مفاتيح الغيب للرازي - الفخر الرازي  
{ٱلَّذِيٓ أَنقَضَ ظَهۡرَكَ} (3)

وأما قوله : { أنقض ظهرك } فقال علماء اللغة : الأصل فيه أن الظهر إذا أثقل الحمل سمع له نقيض أي صوت خفي ، وهو صوت المحامل والرحال والأضلاع ، أو البعير إذا أثقله الحمل فهو مثل لما كان يثقل على رسول الله صلى الله عليه وسلم من أوزاره .

المسألة الثالثة : احتج بهذه الآية من أثبت المعصية للأنبياء عليهم السلام ( والجواب ) : عنه من وجهين ( الأول ) : أن الذين يجوزون الصغائر على الأنبياء عليهم السلام حملوا هذه الآية عليها ، لا يقال : إن قوله : { الذي أنقض ظهرك } يدل على كونه عظيما . فكيف يليق ذلك بالصغائر ، لأنا نقول : إنما وصف ذلك بإنقاض الظهر مع كونها مغفورة لشدة اغتمام النبي صلى الله عليه وسلم بوقوعه منه وتحسره مع ندمه عليه ، وأما إنما وصفه بذلك لأن تأثيره فيما يزول به من الثواب عظيم ، فيجوز لذلك ما ذكره الله تعالى . هذا تقرير الكلام على قول المعتزلة وفيه إشكال ، وهو أن العفو عن الصغيرة واجب على الله تعالى عند القاضي ، والله تعالى ذكر هذه الآية في معرض الامتنان ، ومن المعلوم أن الامتنان بفعل الواجب غير جائز ( الوجه الثاني ) : أن يحمل ذلك على غير الذنب ، وفيه وجوه ( أحدها ) قال قتادة : كانت للنبي صلى الله عليه وسلم ذنوب سلفت منه في الجاهلية قبل النبوة ، وقد أثقلته فغفرها له ( وثانيها ) : أن المراد منه تخفيف أعباء النبوة التي تثقل الظهر من القيام بأمرها وحفظ موجباتها والمحافظة على حقوقها ، فسهل الله تعالى ذلك عليه ، وحط عنه ثقلها بأن يسرها عليه حتى تيسرت له ( وثالثها ) : الوزر ما كان يكرهه من تغييرهم لسنة الخليل . وكان لا يقدر على منعهم إلى أن قواه الله ، وقال له : { أن اتبع ملة إبراهيم } ( ورابعها ) : أنها ذنوب أمته صارت كالوزر عليه ، ماذا يصنع في حقهم إلى أن قال : { وما كان الله ليعذبهم وأنت فيهم } فأمنه من العذاب في العاجل ، ووعد له الشفاعة في الآجل ( وخامسها ) : معناه عصمناك عن الوزر الذي ينقض ظهرك ، لو كان ذلك الذنب حاصلا ، فسمى العصمة وضعا مجازا ، فمن ذلك ما روي أنه حضر وليمة فيها دف ومزامير قبل البعثة ليسمع ، فضرب الله على أذنه فلم يوقظه إلا حر الشمس من الغد ( وسادسها ) : الوزر ما أصابه من الهيبة والفزع في أول ملاقاة جبريل عليه السلام ، حين أخذته الرعدة ، وكاد يرمي نفسه من الجبل ، ثم تقوى حتى ألفه وصار بحالة كاد يرمي بنفسه من الجبل لشدة اشتياقه ( وسابعها ) : الوزر ما كان يلحقه من الأذى والشتم حتى كاد ينقض ظهره وتأخذه الرعدة ، ثم قواه الله تعالى حتى صار بحيث كانوا يدمون وجهه ، و[ هو ] يقول : «اللهم اهد قومي » ( وثامنها ) : لئن كان نزول السورة بعد موت أبي طالب وخديجة ، فلقد كان فراقهما عليه وزرا عظيما ، فوضع عنه الوزر برفعه إلى السماء حتى لقيه كل ملك وحياه فارتفع له الذكر ، فلذلك قال : { ورفعنا لك ذكرك } ( وتاسعها ) : أن المراد من الوزر والثقل الحيرة التي كانت له قبل البعثة ، وذلك أنه بكمال عقله لما نظر إلى عظيم نعم الله تعالى عليه ، حيث أخرجه من العدم إلى الوجود وأعطاه الحياة والعقل وأنواع النعم ، ثقل عليه نعم الله وكاد ينقض ظهره من الحياء ، لأنه عليه السلام كان يرى أن نعم الله عليه لا تنقطع ، وما كان يعرف أنه كيف كان يطيع ربه ، فلما جاءته النبوة والتكليف وعرف أنه كيف ينبغي له أن يطيع ربه ، فحينئذ قل حياؤه وسهلت عليه تلك الأحوال ، فإن اللئيم لا يستحي من زيادة النعم بدون مقابلتها بالخدمة ، والإنسان الكريم النفس إذا كثر الإنعام عليه وهو لا يقابلها بنوع من أنواع الخدمة ، فإنه يثقل ذلك عليه جدا ، بحيث يميته الحياء ، فإذا كلفه المنعم بنوع خدمة سهل ذلك عليه وطاب قلبه .