التفسير الوسيط للقرآن الكريم لسيد طنطاوي - سيد طنطاوي [إخفاء]  
{لَا يُقَٰتِلُونَكُمۡ جَمِيعًا إِلَّا فِي قُرٗى مُّحَصَّنَةٍ أَوۡ مِن وَرَآءِ جُدُرِۭۚ بَأۡسُهُم بَيۡنَهُمۡ شَدِيدٞۚ تَحۡسَبُهُمۡ جَمِيعٗا وَقُلُوبُهُمۡ شَتَّىٰۚ ذَٰلِكَ بِأَنَّهُمۡ قَوۡمٞ لَّا يَعۡقِلُونَ} (14)

ثم يقرر - سبحانه - حقيقة أخرى ، أيدتها التجارب والمشاهد الواقعية ، فقال - تعالى - : { لاَ يُقَاتِلُونَكُمْ جَمِيعاً إِلاَّ فِي قُرًى مُّحَصَّنَةٍ أَوْ مِن وَرَآءِ جُدُرٍ بَأْسُهُمْ بَيْنَهُمْ شَدِيدٌ تَحْسَبُهُمْ جَمِيعاً وَقُلُوبُهُمْ شتى . . . } .

والآية الكريمة بدل اشتمال من التى قبلها ، لأن شدة الخوف من المؤمنين جعلت اليهود وحلفاءهم ، لا يقاتلون المسلمين ، إلا من رواء الخنادق والحصون .

والجدر : جمع جدار ، وهو بناء مرتفع يحتمى به من يقاتل من خلفه . و { جَمِيعاً } بمعنى مجتمعين كلهم . . ، أي : أن هؤلاء اليهود وحلفاءهم من المنافقين ، لا يقاتلونكم مجتمعين كلهم فى موطن من المواطن إلا فى قرى محصنة بالخنادق وغيرها ، أو يقاتلونكم من وراء الجدران التى يتسترون بها ، لأنهم يعجزون عن مبارزتكم ، وعن مواجهتكم وجها لوجه ، لفرط رهبتهم منكم . .

قال ابن كثير : يعنى أنهم فى جبنهم وهلعهم ، لا يقدرون على مواجهة جيش الإسلام ، بالمبارزة والمقاتلة ، بل إما فى حصون ، أو من وراء جدر محاصرين ، فيقاتلونكم للدفع عنهم ضرورة .

وقوله - تعالى - : { بَأْسُهُمْ بَيْنَهُمْ شَدِيدٌ } جملة مستأنفة ، كأن قائلا قال : ولماذا لا يقاتلون المؤمنين إلا على هذه الصورة ؟ فكان الجواب : بأسهم بينهم شديد . أى : عداوتهم فيما بينهم عداوة شديدة ، بحيث لا يتفقون على رأى ، وقوتهم يستعملونها فيما بينهم استعمالا واسعا ، فإذا ما التقوا بكم تحولت هذه القوة إلى جبن وهلع .

قال صاحب الكشاف : يعنى أن البأس الشديد الذى يوصفون به ، إنما هو فيما بينهم إذا اقتتلوا ، ولو قاتلوكم لم يبق لهم ذلك البأس والشدة ، لأن الشجاع يجبن والعزيز يذل ، عند محاربة الله ورسوله .

وقوله - تعالى - : { تَحْسَبُهُمْ جَمِيعاً وَقُلُوبُهُمْ شتى } استئناف آخر للإجابة عما يقال : من أنه كيف تكون عداوتهم فيما بينهم شديدة ، ونحن نراهم متفقين ؟ .

فكان الجواب : ليس الأمر كما يظهر من حالهم من أن بينهم تضامنا وترابطا . . . بل الحق أنهم متدابرون مختلفون متباغضون . . . وإن كانت ظواهرهم تدل على خلاف ذلك .

أي : تحسبهم أيها الناظر إليهم مؤتلفين . . . والحال أن قلوبهم متفرقة ، ومنازعهم مختلفة وبواطنه تباين ظواهرهم . . . وما دام الأمر كذلك فلا تبالوا بهم - أيها المؤمنون - ، بل أغلظوا عليهم ، وجاهدوهم بكل قوة وجسارة .

واسم الإشارة فى قوله : { ذَلِكَ بِأَنَّهُمْ قَوْمٌ لاَّ يَعْقِلُونَ } يعود إلى ما سبق ذكره ، من شدة عداوتهم فيما بينهم ، ومن مخالفة بواطنهم لظواهرهم .

أى : ذلك الذى ذكرناه لكم من شدة بأسهم فيما بينهم ، ومن مخالفة بواطنهم لظواهرهم ، سببه أنهم قوم لا يعقلون الحق والهدى والرشاد . . . وإنما هم ينساقون وراء أهوائهم بدافع من الأحقاد والمطامع والشهوات ، بدون إدراك لعواقب الأمور ، أو للفهم الصحيح . . .

 
جامع البيان عن تأويل آي القرآن للطبري - الطبري [إخفاء]  
{لَا يُقَٰتِلُونَكُمۡ جَمِيعًا إِلَّا فِي قُرٗى مُّحَصَّنَةٍ أَوۡ مِن وَرَآءِ جُدُرِۭۚ بَأۡسُهُم بَيۡنَهُمۡ شَدِيدٞۚ تَحۡسَبُهُمۡ جَمِيعٗا وَقُلُوبُهُمۡ شَتَّىٰۚ ذَٰلِكَ بِأَنَّهُمۡ قَوۡمٞ لَّا يَعۡقِلُونَ} (14)

وقوله : { لا يُقاتِلُونَكُمْ جَمِيعا إلاّ فِي قُرًى مُحَصّنَةٍ } يقول جلّ ثناؤه : لا يقاتلكم هؤلاء اليهود بني النضير مجتمعين إلا في قرى محصنة بالحصون ، لا يبرزون لكم بالبراز ، { أوْ مِنْ وَرَاءِ جُدُرٍ } يقول : أو من خلف حيطان .

واختلف القرّاء في قراءة ذلك ، فقرأته عامة قرّاء الكوفة والمدينة { أوْ مِنْ وَرَاءِ جُدُر } على الجماع بمعنى الحيطان . وقرأه بعض قرّاء مكة والبصرة : «مِنْ وَرَاءِ جِدَارٍ » على التوحيد بمعنى الحائط .

والصواب من القول عندي في ذلك أنهما قراءاتان معروفتان صحيحتا المعنى ، فبأيتهما قرأ القارىء فمصيب .

وقوله : { بأْسُهُمْ بَيْنَهُمْ شَدِيدٌ }يقول جلّ ثناؤه : عداوة بعض هؤلاء الكفار من اليهود بعضا شديدة تَحْسَبُهُمْ جَمِيعا يعني المنافقين وأهل الكتاب ، يقول : تظنهم مؤتلفين مجتمعة كلمتهم ، { وَقُلُوبُهُمْ شَتّى } يقول : وقلوبهم مختلفة لمعاداة بعضهم بعضا .

وقوله : { ذَلِكَ بأنّهُمْ قَوْمٌ لا يَعْقِلُونَ }يقول جلّ ثناؤه : هذا الذي وصفت لكم من أمر هؤلاء اليهود والمنافقين ، وذلك تشتيت أهوائهم ، ومعاداة بعضهم بعضا من أجل أنهم قوم لا يعقلون ما فيه الحظّ لهم مما فيه عليهم البخس والنقص . وبنحو الذي قلنا في ذلك قال أهل التأويل . ذكر من قال ذلك :

حدثنا بشر ، قال : حدثنا يزيد ، قال : حدثنا سعيد ، عن قتادة ، قوله : { لا يُقاتِلُونَكُمْ جَمِيعا إلاّ فِي قُرًى مُحَصّنَةٍ أوْ مِنْ وَرَاءِ جُدُرٍ بأْسُهُمْ بَيْنَهُمْ شَدِيدٌ تَحْسَبُهُمْ جَمِيعا وَقُلُوبُهُمْ شَتّى ذَلكَ بأنّهُمْ قَوْمٌ لا يَعْقِلُونَ } قال : تجد أهل الباطل مختلفة شهادتهم ، مختلفة أهواؤهم ، مختلفة أعمالهم ، وهم مجتمعون في عداوة أهل الحقّ .

حدثني محمد بن عمرو ، قال : حدثنا أبو عاصم ، قال : حدثنا عيسى وحدثني الحارث ، قال : حدثنا الحسن ، قال : حدثنا ورقاء ، جميعا عن ابن أبي نجيح ، عن مجاهد ، قوله : { تَحْسَبُهُمْ جَمِيعا وَقُلُوبُهُمْ شَتّى }قال : المنافقون يخالف دينهم دين النضير .

حدثنا ابن حُمَيد ، قال : حدثنا مهران ، عن سفيان ، عن ليث ، عن مجاهد تَحْسَبُهُمْ جَمِيعا وَقُلُوبُهُمْ شَتّى قال : هم المنافقون وأهل الكتاب .

قال : ثنا مهران ، عن سفيان ، مثل ذلك .

حدثنا ابن حُمَيد ، قال : حدثنا مهران ، عن سفيان ، عن خصيف ، عن مجاهد { تَحْسَبُهُمْ جَمِيعا وَقُلُوبُهُمْ شَتّى }قال : المشركون وأهل الكتاب .

وذُكر أنها في قراءة عبد الله : { وَقُلُوبُهُمْ أشَتّ } بمعنى : أشدّ تشتتا : أي أشدّ اختلافا .

 
أنوار التنزيل وأسرار التأويل للبيضاوي - البيضاوي [إخفاء]  
{لَا يُقَٰتِلُونَكُمۡ جَمِيعًا إِلَّا فِي قُرٗى مُّحَصَّنَةٍ أَوۡ مِن وَرَآءِ جُدُرِۭۚ بَأۡسُهُم بَيۡنَهُمۡ شَدِيدٞۚ تَحۡسَبُهُمۡ جَمِيعٗا وَقُلُوبُهُمۡ شَتَّىٰۚ ذَٰلِكَ بِأَنَّهُمۡ قَوۡمٞ لَّا يَعۡقِلُونَ} (14)

{ لا يقاتلونكم } اليهود والمنافقون { جميعا }مجتمعين متفقين { إلا في قرى محصنة } بالدروب والخنادق { أو من وراء جدر }لفرط رهبتهم وقرأ ابن كثير وأبو عمر جدار وأمال أبو عمرو فتحة الدال ، { بأسهم بينهم شديد } أي وليس ذلك لضعفهم وجبنهم فإنه يشتد بأسهم إذا حارب بعضهم بعضا بل لقذف الله الرعب في قلوبهم ولأن الشجاع يجبن والعزيز يذل إذا حارب الله ورسوله ، { تحسبهم جميعا }مجتمعين متفقين { وقلوبهم شتى }متفرقة لافتراق عقائدهم واختلاف مقاصدهم { ذلك بأنهم قوم لا يعقلون } ما فيه صلاحهم وإن تشتت القلوب يوهن قواهم .