ: «يُمدّونهم» من الإِمداد. ويمادّونهم، بمعنى يعاونونهم {ثُمَّ لاَ يُقْصِرُونَ} ثم لا يمسكون عن إغوائهم حتى يصروا ولا يرجعوا...
... الإمداد: تقوية تلك الوسوسة والإقامة عليها وشغل النفس عن الوقوف على قبائحها ومعيبها.
تفسير المنار لرشيد رضا 1354 هـ :
{وإخوانهم يمدونهم في الغي ثم لا يقصرون} الغي الفساد. والمد والإمداد الزيادة في الشيء من جنسه، وقد قرأ نافع يمدونهم بضم الياء وكسر الميم من الإمداد والجمهور بفتح الياء وضم الميم من المد، وقرئ في الشواذ يمادّونهم بصيغة المشاركة، والمد يستعمل في القرآن في الخلق والتكوين كقوله تعالى: {وهو الذي مد الأرض} [الرعد: 3] {ألم تر إلى ربك كيف مد الظل} [الفرقان: 45] {والبحر يمده من بعده سبعة أبحر} [لقمان: 27] وفي مد الناس فيما يذم ويضر كقوله: {قل من كان في الضلالة فليمدد له الرحمان مدا} [مريم: 75] {ونمد له من العذاب مدا} [مريم: 79] {ويمدهم في طغيانهم يعمهون} [البقرة: 15] وأما الإمداد ففيما يحمد وينفع كقوله تعالى: {أمدكم بأنعام وبنين} [الشعراء: 133] {وأمددناكم بأموال وبنين وجعلناكم أكثر نفيرا} [الإسراء: 6] {كلا نمد هؤلاء وهؤلاء من عطاء ربك} [الإسراء: 20] ومنه إمداد النبي صلى الله عليه وسلم والمؤمنين بالملائكة يثبتون قلوبهم في غزوة بدر، وحملت قراءة نافع هنا على التهكم. والإقصار التقصير وأقصر عن الأمر تركه وكف عنه وهو قادر عليه.
والمعنى مع سابقه أن شأن المؤمنين المتقين إذا مسهم طائف من الشيطان لحملهم على محاكاة الجاهلين والخوض معهم وعلى غير ذلك من المعاصي والفساد تذكروا فأبصروا فحذروا وسلموا، وإن زلوا تابوا أو أنابوا، وأن إخوان الشياطين وهم الجاهلون غير المتقين يتمكن الشياطين من إغوائهم فيمدونهم في غيبهم وفسادهم، لأنهم لا يذكرون الله تعالى إذا شعروا في أنفسهم بالنزوع إلى الشر والباطل والفساد في الأرض، ولا يستعيذون به سبحانه من نزغ الشيطان ومسه فيبصروا ويتقوا –إما لأنهم لا يؤمنون بالله، وإما لأنهم لا يؤمنون بأن للإنسان شيطانا من الجن يوسوس إليه ويغريه بالشر- ثم لا يقصرون ولا يكفون عن إغوائهم وإفسادهم، فلذلك يصرون على الشرور والفساد لفقد الوازع النفسي والواعظ القلبي. وفي هذا التفسير عود الضمير إلى الشيطان بالجمع لأن المراد به الجنس لا الشخص كما تقدم وهو استعمال عربي معروف ومنه {والذين كفروا أولياؤهم الطاغوت} [البقرة: 257]. وقيل إن الضمير يعود إلى الجاهلين، إي وإخوان أولئك الجاهلين من الإنس وهم شياطينهم يمدونهم في غيهم وفسادهم، فيكونون أعوانا لشياطين الجن في ذلك كما بيناه في تفسير الآية التي قبل هذه.
تيسير الكريم المنان في تفسير القرآن لابن سعدي 1376 هـ :
وأما إخوان الشياطين وأولياؤهم، فإنهم إذا وقعوا في الذنوب، لا يزالون يمدونهم في الغي ذنبا بعد ذنب، ولا يقصرون عن ذلك، فالشياطين لا تقصر عنهم بالإغواء، لأنها طمعت فيهم، حين رأتهم سلسي القياد لها، وهم لا يقصرون عن فعل الشر...
في ظلال القرآن لسيد قطب 1387 هـ :
ذلك شأن المتقين: (إذا مسهم طائف من الشيطان تذكروا فإذا هم مبصرون).. جاء بيان هذا الشأن معترضاً بين أمر الله سبحانه بالإعراض عن الجاهلين؛ وبيان ماذا ومن ذا وراء هؤلاء الجاهلين، يدفعهم إلى الجهل والحمق والسفه الذي يزاولون.. فلما انتهى التعقيب عاد السياق يحدث عن الجاهلين:
(وإخوانهم يمدونهم في الغي ثم لا يقصرون. وإذا لم تأتهم بآية قالوا: لولا اجتبيتها. قل: إنما أتبع ما يوحى إلي من ربي، هذا بصائر من ربكم وهدى ورحمة لقوم يؤمنون)
وإخوانهم الذين يمدونهم في الغي هم شياطين الجن.. وقد يكونون هم شياطين الإنس أيضاً.. إنهم يزيدون لهم في الضلال، لا يكلون ولا يسأمون ولا يسكتون! وهم من ثم يحمقون ويجهلون! ويظلون فيما هم فيه سادرين.
التحرير والتنوير لابن عاشور 1393 هـ :
عطف على جملة {الذين اتقوا إذا مسهم طائفٌ من الشيطان تذكروا} [الأعراف: 201] عطفَ الضد على ضده، فإن الضدية مناسبة يحسن بها عطف حال الضد على ضده، فلما ذكر شان المتقين في دفعهم طائِف الشياطين، ذُكر شان اضدادهم من أهل الشرك والضلال،...