قوله : { وَإِخْوَانُهُمْ يَمُدُّونَهُمْ فِي الغي } . في هذه الآيةِ أوجهٌ :
أحدها : أنَّ الضمير في : " إخوانهم " يعودُ على الشَّياطين لدلالةِ لفظ الشيطانِ عليهم ، أو على الشَّيطان نفسه ؛ لأنَّهُ لا يُراد به الواحدُ ، بل الجِنْسُ .
والضميرُ المنصوبُ في يَمُدُّونهُم يعودُ على الكُفَّارِ ، والمرفوعُ يعود على الشياطين أو الشيطان كما تقدَّم ، والتقديرُ : وإخوان الشياطين يمدُّهم الشيطان ، وعلى هذا الوجه فالخبرُ جارٍ على غير من هو له في المعنى ، ألا ترى أنَّ الإمداد مسند إلى الشياطين في المعنى وهو في اللفظ خبر عن إخوانهم ومثله : [ البسيط ]
قَوْمً إذا الخَيْلُ جَالُوا في كَواثبِهَا *** . . . {[17118]}
وقد تقدم البحث في هذا مع مكي وغيره من حيث جريانُ الفعل على غير من هو له ، ولم يَبْرُزْ ضمير .
وهذا التأويلُ الذي ذكرناهُ : هو قول الجمهور وعليه عامة المفسِّرين .
قال الزمخشريُّ : هو أوجهُ ؛ لأنَّ إخوانهم في مقابلة : " الَّذينَ اتَّقَوا " .
الثاني : أنَّ المراد بالإخوان الشياطين ، وبالضَّمير المضاف إليه : الجاهلُون ، أو غير المتَّقين لأن الشيء يدلُّ على مقابله ، والواو تعودُ على الإخوان ، والضميرُ المنصوبُ يعود على الجاهلين ، أو غير المتَّقين ؛ والمعنى : والشياطين الذين هم إخوانُ الجاهلين أو غير المتقين يَمُدُّون الجاهلين أو غير المُتَّقين في الغيِّ ، والخبر في هذا الوجه جارٍ على من هو لهُ لفظاً ومعنى ، وهذا تفسير قتادة .
الثالث : أن يعود الضميرُ المجرور والمنصوب على الشياطين ، والمرفوع على الإخوان وهم الكُفَّار .
قال ابنُ عطيَّة : ويكون المعنى : وإخوان الشَّياطين في الغيِّ بخلاف الإخوة في اللَّهِ يَمُدُّون الشَّياطين أي : بطاعتهم لهم وقبولهم منهم ، ولا يترتَّب هذا التَّأويل على أن يتعلَّق في الغيِّ بالإمدادِ ؛ لأنَّ الإنسَ لا يغوون الشياطين ، يعني يكون في الغيِّ حالاً من المبتدأ ، أي : وإخوانهم حال كونهم مستقرِّين في الغيّ ، وفي مجيء الحال من المبتدأ خلاف ، والأحسنُ أن يتعلَّق بما تضمنه أخوانُهُمْ من معنى المؤاخاة والأخوة ، وسيأتي فيه بحث لأبي حيان .
قال أبُو حيَّان : ويمكن أن يتعلَّق في الغيِّ على هذا التَّأويل ب : يمدُّونهم على جهة السببية ، أي : يمدُّونهم بسبب غوايتهم ، نحو : دَخلَتِ امْرأةٌ النَّارَ في هرَّةٍ ، أي : بسبب هرَّةٍ ، ويُحتملُ أن يكون في الغيِّ حالاً ، فيتعلَّق بمحذوفٍ أي : كائنين في الغيّ ، فيكون في الغيِّ في موضعه ، ولا يتعلَّق ب : إخوانهم وقد جوَّز ذلك ابن عطية .
فلو قلت : مُطْعِمُكَ زيدٌ لَحْماً ، مُطْعِمُكَ لحماً زيدٌ ، فتفصل بين المبتدأ ومعموله بالخبر ، لكان في جوازه نظر ، لأنَّكَ فصلتَ بين العامل والمعمول بأجنبي لهما معا ، وإن كان ليس أجنبياً لأحدهما وهو المبتدأ .
قال شهاب الدين{[17119]} : ولا يظهر منعُ هذا ألبتة لعدم أجنبيته وقرأ{[17120]} نافع يُمِدُّونهُمْ بضم الياء وكسر الميم من أمدَّ والباقون : بفتح الياء وضم الميم ، وقد تقدم الكلام على هذه المادة هل هما بمعنى واحد أم بينهما فرق في أوائل الكتاب [ البقرة : 155 ] .
وقيل : مَدَّ معناه : جذب ، وأمَدَّ معناه من : الإمداد .
قال الواحدي عامة ما جاء في التنزيل ممَّا يحمد ويتسحب أمددتُ على أفعلتُ ، كقوله { أَنَّمَا نُمِدُّهُمْ بِهِ مِن مَّالٍ وَبَنِينَ } [ المؤمنون : 55 ] وقوله { وَأَمْدَدْنَاهُم بِفَاكِهَةٍ } [ الطور : 22 ] { أَتُمِدُّونَنِ بِمَالٍ } [ النمل : 36 ] وما كان بخلافه فإنَّه يجيء على : مددت ؛ قال تعالى : { وَيَمُدُّهُمْ فِي طُغْيَانِهِمْ يَعْمَهُونَ } [ البقرة : 15 ] فالوجه ههنا قراءة العامة ، ومن ذمَّ الياء استعمل ما هو الخير لضده كقوله { فَبَشِّرْهُم بِعَذَابٍ أَلِيمٍ } [ آل عمران : 21 ] وقرأ{[17121]} الجحدريُّ : يُمَادُّونهُم من : مادَّهُ بزنة : فاعله ، وقرأ العامَّةُ يُقْصِرُون من : أقْصَرَ ، قال الشاعر : [ الطويل ]
لَعَمْرُكَ ما قَلْبِي إلى أهْلِه بِحُرْ *** ولا مُقْصِرٍ يَوْماً فَيَأتِينِي بِقُرْ{[17122]}
سَمَا لَكَ شَوْقٌ بعدَ ما كانَ أقْصَرَا *** وحلَّتْ سُلَيْمَى بَطْنَ قَوٍّ فَعَرْعَرَا{[17123]}
أي : ولا نازع ممَّا هو فيه ، وارتفع شوقك بعد ما كان قد نزع وأقلع ، وقرأ عيسى ابن عمر{[17124]} ، وابن أبي عبلة " ثُمَّ لا يَقصُرون " بفتح الياء مِن : قَصرَ ، أي : لا يَنْقُصُونَ من إمدادهم وهذه الجملة أعني : " وإخوانهم يمدونهم " زعم الزجاج : أنها متصلة بالجملة من قوله { وَلاَ يَسْتَطِيعُونَ لَهُمْ نَصْراً } [ الأعراف : 192 ] وهو تكلف بعيد .
وقوله " فِي الغيِّ " قد تقدَّم أنه يجوزُ أن يكون متعلقاً بالفعل ، أو ب " إخوانهم " أو بمحذوف على أنه حال إمَّا من " إخوانهم " وإمَّا من واو " يَمُدُّونهُم " وإمَّا من مفعوله .
قال اللَّيث : الإقصارُ : الكَفُّ عن الشَّيء ، وأقْصَرَ فلانٌ عن الشَّيءِ يُقْصِرُ إقصاراً إذا كفَّ عنه وانتهى .
قال ابنُ عبَّاسٍ : ثُم لا يُقْصِرُون عن الضَّلالِ والإضلال ، أمَّا الغاوي ففي الضَّلال ، وأمَّا المغوي ففي الإضلال . قال الكلبيُّ لكل كافر أخٌ من الشياطين يَمُدُّونهُمْ أي : يُطيلُون لهم في الإغواء حتَّى يستمرُّوا عليه{[17125]} .
مشروع تقني يهدف لتوفير قالب تقني أنيق وحديث يليق بالمحتوى الثري لمشروع الجامع التاريخي لتفسير القرآن الكريم الصادر عن مؤسسة البحوث والدراسات العلمية (مبدع)، وقد تم التركيز على توفير تصفح سلس وسهل للمحتوى ومتوافق تماما مع أجهزة الجوال، كما تم عمل بعض المميزات الفريدة كميزة التلوين التلقائي للنصوص والتي تم بناء خوارزمية برمجية مخصصة لهذا الغرض.
تم الحصول على المحتوى من برنامج الجامع التاريخي لتفسير القرآن الكريم.
المشروع لا يتبع أي جهة رسمية أو غير رسمية، إنما هي جهود فردية ومبادرات شخصية لبعض الخبراء في مجال البرمجيات.
المشروع لازال في بداياته وننوي إن شاء الله العمل على تطويره بشكل مستمر وسنضع خطة تطوير توضح المميزات التي يجري العمل عليها إن شاء الله.
الدعاء للقائمين عليه، نشر الموقع والتعريف به، إرسال الملاحظات والمقترحات.