البحر المحيط لأبي حيان الأندلسي - أبو حيان  
{كَذَٰلِكَ سَلَكۡنَٰهُ فِي قُلُوبِ ٱلۡمُجۡرِمِينَ} (200)

والضمير في { سلكناه } ، الظاهر أنه عائد على ما عادت عليه الضمائر .

قيل : وهو القرآن ، وقاله الرماني .

والمعنى : مثل ذلك السلك ، وهو الإدخال والتمكين والتفهيم لمعانيه .

{ سلكناه } : أدخلناه ومكناه في { قلوب المجرمين } .

والمعنى : ما ترتب على ذلك السلك من كونهم فهموه وأدركوه ، ولم يزدهم ذلك إلا عناداً وجحوداً وكفراً به ، أي على مثل هذه الحالة وهذه الصفة من الكفر به والتكديب له ، كما وضعناه فيها .

فكيف ما يرام إيمانهم به لم يتغير ؟ وأعماهم عليه من الإنكار والجحود ، كما قال : { ولو نزلنا عليك كتاباً في قرطاس } الآية .

وقال الكرماني : أدخلناه فيها ، فعرفوا معانيه ، وعجزهم عن الأتيان الإيمان بمثله ، ولم يؤمنوا به .

وقال يحيى بن سلام : الضمير في سلكناه يعود على التكذيب ، فذلك الذي منعهم من الإيمان .

انتهى .

ويقويه قوله : { فقرأه عليهم ما كانوا به مؤمنين } .

وقال الحسن : الضمير يعود على الكفر الذي يتضمنه قوله : { ما كانوا به مؤمنين } . انتهى .

وهو قريب من القول الذي قبله .

وقال عكرمة : سلكناه ، أي القسوة ، وأسند السلك تعالى إليه ، لأنه هو موجد الأشياء حقيقة ، وهو الهادي وخالق الضلال .

وقال الزمخشري : فإن قلت : كيف أسند السلك بصفة التكذيب إلى ذاته ؟ قلت : أراد به الدلالة على تمكنه مكذباً في قلوبهم أشد التمكين وأثبته ، فجعله بمنزلة أمر قد جبلوا عليه .

ألا ترى إلى قولهم : هو مجبول على الشح ؟ يريدون تمكن الشح فيه ، لأن الأمور الخلقية أثبت من العارضة ، والدليل عليه أنه أسند ترك الإيمان به إليهم على عقبه ، وهو قوله : { لا يؤمنون به } . انتهى .

وهو على طريقة الاعتزال والتشبيه بين السلكين ، يقتضي تغاير من حل به .

والمعنى : مثل ذلك السلك في قلوب قريش ، سلكناه في قلوب من أجرم ، لاشتراكهما في علة السلك وهو الإحرام .

قال ابن عطية : أراد بهم مجرمي كل أمّة ، أي إن هذه عادة الله فيهم ، أنهم لا يؤمنون حتى يروا العذاب ، فلا ينفعهم الإيمان بعد تلبس العذاب بهم ، وهذا على جهة المثال لقريش ، أي هؤلاء كذلك ، وكشف الغيب بما تضمنته الآية يوم بدر .