التفسير الوسيط للقرآن الكريم لسيد طنطاوي - سيد طنطاوي [إخفاء]  
{كَلَّآ إِذَا بَلَغَتِ ٱلتَّرَاقِيَ} (26)

ثم زجر - سبحانه - الذين يكذبون بيوم الدين ، ويؤثرون العاجلة على الآجلة ، زجَرهم بلون آخر من ألوان الردع والزجر ، حيث ذكرهم بأحوالهم الأليمة عندما يودعون هذه الدنيا فقال : { كَلاَّ إِذَا بَلَغَتِ التراقي . وَقِيلَ مَنْ رَاقٍ . وَظَنَّ أَنَّهُ الفراق } .

والضمير فى { بَلَغَتِ } يعود إلى الروح المعلومة من المقام . كما فى قوله - تعالى - { فَلَوْلاَ إِذَا بَلَغَتِ الحلقوم . . } ومنه قول الشاعر :

أماوى ما يغنى الثراء عن الفتى . . . إذا حشرجت يوما وضاق بها الصدر

والتراقى : جمع تَرْقُوه ، وهى العظام المحيطة بأعالى الصدر عن يمينه ، وعن شماله ، وهى موضع الحشرجة ، وجواب الشرط محذوف .

أى : حتى إذا بلغت روح الإِنسان التراقى ، وأوشكت أن تفارق صاحبها . . وجد كل إنسان ثمار عمله الذى عمله فى دنياه ، وانكشفت له حقيقة عاقبته .

والمقصود من الآية الكريمة وما بعدها : الزجر عن إيثار العاجلة على الآجلة . فكأنه - تعالى - يقول : احذروا - أيها الناس - ذلك قبل أن يفاجئكم الموت ، وقبل أن تبلغ أرواحكم نهايتها ، وتنقطع عند ذلك آمالكم .

 
في ظلال القرآن لسيد قطب - سيد قطب [إخفاء]  
{كَلَّآ إِذَا بَلَغَتِ ٱلتَّرَاقِيَ} (26)

وإذا كانت مشاهد القيامة . . إذا برق البصر ، وخسف القمر ، وجمع الشمس والقمر ، وقال الإنسان يومئذ أين المفر . ولا مفر . وإذا اختلفت المصائر والوجوه ، ذلك الاختلاف الشاسع البعيد ، فكانت وجوه يومئذ ناضرة إلى ربها ناظرة ، ووجوه يومئذ باسرة تظن أن يفعل بها فاقرة . .

إذا كانت تلك المشاهد تستمد قوتها وإيقاعها في النفس ، من قوة الحقيقة الكامنة فيها ، وقوة الأداء القرآني الذي يشخصها ويحييها ، فإن السورة بعد عرض تلك المشاهد تقرب وتقرب حتى تلمس حس المخاطبين بمشهد آخر حاضر واقع مكرور ، لا تمر لحظة حتى يواجههم في هذه الأرض بقوته ووضوحه ووزنه الثقيل !

إنه مشهد الموت . الموت الذي ينتهي إليه كل حي ، والذي لا يدفعه عن نفسه ولا عن غيره حي . الموت الذي يفرق الأحبة ، ويمضي في طريقه لا يتوقف ، ولا يتلفت ، ولا يستجيب لصرخة ملهوف ، ولا لحسرة مفارق ، ولا لرغبة راغب ولا لخوف خائف ! الموت الذي يصرع الجبابرة بنفس السهولة التي يصرع بها الأقزام ، ويقهر بها المتسلطين كما يقهر المستضعفين سواء ! الموت الذي لا حيلة للبشر فيه وهم مع هذا لا يتدبرون القوة القاهرة التي تجريه :

( كلا ! إذا بلغت التراقي ، وقيل : من راق ? وظن أنه الفراق ، والتفت الساق بالساق . إلى ربك يومئذ المساق ) . .

إنه مشهد الاحتضار ، يواجههم به النص القرآني كأنه حاضر ، وكأنه يخرج من ثنايا الألفاظ ويتحرك كما تخرج ملامح الصورة من خلال لمسات الريشة !

( كلا إذا بلغت التراقي ) . . وحين تبلغ الروح التراقي يكون النزع الأخير ، وتكون السكرات المذهلة ، ويكون الكرب الذي تزوغ منه الأبصار . .

 
جامع البيان عن تأويل آي القرآن للطبري - الطبري [إخفاء]  
{كَلَّآ إِذَا بَلَغَتِ ٱلتَّرَاقِيَ} (26)

القول في تأويل قوله تعالى : { كَلاّ إِذَا بَلَغَتِ التّرَاقِيَ * وَقِيلَ مَنْ رَاقٍ * وَظَنّ أَنّهُ الْفِرَاقُ * وَالْتَفّتِ السّاقُ بِالسّاقِ * إِلَىَ رَبّكَ يَوْمَئِذٍ الْمَسَاقُ } .

يقول تعالى ذكره : ليس الأمر كما يظنّ هؤلاء المشركون من أنهم لا يعاقبون على شركهم ومعصيتهم ربهم بل إذا بلغت نفس أحدهم التراقي عند مماته وحشرج بها .

وقال ابن زيد في قوله الله : كَلاّ إذَا بَلَغَتِ التَراقي قال : التراقي : نفسه .

حدثني بذلك يونس ، قال : أخبرنا ابن وهب ، قال : قال ابن زيد : وَقِيلَ مَنْ رَاقٍ يقول تعالى ذكره : وقال أهله : من ذا يرقيه ليشفيه مما قد نزل به ، وطلبوا له الأطباء والمداوين ، فلم يغنوا عنه من أمر الله الذي قد نزل به شيئا .

واختلف أهل التأويل في معنى قوله : مَنْ رَاقٍ فقال بعضهم نحو الذي قلنا في ذلك . ذكر من قال ذلك :

حدثنا أبو كريب وأبو هشام ، قالا : حدثنا وكيع ، عن إسرائيل ، عن سماك ، عن عكرِمة وَقِيلَ مَنْ رَاقٍ قال : هل من راقٍ يرقي ؟

حدثنا أبو كُرَيب وأبو هشام ، قالا : حدثنا وكيع ، عن سفيان ، عن سليمان التيمي ، عن شبيب ، عن أبي قلابة وَقِيلَ مَنْ رَاقٍ قال : هل من طبيب شاف .

حدثنا ابن حميد ، قال : حدثنا مهران عن سفيان ، عن سليمان التيمي ، عن شبيب ، عن أبي قلابة ، مثله .

حدثنا الحسن بن عرفة ، قال : حدثنا مروان بن معاوية ، عن أبي بسطام ، عن الضحاك بن مزاحم في قول الله تعالى ذكره : وَقِيلَ مَنْ رَاقٍ قال : هو الطبيب .

حدثنا أبو كريب ، قال : حدثنا ابن إدريس ، عن جويبر ، عن الضحاك في وَقِيلَ مَنْ رَاقٍ قال : هل من مداوٍ .

حدثنا بشر ، قال : حدثنا يزيد ، قال : حدثنا سعيد ، عن قتادة وَقِيلَ مَنْ رَاقٍ : أي التمسوا له الأطباء فلم يُغْنوا عنه من قضاء الله شيئا .

حدثنا يونس ، قال : أخبرنا ابن وهب ، قال : قال ابن يزيد في قوله : وَقِيلَ مَنْ رَاقٍ قال : أين الأطباء ، والرّقاة : من يرقيه من الموت .

وقال آخرون : بل هذا من قول الملائكة بعضهم لبعض ، يقول بعضهم لبعض : من يَرقى بنفسه فيصعد بها . ذكر من قال ذلك :

حدثنا أبو هشام ، قال : حدثنا معاذ بن هشام ، قال : ثني أبي ، عن عمرو بن مالك ، عن أبي الجوزاء ، عن ابن عباس كَلاّ إذَا بَلَغَتِ التّراقِيَ وَقِيلَ مَنْ رَاقٍ قال : إذا بلغت نفسه يرقى بها ، قالت الملائكة : من يصعد بها ، ملائكة الرحمة ، أو ملائكة العذاب ؟ .

حدثنا ابن عبد الأعلى ، قال : حدثنا المعتمر ، عن أبيه ، في قوله : وَقِيلَ مَنْ رَاقٍ قال : بلغني عن أبي قلابة قال : هل من طبيب ؟ قال : وبلغني عن أبي الجوزاء أنه قال : قالت الملائكة بعضهم لبعض : من يرقَى : ملائكة الرحمة ، أو ملائكة العذاب ؟ .