ثم سلى الله - تعالى - نبيه صلى الله عليه وسلم ببيان أن المترفين فى كل زمان ومكان هم أعداء الإصلاح ، وأن ما لقيه صلى الله عليه وسلم من أكابر مكة ليس بدعا بل هو شىء رآه الأنبياء قبله على أيدى أمثال هؤلاء المترفين فقال - تعالى - : { وكذلك جَعَلْنَا . . . } .
أكابر : جمع أكبر ، وهم الرؤساء والعظماء فى الأمم . والمجرمون : جمع مجرم ، من أجرم إذا اكتسب أمرا قبيحا ، ومنه الجرم والجريمة للذنب والإثم .
والمعنى : وكما جعلنا فى قريتك مكة رؤساء دعاة إلى الكفر وإلى عداوتك جعلنا فى كل قرية من قرى الرسل من قبلك رؤساء من المجرمين مثلهم ليمكروا فيها ، ويتجبروا على الناس ، ثم كانت العاقبة للرسل ، فلا تبتئس يا محمد مما يصيبك من زعماء مكة فتلك طبيعة الحياة فى كل عصر ، أن يكون زعماء الأمم وكبراؤها أشد الناس عداوة للرسل والمصلحين .
قال الجمل : وقوله : { أَكَابِرَ } مفعول أول لجعل ، وأكابر مضاف ومجرميها مضاف إليه ، و { فِي كُلِّ قَرْيَةٍ } المفعول الثانى لجعل ، ووجب تقديمه ليصح عود الضمير عليه ، فهو على حد قوله :
كذا إذا عاد عليه مضمر . . . مما به عنه مبينا يخبر
هذا أحسن الأعاريب وهناك أوجه أخرى للأعراب لا تخلو من مقال .
وخص الأكابر بالمكر ، لأنهم هم الحاملون لغيرهم على الضلال ، وهم الذين يتبعهم الضعفاء فى كفرهم وفجورهم .
قال ابن كثير : والمراد بالمكر هنا دعاؤهم غيرهم إلى الضلالة بزخرف من المقال والفعال كقوله - تعالى - إخباراً عن قوم نوح { وَمَكَرُواْ مَكْراً كُبَّاراً } وكقوله : { وَلَوْ ترى إِذِ الظالمون مَوْقُوفُونَ عِندَ رَبِّهِمْ يَرْجِعُ بَعْضُهُمْ إلى بَعْضٍ القول يَقُولُ الذين استضعفوا لِلَّذِينَ استكبروا لَوْلاَ أَنتُمْ لَكُنَّا مُؤْمِنِينَ قَالَ الذين استكبروا لِلَّذِينَ استضعفوا أَنَحْنُ صَدَدنَاكُمْ عَنِ الهدى بَعْدَ إِذْ جَآءَكُمْ بَلْ كُنتُمْ مُّجْرِمِينَ وَقَالَ الذين استضعفوا لِلَّذِينَ استكبروا بَلْ مَكْرُ الليل والنهار إِذْ تَأْمُرُونَنَآ أَن نَّكْفُرَ بالله وَنَجْعَلَ لَهُ أَندَاداً } الآية . وقوله - سبحانه - { وَمَا يَمْكُرُونَ إِلاَّ بِأَنْفُسِهِمْ وَمَا يَشْعُرُونَ } .
أى وما يمكر أولئك الأكابر المجرمون الذين يعادون الرسل والمصلحين فى كل وقت إلا بأنفسهم ، حيث يعود ضرره عليهم وحدهم فى الدنيا والآخرة ولكنهم لانطماس بصيرتهم ، لا يشعرون بأن مكرهم سيعود عليهم ضرره ، بل يتوهمون أنهم سينجون فى مكرهم بغيرهم من الأنبياء والمصلحين .
فالجملة الكريمة بيان لسنة من سنن الله فى خلقه ، وهى أن المكر السىء لا يحيق إلا بأهله ، وفى ذلك تسلية للنبى صلى الله عليه وسلم عما يصيبه منهم ، وبشارة له ، ولأصحابه بالنصر عليهم ، ووعيد لأولئك الماكرين بسوء المصير .
وجملة { وَمَا يَشْعُرُونَ } حال من ضمير يمكرون ، وهى تسجل عليهم بلاهتهم وجهالتهم حيث فقدوا الشعور بما من شأنه أن يعترف به كل عاقل .
القول في تأويل قوله تعالى : { وَكَذَلِكَ جَعَلْنَا فِي كُلّ قَرْيَةٍ أَكَابِرَ مُجَرِمِيهَا لِيَمْكُرُواْ فِيهَا وَمَا يَمْكُرُونَ إِلاّ بِأَنْفُسِهِمْ وَمَا يَشْعُرُونَ } .
يقول جلّ ثناؤه : وكما زينا للكافرين ما كانوا يعملون ، كذلك جعلنا بكلّ قرية عظماءها مجرميها ، يعني : أهل الشرك بالله والمعصية له لِيَمْكُرُوا فِيها بغرور من القول أو بباطل من الفعل بدين الله وأنبيائه . وَما يَمْكُرُونَ : أي ما يحيق مكرهم ذلك ، إلاّ بأنْفُسِهِمْ ، لأن الله تعالى ذكره من وراء عقوبتهم على صدّهم عن سبيله . وهم لا يشعرون ، يقول : لا يدرون ما قد أعدّ الله لهم من أليم عذابه ، فهم في غيهم وعتوّهم على الله يتمادون .
وبنحو ما قلنا في ذلك قال أهل التأويل . ذكر من قال ذلك :
حدثني محمد بن عمرو ، قال : حدثنا أبو عاصم ، قال : حدثنا عيسى ، عن ابن أبي نجيح ، عن مجاهد : أكابِرَ مُجْرِمِيها قال : عظماءها .
حدثني المثنى ، قال : حدثنا أبو حذيفة ، قال : حدثنا شبل ، عن ابن أبي نجيح ، عن مجاهد ، مثله .
حدثنا محمد بن عبد الأعلى ، قال : حدثنا محمد بن ثور ، عن معمر ، عن قتادة : أكابِرَ مُجْرِمِيها قال : عظماءها .
حدثنا القاسم ، قال : حدثنا الحسين ، قال : ثني حجاج ، عن ابن جريج ، عن عكرمة : نزلت في المستهزئين . قال ابن جريج : عن عمرو ، عن عطاء ، عن عكرمة : أكابِرَ مُجْرِمِيها . . . إلى قوله : بِمَا كانُوا يَمْكُرُونَ بدين الله وبنبيه عليه الصلاة والسلام وعباده المؤمنين .
والأكابر : جمع أكبر ، كما الأفاضل : جمع أفضل . ولو قيل : هو جمع كبير ، فجمع أكابر ، لأنه قد يقال أكبر ، كما قيل : قُلْ هُلْ أُنَبّئُكُمْ بالأخْسَرِينَ أعَمالاً واحدهم الخاسر لكان صوابا . وحُكي عن العرب سماعا : الأكابرة والأصاغرة ، والأكابر والأصاغر بغير الهاء على نية النعت ، كما يقال : هو أفضل منك . وكذلك تفعل العرب بما جاء من النعوت على «أفعل » إذا أخرجوها إلى الأسماء ، مثل جمعهم الأحمر والأسود : الأحامر والأحامرة ، والأساود والأساودة ومنه قول الشاعر :
إنّ الأحامِرَةَ الثّلاثَةَ أهْلَكَتْ ***مالي وكنتُ بِهِنّ قِدْما مُولَعَا
الخَمْرُ واللّحْمُ السّمِينُ أُدِيمُهُ ***والزّعفرانُ فلَنْ أزالَ مُبَقّعَا
وأما المكر : فإنه الخديعة والاحتيال للممكور به بالقدر ليورّطه الماكر به مكروها من الأمر .
{ وكذلك جعلنا في كل قرية أكابر مجرميها ليمكروا فيها } أي كما جعلنا في مكة أكابر مجرميها ليمكروا فيها جعلنا في كل قرية أكابر مجرميها ليمكروا فيها ، و{ جعلنا } بمعنى صيرنا ومفعولاه { أكابر مجرميها } على تقديم المفعول الثاني ، أو في كل قرية { أكابر } و{ مجرميها } بدل ويجوز أن يكون مضافا إليه إن فسر الجعل بالتمكين ، وأفعل التفضيل إذا أضيف جاز فيه الإفراد والمطابقة ولذلك قرئ " أكبر مجرميها " ، وتخصيص الأكابر لأنهم أقوى من استتباع الناس والمكر بهم . { وما يمكرون إلا بأنفسهم } لأن وباله يحيق بهم . { وما يشعرون } ذلك .
عطف على جملة : { كذلك زيّن للكافرين ما كانوا يعملون } [ الأنعام : 122 ] فلها حكم الاستئناف البياني ، لبيان سبب آخر من أسباب استمرار المشركين على ضلالهم ، وذلك هو مكر أكابر قريتهم بالرّسول صلى الله عليه وسلم والمسلمين وصرفهم الحيل لصدّ الدهماء عن متابعة دعوة رسول الله صلى الله عليه وسلم والمشار إليه بقوله : { وكذلك } أولياء الشياطين بتأويل { كذلك } المذكور .
والمعنى : ومِثْل هذا الجعل الذي جعلناه لمشركي مكّة جعَلنا في كلّ قرية مضت أكابرَ يصدّون عن الخير ، فشبّه أكابر المجرمين من أهل مكّة في الشرّك بأكابر المجرمين في أهل القرى في الأمَممِ الأخرى ، أي أنّ أمر هؤلاء ليس ببدع ولا خاصّ بأعداء هذا الدّين ، فإنَّه سنّة المجرمين مع الرسل الأوّلين .
فالجَعل : بمعنى الخلق ووضععِ السّنن الكونيّة ، وهي سنن خلق أسباب الخير وأسباب الشرّ في كلّ مجتمع ، وبخاصّة القُرى .
وفي هذا تنبيه على أنّ أهل البداوة أقرب إلى قبول الخير من أهل القرى ، لأنَّهم لبساطة طباعهم من الفطرة السّليمة ، فإذا سمعوا الخير تقبّلوه ، بخلاف أهل القرى ، فإنَّهم لتشبّثهم بعوائدهم وما ألفوه ، ينفرون من كلّ ما يغيّره عليهم ، ولهذا قال الله تعالى : { وممنّ حولكم من الأعراب منافقون ومن أهل المدينة مردوا على النّفاق } [ التوبة : 101 ] فجعل النّفاق في الأعراب نفاقاً مجرّداً ، والنّفاق في أهل المدينة نفاقاً مارداً .
وقد يكون الجَعل بمعنى التّصيير ، وهو تصيير خَلْق على صفة مخصوصة أو تصيير مخلوق إلى صفة بعد أن كان في صفة أخرى ، ثمّ إنّ تصارع الخير والشرّ يكون بمقدار غلبة أهل أحدهما على أهل الآخر ، فإذا غلب أهل الخير انقبض دعاة الشرّ والفساد ، وإذا انعكس الأمر انبسط دعاة الشرّ وكثروا . ومن أجل ذلك لم يزل الحكماء الأقدمون يبذلون الجهد في إيجاد المدينة الفاضلة الّتي وصفها ( أفلاطون ) في « كتابه » ، والّتي كادت أن تتحقّق صفاتها في مدينة ( أثينة ) في زمن جمهوريتها ، ولكنّها ما تحقّقت بحقّ إلاّ في مدينة الرّسول صلى الله عليه وسلم في زمانه وزمان الخلفاء الرّاشدين فيها .
وقد نبّه إلى هذا المعنى قوله تعالى : { وإذَا أردْنا أن نهلك قرية أمَّرْنا مترفيها ففسقوا فيها فحقّ عليها القول فدمرناها تدميراً } [ الإسراء : 16 ] على قراءة تشديد ميم : { أمَّرنا } . والأظهر في نظم الآية : أنّ { جعلنا } بمعنى خلقنا وأوجدنا ، وهو يتعدّى إلى مفعول واحد كقوله : { وجعل الظّلمات والنّور } [ الأنعام : 1 ] فمفعوله : { أكابر مجرميها } .
وقوله : { في كل قرية } ظرف لغو متعلّق ب { جعلنا } وإنَّما قدّم على المفعول مع أنّه دونه في التعلّق بالفعل ، لأنّ كون ذلك من شأن جميع القرى هو الأهمّ في هذا الخبر ، ليَعلم أهل مكّة أنّ حالهم جرى على سُنن أهل القرى المرسل إليها .
وفي قوله : { أكبر مجرميها } إيجاز لأنَّه أغنى عن أن يقول جعلنا مُجرمين وأكابر لهم وأن أولياء الشياطين أكابر مجرمي أهل مكة ، وقوله : { ليمكروا } متعلّق ب { جعلنا } أي ليحصُل المكر ، وفيه على هذا الاحتمال تنبيه على أنّ مكرهم ليس بعظيم الشأن .
ويحتمل أن يكون { جعلنا } بمعنى صيّرنا فيتعدّى إلى مفعولين هما : { أكبر مجرميها } على أنّ { مجرميها } المفعول الأوّل ، و { أكابر } مفعول ثان ، أي جعلنا مجرميها أكابر ، وقدم المفعول الثّاني للاهتمام به لغرابة شأنه ، لأنّ مصير المجرمين أكابر وسادة أمر عجيب ، إذ ليسوا بأهل للسؤدد ، كما قال طفيل الغنوي :
لا يصلح النّاس فَوضى لا سَراة لهم *** ولا سَراة إذا جُهَّالهم ســادوا
تُهدَى الأمورُ بأهل الرأي ما صَلُحت *** فإنْ تولَّتْ فبالأشرار تَنْقَــادُ
وتقديم قوله : { في كل قرية } للغرض المذكور في تقديمه للاحتمال الأوّل . وفي هذا الاحتمال إيذان بغلبة الفساد عليهم ، وتفاقم ضرّه ، وإشعار بضرورة خروج رسول الله صلى الله عليه وسلم من تلك القرية ، وإيذان باقتراب زوال سيادة المشركين إذ تولاها المجرمون لأنّ بقاءهم على الشّرك صيّرهم مجرمين بين مَن أسلم منهم .
ولعلّ كلا الاحتمالين مراد من الكلام ليفرض السّامعون كليهما ، وهذا من ضروب إعجاز القرآن كما تقدّم عند قوله تعالى : { والذين آتيناهم الكتاب يعلمون أنَّه منزل من ربّك بالحقّ فلا تكوننّ من الممترين } [ الأنعام : 114 ] .
واللاّم في { ليمكروا } لام التّعليل ، فإنّ من جملة مراد الله تعالى من وضع نظام وجود الصّالح والفاسد ، أن يعمل الصّالح للصلاح ، وأن يعمل الفاسد للفساد ، والمكرُ من جملة الفساد ، ولام التّعليل لا تقتضي الحصر ، فللّه تعالى في إيجاد أمثالهم حِكَم جمّة ، منها هذه الحكمة ، فيظهر بذلك شرف الحقّ والصّلاح ويسطع نوره ، ويظهر انْدِحاض الباطل بين يديه بعد الصّراع الطّويل ؛ ويجوز أن تكون اللام المسماةَ لام العاقبة ، وهي في التحقيق استعارة اللام لمعنى فاء التفريع كالتي في قوله تعالى : { فالتقطه آل فرعون ليكون لهم عدوّاً وحزناً } [ القصص : 8 ] .
ودخلت مكّة في عموم : { كل قرية } وهي المقصود الأول ، لأنَّها القرية الحاضرة الّتي مُكِر فيها ، فالمقصود الخصوص . والمعنى : وكذلك جعلنا في مكّة أكابر مجرميها ليمكروا فيها كما جعلنا في كلّ قرية مثلَهم ، وإنَّما عُمّم الخبرُ لقصد تذكير المشركين في مكّة بما حلّ بالقرى من قبلها ، مثل قرية : الحِجر ، وسَبا ، والرّس ، كقوله : { تلك القرى نقص عليك من أنبائها ولقد جاءتهم رسلهم بالبيّنات فما كانوا ليؤمنوا } [ الأعراف : 101 ] ، ولقصد تسلية الرّسول صلى الله عليه وسلم بأنَّه ليس ببدع من الرّسل في تكذيب قومه إيَّاه ومكرهم به ووعده بالنّصر .
وقوله : { أكبر مجرميها } أكابر جمع أكبر . وأكبر اسم لعظيم القوم وسيّدهم ، يقال : ورثوا المجد أكْبَر أكْبَر ، فليست صيغة أفعل فيه مفيدة الزّيادة في الكبر لا في السِنّ ولا في الجسم ، فصار بمنزلة الاسم غير المشتقّ ، ولذلك جمع إذا أخبر به عن جمع أو وُصف به الجمع ولو كان معتبراً بمنزلة الاسم المشتقّ لكان حقّه أن يلزم الإفراد والتّذكير .
وجمع على أكابر ، يقال : ملوك أكابر ، فوزن أكابر في الجمع فَعالل مثل أفاضل جمع أفضل ، وأيامِنَ وأشَائِمَ جمع أيَمن وأشأم للطّير السوانح في عرف أهل الزجر والعيافة .
وأعلم أنّ اصطلاح النّحاة في موازين الجموع في باب التّكسير وفي باب ما لا ينصرف أن ينظروا إلى صورة الكلمة من غير نظر إلى الحروف الأصليّة والزائدة بخلاف اصطلاح علماء الصّرف في باب المُجرّد والمزيد . فهمزة أكبر تعتبر في الجمع كالأصلي وهي مزيدة .
وفي قوله : { أكبر مجرميها } إيجاز لأنّ المعنى جعلنا في كلّ قرية مجرمين وجعلنا لهم أكابر فلمّا كان وجود أكابر يقتضي وجود من دونهم استغنى بذكر أكابر المجرمين .
والمكر : إيقاع الضرّ بالغير خُفية وتحيُّلاً ، وهو من الخداع ومن المذام ، ولا يغتفر إلاّ في الحرب ، ويغتفر في السّياسة إذا لم يمكن اتّقاء الضرّ إلاّ به ، وأمّا إسناده إلى الله في قوله تعالى : { ومكرَ الله واللَّهُ خير الماكرين } [ آل عمران : 54 ] فهو من المشاكلة لأنّ قبلهُ { ومكروا } [ آل عمران : 54 ] ، أي مكروا بأهل الله ورسله . والمراد بالمكر هنا تحيّل زعماء المشركين على النّاس في صرفهم عن النّبيء صلى الله عليه وسلم وعن متابعة الإسلام ، قال مجاهد : كانوا جلسوا على كلّ عقبة ينفّرون النّاس عن اتّباع النّبيء صلى الله عليه وسلم .
وقد حذف متعلِّق : { ليمكروا } لظهوره ، أي ليمكروا بالنَّبيء عليه الصلاة والسلام ظنّاً منهم بأنّ صدّ النّاس عن متابعته يضرّه ويحزنه ، وأنَّه لا يعلم بذلك ، ولعلّ هذا العمل منهم كان لما كثُر المسلمون في آخر مدّة إقامتهم بمكّة قبيل الهجرة إلى المدينة ، ولذلك قال الله تعالى : { وما يمكرون إلا بأنفسهم } ، فالواو للحال ، أي هم في مكرهم ذلك إنَّما يضرّون أنفسهم ، فأطلق المكر على مآله وهو الضرّ ، على سبيل المجاز المرسل ، فإنّ غاية المكر ومآله إضرار الممكور به ، فلمّا كان الإضرار حاصلا للماكرين دون الممكور به أطلق المكر على الإضرار .
وجيء بصيغة القصر : لأنّ النّبيّء صلى الله عليه وسلم لا يلحقه أذى ولا ضرّ من صدّهم النّاس عن اتِّباعه ، ويَلحق الضرّ الماكرين ، في الدّنيا : بعذاب القتل والأسر ، وفي الآخرة : بعذاب النّار ، إنْ لم يؤمنوا فالضرّ انحصر فيهم على طريقة القصر الإضافي ، وهو قصر قلب .
وقوله : { وما يشعرون } جملة حال ثانية ، فهم في حالة مكرهم بالنّبيء متّصفون بأنَّهم ما يمكرون إلاّ بأنفسهم وبأنَّهم ما يشعرون بلحاق عاقبة مكرهم بهم ، والشّعور : العلم .