ثم أصدر القرآن الكريم حكمه الفاصل في شأن عبدة العجل فقال تعالى :
{ إِنَّ الذين اتخذوا العجل سَيَنَالُهُمْ غَضَبٌ مِّن رَّبِّهِمْ وَذِلَّةٌ فِي الحياة الدنيا وَكَذَلِكَ نَجْزِي المفترين } .
والمعنى . إن الذين اتخذوا العجل معبودا ، واستمروا على ضلالتهم سيحيق بهم سخط شديد من ربهم ، ولا تقبل توبتهم إلا إذا قتلوا أنفسهم ، وسيصيبهم كذلك هوان وصغار في الحياة الدنيا ، وبمثل هذا الجزاء نجازى المفترين جميعا في كل زمان ومكان ، لخروجهم عن طاعتنا ، وتجاوزهم لحدودنا ، فهو جزاء متكرر كلما تكررت الجريمة من بنى إسرائيل وغيرهم .
القول في تأويل قوله تعالى : { إِنّ الّذِينَ اتّخَذُواْ الْعِجْلَ سَيَنَالُهُمْ غَضَبٌ مّن رّبّهِمْ وَذِلّةٌ فِي الْحَياةِ الدّنْيَا وَكَذَلِكَ نَجْزِي الْمُفْتَرِينَ } . .
يقول تعالى ذكره : إنّ الّذِينَ اتّخَذُوا العِجْلَ إلها ، سَيَنالُهُمْ غَضَبٌ مِنْ رَبّهِمْ بتعجيل الله لهم ذلك ، وَذِلّةٌ وهي الهوان ، لعقوبة الله إياهم على كفرهم بربهم في الحَياةِ الدّنْيا في عاجل الدنيا قبل آجل الاَخرة . وكان ابن جريج يقول في ذلك بما :
حدثنا القاسم ، قال : حدثنا الحسين ، قال : ثني حجاج ، عن ابن جريج ، قوله : إنّ الّذِينَ اتّخَذُوا العِجْلَ سَيَنالُهُمْ غَضَبٌ مِنْ رَبّهِمْ وَذِلّةٌ فِي الحَياةِ الدّنْيا وكذلكَ نَجْزِي المُفْتَرِينَ قال : هذا لمن مات ممن اتخذ العجل قبل أن يرجع موسى عليه السلام ، ومن فرّ منهم حين أمرهم موسى أن يقتل بعضهم بعضا .
وهذا الذي قاله ابن جريج ، وإن كان قولاً له وجه ، فإن ظاهر كتاب الله مع تأويل أكثر أهل التأويل بخلافه وذلك أن الله عمّ بالخبر عمن اتخذ العجل أنه سينالهم غضب من ربهم وذلة في الحياة الدنيا . وتظاهرت الأخبار عن أهل التأويل من الصحابة والتابعين بأن الله ، إذ رجع إلى بني إسرائيل موسى عليه السلام ، تاب على عَبَدة العجل من فعلهم ، بما أخبر به عن قيل موسى عليه السلام في كتابه ، وذلك قوله : وَإذْ قالَ مُوسَى لِقَوْمِهِ يا قَوْمِ إنّكُمْ ظَلَمْتُمْ أنْفُسَكُمْ باتّخاذِكُمُ العِجْلَ فَتُوبُوا إلى بارِئِكُمْ فاقْتُلُوا أنْفُسَكُمْ فَفعلوا ما أمرهم به نبيهم صلى الله عليه وسلم ، فكان أمر الله إياهم بما أمرهم به من قتل بعضهم أنفس بعض ، عن غضب منه عليهم بعبادتهم العجل ، فكان قتل بعضهم بعضا هوانا لهم وذلة أذّلهم الله بها في الحياة الدنيا ، وتوبة منهم إلى الله قِبَلها . وليس لأحد أن يجعل خبرا جاء الكتاب بعمومه في خاصّ مما عمه الظاهر بغير برهان من حجة خبر أو عقل ، ولا نعلم خبرا جاء بوجوب نقل ظاهر قوله : إنّ الّذِينَ اتّخَذُوا العِجْلَ سَيَنالُهُمْ غَضَبٌ مِنْ رَبّهِمْ إلى باطن خاصّ ، ولا من العقل عليه دليل ، فيجب إحالة ظاهره إلى باطنه .
ويعني بقوله : وكذلكَ نَجْزِي المُفْتَرِينَ وكما جزيتُ هؤلاء الذين اتخذوا العجل إلها من إحلال الغضب بهم ، والإذلال في الحياة الدنيا على كفرهم ربهم ، وردتهم عن دينهم بعد إيمانهم بالله ، وكذلك نجزي كلّ من افترى على الله فكذب عليه وأقرّ بألوهية غيره وعبد شيئا سواه من الأوثان بعد إقراره بوحدانية الله ، وبعد إيمانه به وبأنبيائه ورسله وقِيلِ ذلك ، إذا لم يتب من كفره قبل قتله .
وبنحو الذي قلنا في ذلك قال جماعة من أهل التأويل . ذكر من قال ذلك :
حدثنا محمد بن عبد الأعلى ، قال : حدثنا محمد بن ثور ، عن معمر ، عن أيوب ، قال : تلا أبو قِلابة : سَيَنالُهُمْ غَضَبٌ مِنْ رَبّهِمْ وَذِلّةٌ فِي الحَياةِ الدّنْيا . . . الاَية ، قال : فهو جزاء كلّ مفتر يكون إلى يوم القيامة ، أن يذله الله عزّ وجلّ .
حدثني المثنى ، قال : حدثنا أبو النعمان عارم ، قال : حدثنا حماد بن زيد ، عن أيوب ، قال : قرأ أبو قلابة يوما هذه الاَية : إنّ الّذِينَ اتّخَذُوا العِجْلَ سَيَنالُهُمْ غَضَبٌ مِنْ رَبّهِمْ وَذِلّةٌ فِي الحَياةِ الدّنْيا وكذلكَ نَجْزِي المُفْتَرِينَ قال : هي والله لكلّ مفتر إلى يوم القيامة .
قال : حدثنا حجاج ، قال : حدثنا حماد ، عن ثابت وحميد : أن قيس بن عباد وجارية بن قدامة دخلا على عليّ بن أبي طالب رضي الله عنه ، فقالا : أرأيت هذا الأمر الذي أنت فيه وتدعو إليه ، أعهد عهده إليك رسول الله صلى الله عليه وسلم أم رأى رأيته ؟ قال : مالكما ولهذا ؟ أعرضا عن هذا فقالا : والله لا نعرض عنه حتى تخبرنا . فقال : ما عهد إليّ رسول الله صلى الله عليه وسلم إلا كتابا في قراب سيفي هذا . فاستلّه فأخرج الكتاب من قراب سيفه ، وإذا فيه : «إنّهُ لَمْ يَكُنْ نَبِيّ إلاّ لَهُ حَرَمٌ ، وإنّي حَرّمْتُ المَدِينَةَ كمَا حَرّمَ إبْرَاهِيمُ عَلَيْهِ السّلامُ مَكّةَ ، لا يُحْمَلُ فِيها السّلاحُ لِقِتالٍ ، مَنْ أحْدَثَ حَدَثا أوْ آوَى مُحْدِثا فعَلَيْهِ لَعْنَةُ اللّهِ وَالمَلائِكَةِ وَالنّاسِ أجَمعِينَ ، لا يُقْبَلُ مِنْهُ صَرْفٌ وَلا عَدْلٌ » فلما خرجا قال أحدهما لصاحبه : أما ترى هذا الكتاب ؟ فرجعا وتركاه ، وقالا : إنا سمعنا الله يقول : إنّ الّذِينَ اتّخَذُوا العِجْلَ سَيَنالُهُمْ غَضَبٌ مِنْ رَبّهِمْ . . . الاَية ، وإن القوم قد افتروا فرية ، ولا أدري إلا سينزل بهم ذلة .
حدثني المثنى ، قال : حدثنا إسحاق ، قال : حدثنا عبد الله بن الزبير ، عن ابن عيينة : في قوله : وكذلكَ نَجْزِي المُفْتَرِينَ . قال : كل صاحب بدعة ذليل .
يجوز أن قوله : { إن الذين اتخذوا العجل } إلى قوله : { الدنيا } من تمام كلام موسى ، فبعد أن دعا لأخيه بالمغفرة أخبر أن الله غضب على الذين عبدوا العجل . وأنه سيظهر أثر عضبه عليهم ، وستنالهم ذلة في الدنيا وذلك بوحي تلقاه ، وانتهى كلام موسى عند قوله : { في الحياة الدنيا } ، وأن جملة : { وكذلك نجزي المفترين } خطاب من جانب الله في القرآن ، فهو اعتراض والواو اعتراضية ذيل الله بهذا الاعتراض حكاية كلام موسى فأخبر بأنه يجازي كل مفتر بمثل ما أخبر به موسى عن مفتري قومه ، وأن جملة : { والذين عملوا السيئات } إلى آخر الآية تكملة للفائدة ببيان حالة أضداد المتحدث عنهم وعن أمثالهم .
ويجوز أن تكون جملة : { إن الذين اتخذوا العجل } إلى آخرها خطاباً من الله لموسى ، جواباً عن دعائه لأخيه بالمغفرة بتقدير فعللِ قول محذوف : أي قلنا إن الذين اتخذوا العجل إلى آخره ، مثل ما حكى الله تعالى عن إبراهيم في قوله تعالى : { وإذ قال إبراهيم رب اجعل هذا بلداً آمنا وارزق أهله من الثمرات من آمن منهم بالله واليوم الآخر قال ومن كفر فأمتعه قليلاً } [ البقرة : 126 ] الآية .
والنول والنّيْل : الأخذُ وهو هنا استعارة للإصابة والتلبس كما في قوله تعالى : { أولئك ينالهم نصيبهم من الكتاب } في هذه السورة ( 37 ) ، والذين اتخذوا العجل هم الذين عبدوه فالمفعول الثاني { لاتخذوا } محذوف اختصاراً ، أي اتخذوه إلاهاً .
وتعريفهم بطريق الموصولية ، لأنها أخصر طريق في استحضارهم بصفة عرفوا بها ، ولأنه يؤذن بسببية ما نالهم من العقاب ، والمراد بالغضب ظهور أثره من الخذلان ومنع العناية ، وأما نفس الغضب فهو حاصل في الحال .
وغضب الله تعالى إرادته السوء بعبده وعقابه في الدنيا والآخرة أو في إحداهما .
والذلة : خضوع في النفس واستكانة من جرّاء العجز عن الدفع ، فمعنى : نيل الذلّة إياهم أنهم يصيرون مغلوبين لمن يغلبهم ، فقد يكون ذلك بتسليط العدو عليهم ، أو بسلب الشجاعة من نفوسهم . بحيث يكونون خائفين العدو ، ولو لم يسلّط عليهم ، أو ذلّة الاغتراب إذ حرمهم الله ملك الأرض المقدسة فكانوا بلا وطن طول حياتهم حتى انقرض ذلك الجيل كله ، وهذه الذلّة عقوبة دنيوية قد لا تمحوها التوبة ، فإن التوبة إنما تقتضي العفو عن عقاب التكليف ، ولا تقتضي ترك المؤاخذة بمصائب الدنيا ، لأن العقوبات الدنيوية مسببات تنشأ عن أسبابها ، فلا يلزم أن ترفعها التوبة إلا بعناية إلهية خاصة ، وهذا يشبه التفرقة بين خطاب الوضع وخطاب التكليف كما يؤخذ من حديث الإسراء لما أُتي رسول الله صلى الله عليه وسلم بإناءَيْن أحدهما من لبن والآخر من خمر ، فاختار اللبن ، فقال جبريل : الحمد لله الذي هداك للفطرة لو أخذت الخمر لغَوَتْ أمتك ، هذا وقد يمحو الله العقوبة الدنيوية إذا رَضي عن الجاني والله ذو فضل عظيم .
والقول في الإشارة من قوله : { وكذلك } تقدم في قوله { وكذلك جعلناكم أمة وسطاً } في سورة البقرة ( 143 ) ، أي ومثل ذلك الجزاء العظيم نجزي المفترين .
والافتراء الكذب الذي لا شبهة لكاذبه في اختلاقه ، وقد مضى في قوله تعالى : { ولكن الذين كفروا يفترون على الله الكذب وأكثرهم لا يعقلون } في سورة المائدة ( 103 ) .
والمراد بالافتراء الاختلاق في أصول الدين بوضع عقائِدَ لا تستند إلى دليل صحيح من دلالة العقل أو من دلالة الوحي ، فإن موسى عليه السلام كان حذرهم من عبادة الأصنام كما حكاه الله فيما مضى في قوله تعالى : { وجاوزنا ببني إسرائيل البحر فأتوا على قوم يعكفون على أصنام لهم . . . } [ الأعراف : 138 140 ] الآيات الثلاث المتقدمة آنفاً ، فجعل الله جزاءهم على الافتراء الغضبَ والذلة ، وذلك إذا فعلوا مثله بعد أن جاءتهم الموعظة من الله ، ولذلك لم يكن مشركو العرب أذلاّء ، فلما جاء محمد صلى الله عليه وسلم وهداهم فاستمروا على الافتراء عاقبهم الله بالذلة ، فأزال مهابتهم من قلوب العرب ، واستأصلهم قتلاً وأسراً ، وسلَب ديارهم ، فلما أسلم منهم من أسلموا صاروا أعزة بالإسلام .