اللباب في علوم الكتاب لابن عادل - ابن عادل  
{قَالُواْ تَٱللَّهِ تَفۡتَؤُاْ تَذۡكُرُ يُوسُفَ حَتَّىٰ تَكُونَ حَرَضًا أَوۡ تَكُونَ مِنَ ٱلۡهَٰلِكِينَ} (85)

قوله " تَفْتَؤ " هذا جواب القسم في قوله : " تَاللهِ " وهو على حذف لا أي : لا تفتؤ كقول الشَّاعر : [ البسيط ]

3135 تَاللهِ على الأيَّامِ ذُو حَيَدٍ *** بمُشْمَخرِّ بِهِ الظَّيَّانُ والآسُ

أي : لا تبقى ، ويدلُّ على حذفها : أنَّهُ لو كان مثبتاً ؛ لاقترن بلام الابتداء ونون التَّوكيد معاً عند البصريين ، أو إحداهما عن الكوفيين ، وتقول : واللهِ أحبُّك : تريد لأحبك ، وهو من التَّوريةِ ، فإن كثيراً من النَّاس يتبادر ذهنه إلى إثباتِ المحبَّة ، و " تَفْتَأ " هنا ناقصة بمعنى لا تزال .

قال ابنُ السِّكيت : " ما زِلتُ أفعله ، ما فَتِئت أفعلهُ ، ما بَرحْتُ أفْعَلُه ، ولا يتكلم بهنَّ إلاَّ في الجحد " .

قال ابن قتيبة : " يقال : مَا فترت ومَا فَتِئت ، لغتان ، ومعناه : ما نسيته ، وما انقطعتْ عنه " ، وإذا كانت ناقصة ؛ فهي ترفع الاسم ، وهو الضمير ، وتنصب الخبر ، وهو الجملة من قوله : " تَذْكرُ " أي : لا تزالُ ذاكراً له ، يقال : ما فَتِىء زيدٌ ذاهباً ؛ قال أوس بن حجرٍ : [ الطويل ]

3136 فَمَا فَتِئَتْ حَتَّى كَأنَّ غُبَارهَا *** سُرَادِقُ يَوْمٍ ذِي ريَاحٍ تُرَفَّعُ

وقال أيضاً : [ الطويل ]

3137 فَمَا فَتِئَتْ خَيلٌ تَثوبُ وتدَّعِي *** ويَلحَقُ منهَا لاحِقٌ وتُقطَّعُ

وعن مجاهدٍ : لا تفتر ؛ قال الزمخشريُّ : كأنه جعل الفُتُوء ، والفُتُورَ أخوين ، كما تقدَّم عن ابنِ قتيبة ، وفيهما لغتان : " فَتَأ " على وزن " ضَرَبَ " ، و " أفْتَأ " على وزن " أكْرَمَ " ، ويتكون تامَّة بمعنى : " سَكَنَ وأطْفَأ " كذا قاله ابنُ مالكٍ .

وزعم أبُو حيَّان : أنه تصحيفٌ منه ، وإنَّما هي فَثَأ بالثَّاءِ المثلثة ، ورسمت هذه اللَّفظة " تَفْتَؤ " بالواو ، والقياس " تَفْتَأ " بالألفن وكذلك يوقف لحمزة بالوجهين اعتباراً بالخطِّ ، والقياس .

قوله : " حَرَضاً " : الحَرَضُ : الإشفاءُ على الموت ، يقال منه : حَرَضَ الرَّجلُ يحرُض حرضاً بفتح الرَّاء ، فهو حرض بكسرهَا ، فالحرض مصدر من هذه المادَّة فيجيء في الآية الأوجه التي في " رجُلُ عدلٌ " كما تقدم .

ويطلق المصدر من هذه المادَّة على : " الحُثث " إطلاقاً شائعاً ؛ ولذلك يستوي فيه المفرد ، والمثنى ، والمجموع ، والمذكر ، والمؤنث ، تقول : هو حرضٌ ، وهما حرضٌ وهُم حَرَضٌ ، وهي حَرَضٌ ، وهُنَّ حَرَضٌ ؛ ويقال : رجلٌ حُرُضٌ بضمتين ، نحو : جُنُب ، وشُلْل . ويقال : أحْرَضهُ كذا ، أي أهلكهُ ؛ قال : [ البسيط ]

3138 إنِّي أمرؤُ لجَّ بِي حُبِّ فأحْرَضنِي *** حتَّى بَلِيتُ وحتَّى شَفَّنِي السَّقمُ

فهو مخرض . . قال الشَّاعر : [ الطويل ]

3139 أرَى المَرْءَ كالأذْوَادِ يُصْبحُ مُحْرَضاً *** كإحْرَاضِ بكرٍ في الدِّيارِ مَريضِ

وقرأ بعضهم " حَرِضاً " بكسر الرَّاء .

وقال الزمخشريُّ : " وجاءت القراءة بهما جميعاً " يعنى بفتح الراء ، وكسرها .

وقرأ الحسن : " حُرُضاً " بضمتين ، وقد تقدَّم أنه ك : " جُنُبٍ ، وشُلُلٍ " ، وزاد الزمخشريُّ : وغُرُب " .

وقال الراغب : الحَرَض : ما لا يعتدُّّ به ، ولا خيرَ فِيهِ ، ولذلك يقال لمن أشرف على الهلاك : حَرَض ، قال تعالى : { حتى تَكُونَ حَرَضاً } [ يوسف : 85 ] ، وقد أحرصهُ كذا قال الشَّاعر : [ البسيط ]

3140 إنِّي امْرُؤٌ لجَّ بِي همٌّ فأحْرَضْنِي *** والحُرْضَة : من لا يأكل إلاَّ لحم الميسر لنذالتهِ ، والتَّحريضُ : الحثُّ على الشَّيء بكثرة التَّزيينِ ، وتسهيل الخطب فيه ، كأنَّه إزالة الحرض نحو : قَذَّيتُه ، أي : أزلتُ عنه القَذَى ، وأحرضتهُ : أفسدتهُ ، نحو : أقذيتهُ : إذا جعلت فيه القَذَى " انتهى " .

والحُرُضُ : الأشنانُ ، لإزالته الفساد ، والمِحْرضَة : وعاؤه ، وشذوذها كشذوذ : مُنْخُل ، ومُسْعُط ، ومُكْحُلة .

وحكى الواحديُّ عن أهل المعاني : أنَّ أصل الحَرَض : فساد الجسم ، والعقل للحزن ، والحبِّ ، وقولهم : حرَّضتُ فلاناً على فلانٍ ، تأويله : أفسدته وأحميته عليه ، قال الله تعالى : { حَرِّضِ المؤمنين عَلَى القتال } [ الأنفال : 65 ] .

وإذا عرفت هذا فوصف الرَّجُل بأنه حرض إمَّا أن يكون المراد منه : ذو حرض فحذف المضاف ، أو المراد منه : أنَّه لما تناهى في الفسادِ ، والضعفح فكأنَّه صار عين الحرض ، ونفس الفسادِ ، وأمَّا الحَرِض بكسر الراء فهو الصِّفة كما قرىء بها وللمفسِّرين فه عباراتُ :

أحدها : الحَرَض ، والحَارِضُ ، وهو الفساد في جسمه ، وعقله .

وثانيها : قال نافع بن الأزرق : سئل ابنُ عبَّاسٍ رضي الله عنهما فقال : الفاسد الرَّأي .

وثالثها : أنه هو الذي يكون لا كالأحياء ، ولا كالأموات .

وذكر أبو روق أنَّ أنس بن مالك قرأ : { حتى تَكُونَ حَرَضاً } بضمِّ الحاء وسكن الرَّاء .

ثم قال تعالى : { أَوْ تَكُونَ مِنَ الهالكين } من الأموات ، والمعنى : لا تزال تذكر يوسف بالحزن ، والبكاء عليه حتى تصير بحث لا تنتفع بنفسك ، أو تموت من الغمّ ،

وأرادوا بذلك منعه من كثرةِ البُكاءِ ، والأسف .

فإن قيل : لم حلفوا على ذلك مع أنَّهم لم يعلموا ذلك قطعاً ؟ .

فاالجواب : أنَّهم بنوا الأمر على الظَّاهر .

قال المفسِّرون : القائل هذا الكلام ، وهوقوله : { تالله تفتؤ تذكر يوسف } هم إخوة يوسف ، وقال بعضهم : ليسوا الإخوة ، بل الجماعة الذين كانوا في الدَّار من أولاده وخدمه ،