اللباب في علوم الكتاب لابن عادل - ابن عادل  
{وَسۡـَٔلِ ٱلۡقَرۡيَةَ ٱلَّتِي كُنَّا فِيهَا وَٱلۡعِيرَ ٱلَّتِيٓ أَقۡبَلۡنَا فِيهَاۖ وَإِنَّا لَصَٰدِقُونَ} (82)

قوله تعالى : { واسأل القرية } يحتمل ثلاثة أوجهٍ :

أشهرها : أنه على حذف مضافٍ ، أي : واسألْ أهل القرية ، وأهل العِير ، وهو مجازٌ شائعٌ ، قاله ابن عطيِّة وغيره .

وقال أبو عليِّ الفارسي : ودافع جواز هذا في اللغةِ كدافعِ الضَّرورات ، وجاحد المحسوسات ، وهذا على خلافٍ في المسألةِ ، هل الإضمار من باب المجازِ ، أو غيره ؟ المشهور أنه قسم منه ، وعليه اكثر النَّاسِ .

قال أبو المعالي : قال بعض المتكلمين : " هذا من الحذف ، وليس من المجاز إنَّما المجازُ لفظة استعيرت لغير ما هي له ، قال : وحذف المضاف هو عينُ المجاز وعظمه ، هذا مذهب سيبويه وغيره ، وحكي أنَّه قول الجمهور " .

وقال ابن الخطيب : إن الإضمار ، والمجاز [ قسمان لا قسيمان ] ، فهما متباينان .

الثاني : أنَّه مجاز ، ولكنه من باب إطلاق اسم المحل على الحال للمجاورة كالرواية .

الثالث : أنَّه حقيقة لا مجاز فيه ، ولذلك قال أبو بكر الأنباري :

المعنى : واسْألِ القرية والعير ؛ فإنَّها تجيبك ، وتذكر لك صحَّة ما ذكرنا ؛ لأنك من أكابر الأنبياء ، فيجوز أن ينطق الله لك الجماد ، والبهائم .

وقيل : إنَّ الشيء إذا ظهر ظهوراً تامًّا كاملاً فقد يقال فيه : سل السماءَ والأرض وجميع الأشياء عنه ، والمراد أنه بلغ في الظُّهور إلى الغاية حتَّى لم يبق للشكِّ فيه مجالٌ ، والمراد من القرية : مصر ، وقيل : قرية على باب مصر قال ابن عباس رضي الله عنه : هي قرية من قرى مصر ، كانوا ارتحلوا منها .

وأما قوله : { والعير التي أَقْبَلْنَا فِيهَا } أي القافلة التي كُنَّا فيها .

قال المفسِّرون : كان صحبهم قوم من الكنعانيين من جيران يعقوب .

قال ابنُ إسحاق : عرف الأخ المحتبس بمصر أنَّ إخوته أهل تهمة عند أبيهم لمَا كانوا صنعوا في أمر يوسف عليه السلام ، فأمرهم أن يقولوا هذا لأبيهم .

ثم إنَّهم لما بالغوا في التَّأكيد ، والتقرير قالوا : { وَإِنَّا لَصَادِقُونَ } يعنى سواء نسبتنا إلى التُّهمة ، أم لم تنسب ؛ فنحن صادقون ، وليس غرضهم أن يثبتوا صدق أنفسهم ؛ لأنَّ هذا يجري جرى إثبات الشيء بنفسه ، بل الإنسان ، إذا قدم ذكر الدَّليل القاطع على صحَّة الشيء ، فقد يقول بعده : وأنَّا صادق في ذلك ، يعني فتأمل فيما ذكرته من الدَّلائل ، والبينات .

فصل

قال القرطبي : " دلَّت هذه الآية على أنَّ كل من كان على حقٍّ ، وعلم أنه قد يظن به أنَّه على [ خلاف ] ما هو عليه ، أو يتوهم أن يرفع التُّهمة ، وكلَّ ريبةٍ عن نفسه ويصرِّح بالحق الذي هو عليه ، حتَّى لا يبقى متكلِّم ، وقد فعل هذا نبينا عليه الصلاة والسلام بقوله للرجلين اللَّذين مرًّا ، وهو قد خرج مع صفيَّة بن حييّ من المسجد : " على رسلكما ، إنّما هي صفيّة بنت حييّ " ؛ فقالا : سبحان الله ! وكبر علهيما ، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم : " إنَّ الشَّيطَان يَجْرِي مِنَ آدم مُجْرَى الدَّم ، وإِنِّي خَشِيتُ أن يَقْذِفَ في قُلوبِكُمَا شرًّا ، أو قال : شَيْئاً " متفرقٌ عليه .

فإن قيل : كيف استجاز يوسف أن يعمل هذا بأبيه ، ولم يخبره بمكانه ، ويحبس أخاه مع علمه بشدّة وجد أبيه عليه ، ففيه معنى العقوق ، وقطيعة الرَّجمِ ، وقلَّة الشَّفقةِ ؟ .

فالجواب : أنَّه فعل ذلك بأمر الله عزَّ وجلَّ أمره به ليزيد في بلاءِ يعقوب ، فيضاعف له الأجر ، ويلحقه في الدَّرجةِ بآبائه الماضين .

وقيل : إنَّه لم يظهر نفسه لإخوته ؛ لأنَّه لم يأمن أن يدبِّروا في أمره تدبيراً ، فيكتموه عن أبيه ، والأول أصح .