اللباب في علوم الكتاب لابن عادل - ابن عادل  
{وَإِخۡوَٰنُهُمۡ يَمُدُّونَهُمۡ فِي ٱلۡغَيِّ ثُمَّ لَا يُقۡصِرُونَ} (202)

قوله : { وَإِخْوَانُهُمْ يَمُدُّونَهُمْ فِي الغي } . في هذه الآيةِ أوجهٌ :

أحدها : أنَّ الضمير في : " إخوانهم " يعودُ على الشَّياطين لدلالةِ لفظ الشيطانِ عليهم ، أو على الشَّيطان نفسه ؛ لأنَّهُ لا يُراد به الواحدُ ، بل الجِنْسُ .

والضميرُ المنصوبُ في يَمُدُّونهُم يعودُ على الكُفَّارِ ، والمرفوعُ يعود على الشياطين أو الشيطان كما تقدَّم ، والتقديرُ : وإخوان الشياطين يمدُّهم الشيطان ، وعلى هذا الوجه فالخبرُ جارٍ على غير من هو له في المعنى ، ألا ترى أنَّ الإمداد مسند إلى الشياطين في المعنى وهو في اللفظ خبر عن إخوانهم ومثله : [ البسيط ]

قَوْمً إذا الخَيْلُ جَالُوا في كَواثبِهَا *** . . . {[17118]}

وقد تقدم البحث في هذا مع مكي وغيره من حيث جريانُ الفعل على غير من هو له ، ولم يَبْرُزْ ضمير .

وهذا التأويلُ الذي ذكرناهُ : هو قول الجمهور وعليه عامة المفسِّرين .

قال الزمخشريُّ : هو أوجهُ ؛ لأنَّ إخوانهم في مقابلة : " الَّذينَ اتَّقَوا " .

الثاني : أنَّ المراد بالإخوان الشياطين ، وبالضَّمير المضاف إليه : الجاهلُون ، أو غير المتَّقين لأن الشيء يدلُّ على مقابله ، والواو تعودُ على الإخوان ، والضميرُ المنصوبُ يعود على الجاهلين ، أو غير المتَّقين ؛ والمعنى : والشياطين الذين هم إخوانُ الجاهلين أو غير المتقين يَمُدُّون الجاهلين أو غير المُتَّقين في الغيِّ ، والخبر في هذا الوجه جارٍ على من هو لهُ لفظاً ومعنى ، وهذا تفسير قتادة .

الثالث : أن يعود الضميرُ المجرور والمنصوب على الشياطين ، والمرفوع على الإخوان وهم الكُفَّار .

قال ابنُ عطيَّة : ويكون المعنى : وإخوان الشَّياطين في الغيِّ بخلاف الإخوة في اللَّهِ يَمُدُّون الشَّياطين أي : بطاعتهم لهم وقبولهم منهم ، ولا يترتَّب هذا التَّأويل على أن يتعلَّق في الغيِّ بالإمدادِ ؛ لأنَّ الإنسَ لا يغوون الشياطين ، يعني يكون في الغيِّ حالاً من المبتدأ ، أي : وإخوانهم حال كونهم مستقرِّين في الغيّ ، وفي مجيء الحال من المبتدأ خلاف ، والأحسنُ أن يتعلَّق بما تضمنه أخوانُهُمْ من معنى المؤاخاة والأخوة ، وسيأتي فيه بحث لأبي حيان .

قال أبُو حيَّان : ويمكن أن يتعلَّق في الغيِّ على هذا التَّأويل ب : يمدُّونهم على جهة السببية ، أي : يمدُّونهم بسبب غوايتهم ، نحو : دَخلَتِ امْرأةٌ النَّارَ في هرَّةٍ ، أي : بسبب هرَّةٍ ، ويُحتملُ أن يكون في الغيِّ حالاً ، فيتعلَّق بمحذوفٍ أي : كائنين في الغيّ ، فيكون في الغيِّ في موضعه ، ولا يتعلَّق ب : إخوانهم وقد جوَّز ذلك ابن عطية .

وعندي في ذلك نظرٌ .

فلو قلت : مُطْعِمُكَ زيدٌ لَحْماً ، مُطْعِمُكَ لحماً زيدٌ ، فتفصل بين المبتدأ ومعموله بالخبر ، لكان في جوازه نظر ، لأنَّكَ فصلتَ بين العامل والمعمول بأجنبي لهما معا ، وإن كان ليس أجنبياً لأحدهما وهو المبتدأ .

قال شهاب الدين{[17119]} : ولا يظهر منعُ هذا ألبتة لعدم أجنبيته وقرأ{[17120]} نافع يُمِدُّونهُمْ بضم الياء وكسر الميم من أمدَّ والباقون : بفتح الياء وضم الميم ، وقد تقدم الكلام على هذه المادة هل هما بمعنى واحد أم بينهما فرق في أوائل الكتاب [ البقرة : 155 ] .

فقيل : أمَدَّ ومَدَّ لغتان .

وقيل : مَدَّ معناه : جذب ، وأمَدَّ معناه من : الإمداد .

قال الواحدي عامة ما جاء في التنزيل ممَّا يحمد ويتسحب أمددتُ على أفعلتُ ، كقوله { أَنَّمَا نُمِدُّهُمْ بِهِ مِن مَّالٍ وَبَنِينَ } [ المؤمنون : 55 ] وقوله { وَأَمْدَدْنَاهُم بِفَاكِهَةٍ } [ الطور : 22 ] { أَتُمِدُّونَنِ بِمَالٍ } [ النمل : 36 ] وما كان بخلافه فإنَّه يجيء على : مددت ؛ قال تعالى : { وَيَمُدُّهُمْ فِي طُغْيَانِهِمْ يَعْمَهُونَ } [ البقرة : 15 ] فالوجه ههنا قراءة العامة ، ومن ذمَّ الياء استعمل ما هو الخير لضده كقوله { فَبَشِّرْهُم بِعَذَابٍ أَلِيمٍ } [ آل عمران : 21 ] وقرأ{[17121]} الجحدريُّ : يُمَادُّونهُم من : مادَّهُ بزنة : فاعله ، وقرأ العامَّةُ يُقْصِرُون من : أقْصَرَ ، قال الشاعر : [ الطويل ]

لَعَمْرُكَ ما قَلْبِي إلى أهْلِه بِحُرْ *** ولا مُقْصِرٍ يَوْماً فَيَأتِينِي بِقُرْ{[17122]}

وقال امرؤُ القيس : [ الطويل ]

سَمَا لَكَ شَوْقٌ بعدَ ما كانَ أقْصَرَا *** وحلَّتْ سُلَيْمَى بَطْنَ قَوٍّ فَعَرْعَرَا{[17123]}

أي : ولا نازع ممَّا هو فيه ، وارتفع شوقك بعد ما كان قد نزع وأقلع ، وقرأ عيسى ابن عمر{[17124]} ، وابن أبي عبلة " ثُمَّ لا يَقصُرون " بفتح الياء مِن : قَصرَ ، أي : لا يَنْقُصُونَ من إمدادهم وهذه الجملة أعني : " وإخوانهم يمدونهم " زعم الزجاج : أنها متصلة بالجملة من قوله { وَلاَ يَسْتَطِيعُونَ لَهُمْ نَصْراً } [ الأعراف : 192 ] وهو تكلف بعيد .

وقوله " فِي الغيِّ " قد تقدَّم أنه يجوزُ أن يكون متعلقاً بالفعل ، أو ب " إخوانهم " أو بمحذوف على أنه حال إمَّا من " إخوانهم " وإمَّا من واو " يَمُدُّونهُم " وإمَّا من مفعوله .

فصل

قال اللَّيث : الإقصارُ : الكَفُّ عن الشَّيء ، وأقْصَرَ فلانٌ عن الشَّيءِ يُقْصِرُ إقصاراً إذا كفَّ عنه وانتهى .

قال ابنُ عبَّاسٍ : ثُم لا يُقْصِرُون عن الضَّلالِ والإضلال ، أمَّا الغاوي ففي الضَّلال ، وأمَّا المغوي ففي الإضلال . قال الكلبيُّ لكل كافر أخٌ من الشياطين يَمُدُّونهُمْ أي : يُطيلُون لهم في الإغواء حتَّى يستمرُّوا عليه{[17125]} .

وقيل : يزيدونهم في الضَّلالة .


[17118]:صدر بيت لزياد بن منقذ وعجزه: فوارس الخيل لا ميل ولا فزم ينظر: المحتسب 1/291 والبحر المحيط 4/447، والصحاح واللسان "قزم" والكشاف 2/139، وشواهد الكشاف 4/525 والدر المصون 3/389.
[17119]:ينظر: الدر المصون 3/390.
[17120]:ينظر: السبعة 301، والحجة 4/122، وإعراب القراءات 1/219، وحجة القراءات 306، وإتحاف 2/73.
[17121]:ينظر: المحرر الوجيز 2/493، والبحر المحيط 4/447، والدر المصون 3/390.
[17122]:البيت لامرئ القيس. ينظر: ديوانه 109 والبحر المحيط 4/447، واللسان "قرر" والدر المصون 3/390.
[17123]:ينظر: ديوانه 56 والدر المصون 3/290.
[17124]:ينظر: المحرر الوجيز 2/493، والبحر المحيط 4/447، والدر المصون 3/390.
[17125]:انظر: تفسير الرازي 15/82.