{ هذا فَلْيَذُوقُوهُ حَمِيمٌ وَغَسَّاق } : واسم الإشارة هنا مرفوع على الابتداء ، وخبره قوله { حَمِيمٌ وَغَسَّاق } وما بينهما اعتراض .
والحميم : الماء الذى بلغ النهاية فى الحرارة ، والغساق : صديد يسيل من أجساد أهل النار مأخوذ من قولهم غسق الجرح - كضرب وسمع - غسقانا إذا سال منه الصديد وما يشبهه .
أى : هذا هو عذابنا الذى أعددناه لهم ، يتمثل فى ماء بلغ الغاية فى الحرارة ، وفى قيح وصديد يسيلان من أجسادهم ، فليذوقوا كل ذلك جزاء كفرهم وجحودهم
وقوله : ( هَذَا فَلْيَذُوقُوهُ حَمِيمٌ وَغَسّاقٌ ) : يقول تعالى ذكره : هذا حميم ، وهو الذي قد أُغلي حتى انتهى حرّه ، وغساق فليذوقوه فالحميم مرفوع بهذا ، وقوله : فَلْيَذُوقُوهُ معناه التأخير ، لأن معنى الكلام ما ذكرت ، وهو : هذا حميم وغسّاق فليذوقوه . وقد يتجه إلى أن يكون هذا مكتفيا بقوله فليذوقوه ثم يُبْتدأ فيقال : حميمٌ وغَسّاق ، بمعنى : منه حميم ومنه غَسّاق كما قال الشاعر :
حتى إذا ما أضَاءَ الصّبْحُ في غَلَسٍ *** وَغُودِرَ البقْلُ مَلْويّ وَمَحْصُودُ
وإذا وُجّه إلى هذا المعنى جاز في هذا النصب والرفع . النصب : على أن يُضْمر قبلها لها ناصب ، كم قال الشاعر :
زِيادَتَنا نُعْمانُ لا تَحْرِمَنّنا *** تَقِ اللّهَ فِينا والكِتابَ الّذي تَتْلُو
والرفع بالهاء في قوله : ( فَلْيَذُوقُوهُ ) كما يقال : الليلَ فبادروه ، والليلُ فبادروه .
حدثنا محمد بن الحسين ، قال : حدثنا أحمد بن المفضل ، قال : حدثنا أسباط ، عن السديّ : ( هَذَا فَلْيَذوقُوهُ حَمِيمٌ وَغَسّاقٌ ) قال : الحميم : الذي قد انتهى حَرّه .
حدثني يونس ، قال : أخبرنا ابن وهب ، قال : قال ابن زيد : الحميم دموع أعينهم ، تجمع في حياض النار فيسقونه .
وقوله : ( وَغَسّاقٌ ) : اختلفت القرّاء في قراءته ، فقرأته عامة قرّاء الحجاز والبصرة وبعض الكوفيين والشام بالتخفيف : «وَغَسَاقٌ » وقالوا : هو اسم موضوع . وقرأ ذلك عامة قرّاء الكوفة : وَغَسّاقٌ مشدّدة ، ووجهوه إلى أنه صفة من قولهم : غَسَقَ يَغْسِقُ غُسُوقا : إذا سال ، وقالوا : إنما معناه : أنهم يُسْقَون الحميم ، وما يسيل من صديدهم .
والصواب من القول في ذلك عندي أنهما قراءتان قد قرأ بكل واحدة منهما علماء من القرّاء ، فبأيتهما قرأ القارىء فمصيب ، وإن كان التشديد في السّين أتمّ عندنا في ذلك ، لأن المعروف ذلك في الكلام ، وإن كان الاَخر غير مدفوعة صحته .
واختلف أهل التأويل في معنى ذلك ، فقال بعضهم : هو ما يَسيل من جلودهم من الصديد والدم . ذكر من قال ذلك : حدثنا بشر ، قال : حدثنا يزيد ، قال : حدثنا سعيد ، عن قتادة هَذَا فَلْيَذُوقُوهُ حَمِيمٌ وَغَسّاقٌ قال : كنا نحدّث أن الغَسّاق : ما يسيل من بين جلده ولحمه .
حدثنا محمد ، قال : حدثنا أحمد ، قال : حدثنا أسباط ، عن السديّ ، قال : الغسّاق : الذي يسيل من أعينهم من دموعهم ، يُسْقونه مع الحميم .
حدثنا ابن حميد ، قال : حدثنا جرير ، عن منصور ، عن إبراهيم ، قال : الغسّاق : ما يسيل من سُرْمهم ، وما يسقط من جلودهم .
حدثني يونس ، قال : أخبرنا ابن وهب ، قال : قال ابن زيد الغسّاق : الصديد الذي يجمع من جلودهم مما تصهَرهم النار في حياض يجتمع فيها فيُسقونه .
حدثني يحيى بن عثمان بن صالح السهميّ ، قال : ثني أبي ، قال : حدثنا ابن لَهيعة ، قال : ثني أبو قبيل أنه سمع أبا هبيرة الزيادي يقول : سمعت عبد الله بن عمرو يقول : أيّ شيء الغسّاق ؟ قالوا : الله أعلم ، فقال عبد الله بن عمرو : هو القَيْح الغليظ ، لو أن قطرة منه تُهرَاق في المغرب لأنتنت أهل المشرق ، ولو تُهَراق في المشرق لأنتنت أهل المغرب .
قال يحيى بن عثمان ، قال أبي : حدثنا ابن لَهِيعة مرّة أخرى ، فقال : حدثنا أبو قبيل ، عن عبد الله بن هبيرة ، ولم يذكر لنا أبا هبيرة .
حدثنا ابن عوف ، قال : حدثنا أبو المغيرة ، قال : حدثنا صفوان ، قال : حدثنا أبو يحيى عطية الكلاعيّ ، أن كعبا كان يقول : هل تدرون ما غَسّاق ؟ قالوا : لا والله ، قال : عين في جهنم يسيل إليها حُمَةُ كلّ ذات حُمَةٍ من حية أو عقرب أو غيرها ، فيستنقع فيؤتي بالاَدمي ، فيغْمَس فيها غمسة واحدة ، فيخرج وقد سقط جلده ولحمه عن العظام . حتى يتعلّق جلده في كعبيه وعقبيه ، وينجَرّ لحمه كجرّ الرجل ثوبه .
وقال آخرون : هو البارد الذي لا يُستطاع من برده . ذكر من قال ذلك :
حُدثت عن يحيى بن أبي زائدة ، عن ابن جُرَيج ، عن مجاهد : ( وغسّاق ) قال : بارد لا يُسْتطاع ، أو قال : برد لا يُسْتطاع .
حدثني عليّ بن عبد الأعلى ، قال : حدثنا المحاربيّ ، عن جُوَيبر ، عن الضحاك : ( هَذَا فَلْيَذُوقُوهُ حَمِيمٌ وغَسّاقٌ ) قال : يقال : الغسّاق : أبرد البرد ، ويقول آخرون : لا بل هو أنتن النَتْن .
وقال آخرون : بل هو المُنْتِن . ذكر من قال ذلك :
حُدثت عن المسيب ، عن إبراهيم النكري ، عن صالح بن حيان ، عن أبيه ، عن عبد الله بن بُرَيدة ، قال : الغسّاق : المنتن ، وهو بالطّخارية .
حدثني يونس ، قال : أخبرنا ابن وهب ، قال : ثني عمرو بن الحارث ، عن درّاج ، عن أبي الهيثم ، عن أبي سعيد الخُدريّ ، أن النبيّ صلى الله عليه وسلم قال : «لَوْ أنّ دَلْوا مِنْ غَسّاقٍ يُهَراقُ فِي الدّنيْا لأَنُتَنَ أهْلَ الدّنْيا » .
وأولى الأقوال في ذلك عندي بالصواب قول من قال : هو ما يسيل من صديدهم ، لأن ذلك هو الأغلب من معنى الْغُسُوق ، وإن كان للاَخر وجه صحيح .
اسم الإِشارة هنا جار على غالب مواقعه وهو نظير قوله : { هذا ما توعدون ليوم الحساب } [ ص : 53 ] والقول فيه مثله . وإشارة القريب لتقريب الإِنذار والمشار إليه ما تضمنه قوله : { جهنَّم يصلونها } [ ص : 56 ] من الصلي ومن معنى العذاب ، أو الإِشارة إلى شرّ من قوله : { لَشَرَّ مئابٍ } [ ص : 55 ] . ( و { حميم } خبر عن اسم الإِشارة . ومعنى الجملة في معنى بدل الاشتمال لأن شر المآب أو العذاب مشتمل على الحميم والغساق وغيرِه من شكله ، والمعنى : أن ذلك لهم لقوله : { وإنّ للطاغِينَ لشرَّ مَئابٍ } [ ص : 55 ] فما فُصل به شر المآب وعذاب جهنم فهو في المعنى معمول للام . والحميم : الماء الشديد الحرارة .
والغَساق : قرأه الجمهور بتخفيف السين . وقرأه حمزة والكسائي وحفص عن عاصم وخلف بتشديدها . قيل هما لغتان وقيل : غَسَّاق بالتشديد مبالغة في غَاسق بمعنى سائل ، فهو على هذا وصف لموصوف محذوف وليس اسماً لأن الأسماء التي على زنة فَعَّال قليلة في كلامهم .
والغساق : سائل يسيل في جهنم ، يقال : غَسَق الجُرح ، إذا سال منه ماء أصفر . وأحسب أن هذا الاسم بهذا الوزن أطلقه القرآن على سائل كريه يُسْقَوْنه كقوله : { بماء كالمهل يشوي الوجوه بئس الشراب } [ الكهف : 29 ] . وأحسب أنه لم تكن هذه الزنة من هذه المادة معروفة عند العرب ، وبذلك يومىء كلام الراغب . وهذا سبب اختلاف المفسرين في المراد منه . والأظهر : أنه صيغ له هذا الوزن ليكون اسماً لشيء يشبه ما يغسِقَ به الجرح ، ولذلك سمّي بالمهل والصديد في آيات أخرى .
وجملة { فَلْيَذُوقُوهُ } معترضة بين اسم الإِشارة والخبر عنه ، وهذا من الاعتراض المقترن بالفاء دون الواو ، والفاء فيه كالفاء في قوله : { فبئس المِهادُ } [ ص : 56 ] وقد تقدمت آنفاً .
وموقع الجملة كموقع قوله : { فامنن أو أمسك } [ ص : 39 ] كما تقدم آنفاً .
مشروع تقني يهدف لتوفير قالب تقني أنيق وحديث يليق بالمحتوى الثري لمشروع الجامع التاريخي لتفسير القرآن الكريم الصادر عن مؤسسة البحوث والدراسات العلمية (مبدع)، وقد تم التركيز على توفير تصفح سلس وسهل للمحتوى ومتوافق تماما مع أجهزة الجوال، كما تم عمل بعض المميزات الفريدة كميزة التلوين التلقائي للنصوص والتي تم بناء خوارزمية برمجية مخصصة لهذا الغرض.
تم الحصول على المحتوى من برنامج الجامع التاريخي لتفسير القرآن الكريم.
المشروع لا يتبع أي جهة رسمية أو غير رسمية، إنما هي جهود فردية ومبادرات شخصية لبعض الخبراء في مجال البرمجيات.
المشروع لازال في بداياته وننوي إن شاء الله العمل على تطويره بشكل مستمر وسنضع خطة تطوير توضح المميزات التي يجري العمل عليها إن شاء الله.
الدعاء للقائمين عليه، نشر الموقع والتعريف به، إرسال الملاحظات والمقترحات.