الكشاف عن حقائق التنزيل للزمخشري - الزمخشري  
{كَذَٰلِكَ سَلَكۡنَٰهُ فِي قُلُوبِ ٱلۡمُجۡرِمِينَ} (200)

{ سَلَكْنَاهُ } أدخلناه ومكناه . والمعنى : إنا أنزلنا هذا القرآن على رجل عربي بلسان عربي مبين ، فسمعوا به وفهموه وعرفوا فصاحته وأنه معجز لا يعارض بكلام مثله ، وانضم إلى ذلك اتفاق علماء أهل الكتب المنزلة قبله على أن البشارة بإنزاله وتحلية المنزل عليه وصفته في كتبهم ، وقد تضمنت معانيه وقصصه ، وصحّ بذلك أنها من عند الله وليست بأساطير كما زعموا ، فلم يؤمنوا به وجحدوه ، وسموه شعراً تارة ، وسحراً أخرى ، وقالوا : هو من تلفيق محمد وافترائه { وَلَوْ نزلناه على بَعْضِ } الأعاجم الذي لا يحسن العربية ، فضلاً أن يقدر على نظم مثله { فَقَرَأَهُ عَلَيْهِم } هكذا فصيحاً معجزاً متحدّي به ، لكفروا به كما كفروا ، ولتمحلوا لجحودهم عذراً ، ولسموه سحراً ، ثم قال : { كَذَلِكَ سَلَكْنَاهُ } أي مثل هذا السلك سلكناه في قلوبهم ، وهكذا مكناه وقررّناه فيها ، وعلى مثل هذه الحال وهذه الصفة من الكفر به والتكذيب له وضعناه فيها ، فكيفما فعل بهم وصنع وعلى أي وجه دبر أمرهم ، فلا سبيل أن يتغيروا عما هم عليه من جحوده وإنكاره ، كما قال { وَلَوْ نَزَّلْنَا عَلَيْكَ كتابا فِى قِرْطَاسٍ فَلَمَسُوهُ بِأَيْدِيهِمْ لَقَالَ الذين كَفَرُواْ إِنْ هذا إِلاَّ سِحْرٌ مُّبِينٌ } [ الأنعام : 7 ]

فإن قلت : كيف أسند السلك بصفة التكذيب إلى ذاته ؟ قلت : أراد به الدلالة على تمكنه مكذباً في قلوبهم أشدّ التمكن ، وأثبته فجعله بمنزلة أمر قد جبلوا عليه وفطروا . ألا ترى إلى قولهم : هو مجبول على الشح ، يريدون : تمكن الشحّ فيه ؛ لأنّ الأمور الخلقية أثبت من العارضة .