ثم رخص - سبحانه - للمؤمنين بأن يقاتلوا فى سبيله فقال : { أُذِنَ لِلَّذِينَ يُقَاتَلُونَ بِأَنَّهُمْ ظُلِمُواْ . . . } .
وقوله - تعالى - { أُذِنَ } فعل ماض مبنى للمجهول مأخوذ من الإذن بمعنى الإباحة والرخصة . والمقصود إباحة مشروعية القتال ، وقد قالوا : بأن هذه الآيات أول ما نزل في شأن مشروعية القتال .
أخرج الإمام أحمد والترمذى عن ابن عباس قال : لما خرج النبى - صلى الله عليه وسلم - من مكة قال أبو بكر : أخرجوا نبيهم ليهلكن ، فنزلت هذه الآيات .
وقرأ ابن كثير وابن عامر وحمزة والكسائي { أُذِنَ } بالبناء الفاعل . والمأذون لهم فيه هو القتال ، وهو محذوف فى قوة المذكور بدليل قوله { يُقَاتَلُونَ } والباء فى قوله { بِأَنَّهُمْ ظُلِمُواْ } للسببية .
أى : أذن الله - تعالى - للمؤمنين ، ورخص لهم ، بأن يقاتلوا أعداءهم الذين ظلموهم ، وآذوهم ، واعتدوا عليه ، بعد أن صبر هؤلاء المؤمنون على أذى أعدائهم صبرا طويلا .
قال الآلوسى : والمراد بالموصول أصحاب النبى - صلى الله عليه وسلم - الذين فى مكة ، فقد نقل الواحدى وغيره ، أن المشركين كانوا يؤذونهم ، وكانوا يأتون النبى - صلى الله عليه وسلم - بين مضروب ومشجوج ويتظلمون إليه فيقو لهم : اصبروا فإنى لم أومر بالقتال حتى هاجر - صلى الله عليه وسلم - فنزلت هذه الآية ، وهى أول آية نزلت فى القتال بعد ما نهى عنه فى نيف وسبعين آية .
وقوله - تعالى - : { وَإِنَّ الله على نَصْرِهِمْ لَقَدِيرٌ } وعد منه - سبحانه - للمؤمنين بالنصر وحض لهم على الإقدام على الجهاد فى سبيله بدون تردد أو وهن .
أى : وإن الله - تعالى - لقادر على أن ينصر عباده المؤمنين . وعلى أن يمكن لهم فى الأرض ، وعلى أن يجعلهم الوارثين لأعدائهم الكافرين .
قال الإمام ابن كثير ما ملخصه : قوله : { وَإِنَّ الله على نَصْرِهِمْ لَقَدِيرٌ } أى : هو قادر على نصر عباده المؤمنين من غير قتال ، ولكنه يريد من عباده أن يبلوا جهدهم فى طاعته ، كما قال - تعالى - : { فَإِذَا لَقِيتُمُ الذين كَفَرُواْ فَضَرْبَ الرقاب حتى إِذَآ أَثْخَنتُمُوهُمْ فَشُدُّواْ الوثاق فَإِمَّا مَنًّا بَعْدُ وَإِمَّا فِدَآءً حتى تَضَعَ الحرب أَوْزَارَهَا ذَلِكَ وَلَوْ يَشَآءُ اللَّهُ لاَنْتَصَرَ مِنْهُمْ ولكن لِّيَبْلُوَاْ بَعْضَكُمْ بِبَعْضٍ } وإنما شرع - سبحانه - الجهاد فى الوقت الأليق به ، لأنهم لما كانوا بمكة ، كان المشركون أكثر عددا . فلو أمر المسملون بالقتال لشق ذلك عليهم . . .
فلما استقروا بالمدينة . وصارت لهم دار إسلام ، ومعقلا يلجأون إليه شرع الله جهاد الأعداء ، فكانت هذه الآية أول ما نزل فى ذلك . . .
القول في تأويل قوله تعالى : { أُذِنَ لِلّذِينَ يُقَاتَلُونَ بِأَنّهُمْ ظُلِمُواْ وَإِنّ اللّهَ عَلَىَ نَصْرِهِمْ لَقَدِيرٌ } .
يقول تعالى ذكره : أَذن الله للمؤمنين الذين يقاتلون المشركين في سبيله بأن المشركين ظلموهم بقتالهم .
واختلفت القرّاء في قراءة ذلك ، فقرأته عامة قرّاء المدينة : أُذِنَ بضم الألف ، يُقاتَلُونَ بفتح التاء بترك تسمية الفاعل في «أُذِنَ » و«يُقاتَلُون » جميعا . وقرأ ذلك بعض الكوفيين وعامة قرّاء البصرة : أُذِنَ بترك تسمية الفاعل ، و«يُقاتِلُونَ » بكسر التاء ، بمعنى يقاتل المأذون لهم في القتال المشركين . وقرأ ذلك عامة قرّاء الكوفيين وبعض المكيين : «أَذِنَ » بفتح الألف ، بمعنى : أذن الله ، و«يُقاتِلُونَ » بكسر التاء ، بمعنى : إن الذين أذن الله لهم بالقتال يقاتلون المشركين . وهذه القراءات الثلاث متقاربات المعنى لأن الذين قرءوا أُذِنَ على وجه ما لم يسمّ فاعله يرجع معناه في التأويل إلى معنى قراءة من قرأه على وجه ما سمي فاعله . وإن من قرأ «يُقاتِلونَ ويُقاتَلُونَ » بالكسر أو الفتح ، فقريب معنى أحدهما من معنى الاَخر وذلك أن من قاتل إنسانا فالذي قاتله له مقاتل ، وكل واحد منهما مقاتل . فإذ كان ذلك كذلك فبأية هذه القراءات قرأ القاريء فمصيب الصواب .
غير أن أحبّ ذلك إليّ أن أقرأ به : «أَذِنَ » بفتح الألف ، بمعنى : أذن الله ، لقرب ذلك من قوله : إنّ اللّهَ لا يُحِبّ كُلّ خَوّانٍ كَفُورٍ أذن الله في الذين لا يحبهم للذين يقاتلونهم بقتالهم ، فيردّ «أَذنَ » على قوله : إنّ اللّهَ لا يُحِبّ ، وكذلك أحبّ القراءات إليّ في «يُقاتِلُونَ » كسر التاء ، بمعنى : الذين يقاتلون من قد أخبر الله عنهم أنه لا يحبهم ، فيكون الكلام متصلاً معنى بعضه ببعض .
وقد اختُلف في الذين عُنوا بالإذن لهم بهذه الاَية في القتال ، فقال بعضهم : عني به : نبيّ الله وأصحابه . ذكر من قال ذلك :
حدثني محمد بن سعد ، قال : ثني أبي ، قال : ثني عمي ، قال : ثني أبي ، عن أبيه ، عن ابن عباس ، قوله : أُذِنَ للّذِينَ يُقاتلُونَ بأنّهُمْ ظُلِمُوا وَإنّ اللّهَ عَلى نَصْرِهمْ لَقَدِيرٌ يعني محمدا وأصحابه إذا أُخرجوا من مكة إلى المدينة يقول الله : فإنّ اللّهَ عَلى نَصْرِهمْ لَقَدِيرٌ وقد فعل .
حدثنا ابن بشار ، قال : حدثنا أبو أحمد ، قال : حدثنا سفيان ، عن الأعمش ، عن مسلم البطين ، عن سعيد بن جُبير ، قال : لما خرج النبيّ صلى الله عليه وسلم من مكة ، قال رجل : أخرجوا نبيهم فنزلت : أُذِنَ للّذِينَ يُقاتَلُونَ بأنّهُمْ ظُلِمُوا . . . الاَية ، الّذِينَ أخرِجُوا منْ دِيارِهمْ بغيرِ حقَ النبيّ صلى الله عليه وسلم وأصحابه .
حدثنا يحيى بن داود الواسطي ، قال : حدثنا إسحاق بن يوسف ، عن سفيان ، عن الأعمش ، عن مسلم ، عن سعيد بن جُبير ، عن ابن عباس ، قال : لما خرج النبيّ صلى الله عليه وسلم من مكة قال أبو بكر : أخرجوا نبيهم ، إنا لله وإنا إليه راجعون ، ليهلكُنّ قال ابن عباس : فأنزل الله : أُذِنَ للّذِينَ يَقاتَلونَ بأنّهُمْ ظُلِمُوا وَإنّ اللّهَ عَلى نَصْرِهمْ لَقَدِيرٌ قال أبو بكر : فعرفت أنه سيكون قتال . وهي أوّل آية نزلت .
قال ابن داود : قال ابن إسحاق : كانوا يقرءون : أُذِنَ ونحن نقرأ : «أَذِنَ » .
حدثنا ابن وكيع ، قال : حدثنا إسحاق ، عن سفيان ، عن الأعمش ، عن مسلم ، عن سعيد بن جُبير ، عن ابن عباس ، قال : لما خرج النبيّ صلى الله عليه وسلم ، ثم ذكر نحوه ، إلا أنه قال : فقال أبو بكر : قد علمت أنه يكون قتال . وإلى هذا الموضع انتهى حديثه ، ولم يزد عليه .
حدثني محمد بن خلف العسقلاني ، قال : حدثنا محمد بن يوسف ، قال : حدثنا قيس بن الربيع ، عن الأعمش ، عن مسلم ، عن سعيد بن جُبير ، عن ابن عباس ، قال : لما خرج رسول الله صلى الله عليه وسلم من مكة ، قال أبو بكر : إنا لله وإنا إليه راجعون ، أخرج رسول الله صلى الله عليه وسلم ، والله ليهلكُنّ جميعا فلما نزلت : أُذِنَ للّذِينَ يُقاتَلُونَ بأنّهُمْ ظُلِمُوا . . . إلى قوله : الّذِينَ أُخْرِجُوا مِنْ دِيارِهِمْ بغَيْرِ حَقّ عرف أبو بكر أنه سيكون قتال .
حدثني يونس ، قال : أخبرنا ابن وهب ، قال : قال ابن زيد ، في قوله : أُذِنَ للّذِينَ يُقاتَلُونَ بأنّهُمْ ظُلِمُوا قال : أذن لهم في قتالهم بعد ما عفا عنهم عشر سنين . وقرأ : الّذِينَ أُخْرِجُوا مِنْ دِيارِهِمْ بغَيْرِ حَقّ وقال : هؤلاء المؤمنون .
حُدثت عن الحسين ، قال : سمعت أبا معاذ يقول : أخبرنا عبيد ، قال : سمعت الضحاك يقول ، في قوله : الّذِينَ أُخْرِجُوا مِنْ دِيارِهِمْ بغَيْرِ حَقّ .
وقال آخرون : بل عُني بهذه الاَية قوم بأعيانهم كانوا خرجوا من دار الحرب يريدون الهجرة ، فُمِنُعوا من ذلك . ذكر من قال ذلك :
حدثني محمد بن عمرو ، قال : حدثنا أبو عاصم ، قال : حدثنا عيسى وحدثني الحارث ، قال : حدثنا الحسن ، قال : حدثنا ورقاء جميعا ، عن ابن أبي نجيح ، عن مجاهد ، في قول الله : أُذِنَ للّذِينَ يُقاتَلُونَ بأنّهُمْ ظُلِمُوا قال : أناس مؤمنون خرجوا مهاجرين من مكة إلى المدينة ، فكانوا يمنعون ، فأذن اللّهِ للمؤمنين بقتال الكفار ، فقاتلوهم .
حدثنا القاسم ، قال : حدثنا الحسين ، قال : ثني حجاج ، عن ابن جُرَيج ، عن مجاهد ، في قوله : أُذِنَ للّذِينَ يُقاتَلُونَ بأنّهُمْ ظُلِمُوا قال : ناس من المؤمنين خرجوا مهاجرين من مكة إلى المدينة ، وكانوا يمنعون ، فأدركهم الكفار ، فأذن للمؤمنين بقتال الكفار فقاتلوهم . قال ابن جُرَيج : يقول : أوّل قتال أذن الله به للمؤمنين .
حدثنا ابن عبد الأعلى ، قال : حدثنا ابن ثور ، عن معمر ، عن قَتادة : في حرف ابن مسعود : «أُذِنَ للّذِينَ يُقاتَلُونَ في سَبِيلِ اللّهِ » قال قَتادة : وهي أوّل آية نزلت في القتال ، فأذن لهم أن يقاتلوا .
حدثنا الحَسن ، قال : أخبرنا عبد الرزاق ، عن معمر ، عن قَتادة ، في قوله : أُذِنَ للّذِينَ يُقاتَلُونَ بأنّهُمْ ظُلِمُوا قال : هي أوّل آية أنزلت في القتال ، فأذن لهم أن يقاتلوا .
وقد كان بعضهم يزعم أَن الله إنما قال : أذن للذين يقاتلون بالقتال من أجل أن أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم ، كانوا استأذنوا رسول الله صلى الله عليه وسلم في قتل الكفار إذَا آذوهم واشتدّوا عليهم بمكة قبل الهجرة غيلة سرّا فأنزل الله في ذلك : إنّ اللّهَ لا يُحِبّ كُلّ خَوّانٍ كَفُورٍ فَلَمّا هاجر رسول الله صلى الله عليه وسلم وأصحابه إلى المدينة ، أطلق لهم قتلهم وقتالهم ، فقال : أُذِنَ للّذِينَ يُقاتَلُونَ بأنّهُمْ ظُلِمُوا . وهذا قول ذكر عن الضحاك بن مزاحم من وجه غير ثبت .
وقوله : وَإنّ اللّهَ عَلى نَصْرِهِمْ لَقَدِيرٌ يقول جلّ ثناؤه : وإن الله على نصر المؤمنين الذين يقاتلون في سبيل الله لقادر ، وقد نصرهم فأعزّهم ورفعهم وأهلك عدوّهم وأذلهم بأيديهم .
جملة وقعت بدل اشتمال من جملة : { إن الله يدافع } [ الحج : 38 ] لأن دفاع الله عن الناس يكون تارة بالإذن لهم بمقاتلة من أراد الله مدافعتهم عنهم فإنه إذا أذن لهم بمقاتلتهم كان متكفلاً لهم بالنصر .
وقرأ نافع ، وأبو عمرو ، وعاصم { أُذِن } بالبناء للنائب . وقرأه الباقون بالبناء إلى الفاعل .
وقرأ نافع ، وابن عامر ، وحفص ، وأبو جعفر { يقاتَلون } بفتح التاء الفوقية مبنياً إلى المجهول . وقرأه البقية بكسر التاء مبنياً للفاعل .
والذين يقاتلون مراد بهم المؤمنون على كلتا القراءتين لأنهم إذا قوتلوا فقد قاتَلوا . والقتال مستعمل في المعنى المجازي إما بمادته ، وإما بصيغة المضي .
فعلى قراءة فتح التاء فالمراد بالقتال فيه القتل المجازي ، وهو الأذى . وأما على قراءة { يقاتِلون } بكسر التاء فصيغة المضي مستعملة مجازاً في التهيُّؤِ والاستعداد ، أي أذن للذين تَهَيّئوا للقتال وانتظروا إذن الله .
وذلك أنّ المشركين كانوا يُؤذون المؤمنين بمكة أذى شديداً فكان المسلمون يأتون رسول الله صلى الله عليه وسلم من بين مضروب ومشجوج يتظلمون إليه ، فيقول لهم : اصبروا فإني لم أومَر بالقتال ، فلما هاجر نزلت هذه الآية بعد بيعة العقبة إذناً لهم بالتهيُّؤ للدفاع عن أنفسهم ولم يكن قتال قبل ذلك كما يؤذن به قوله تعالى عقب هذا : { الذين أخرجوا من ديارهم بغير حق } [ الحج : 40 ] .
والباء في { بأنهم ظلموا } أراها متعلقة ب { أذن } لتضمينه معنى الإخبار ، أي أخبرناهم بأنهم مظلومون . وهذا الإخبار كناية عن الإذن للدفاع لأنك إذا قلت لأحد : إنك مظلوم ، فكأنك استعديته على ظالمه ، وذكرته بوجوب الدفاع ، وقرينة ذلك تعقيبه بقوله : { وإن الله على نصرهم لقدير } ، ويكون قوله : { بأنهم ظلموا } نائب فاعل { أذن } على قراءة ضم الهمزة أو مفعولاً على قراءة فتح الهمزة . وذهب المفسرون إلى أن الباء سببية وأن المأذون به محذوف دل عليه قوله { يقاتلون ، } أي أُذن لهم في القتال . وهذا يجري على كلتا القراءتين في قوله { يقاتلون } والتفسير الذي رأيتُه أنسبُ وأرشق .
وجملة { وإن الله على نصرهم لقدير } عطف على جملة { أذن للذين يقاتلون } أي أذن لهم بذلك وذُكروا بقدرة الله على أن ينصرهم . وهذا وعد من الله بالنصر وارد على سنن كلام العظيم المقتدر بإيراد الوعد في صورة الإخبار بأن ذلك بمحل العلم منه ونحوه ، كقولهم : عسى أن يكون كذا ، أو أن عندنا خيراً ، أو نحو ذلك ، بحيث لا يبقى للمترقب شك في الفوز بمطلوبه .
وتوكيد هذا الخبر بحرف التوكيد لتحقيقه أو تعريض بتنزيلهم منزلة المتردد في ذلك لأنهم استبطأوا النصر .