اللباب في علوم الكتاب لابن عادل - ابن عادل  
{فَلَمَّا ٱسۡتَيۡـَٔسُواْ مِنۡهُ خَلَصُواْ نَجِيّٗاۖ قَالَ كَبِيرُهُمۡ أَلَمۡ تَعۡلَمُوٓاْ أَنَّ أَبَاكُمۡ قَدۡ أَخَذَ عَلَيۡكُم مَّوۡثِقٗا مِّنَ ٱللَّهِ وَمِن قَبۡلُ مَا فَرَّطتُمۡ فِي يُوسُفَۖ فَلَنۡ أَبۡرَحَ ٱلۡأَرۡضَ حَتَّىٰ يَأۡذَنَ لِيٓ أَبِيٓ أَوۡ يَحۡكُمَ ٱللَّهُ لِيۖ وَهُوَ خَيۡرُ ٱلۡحَٰكِمِينَ} (80)

قوله : { فَلَمَّا استيأسوا } " اسْتَفْعَلَ " هنا بمعنى " فَعِلَ " المجرَّد يقال : يَئِسَ ، واسْتَيْأس [ بمعنى ] نحو " عَجِبَ واسْتَعْجَبَ ، وسَخِرَ ، واسْتَخَرَ .

وقال الزمخشري : وزيادة التَّاء والسِّين في المبالغة نحو ما مرَّ في : " اسْتَعْصَمَ " وقرأ البزيُّ عن ابن كثير بخلاف عنه : " اسْتَأيَسُوا " بألف بعد التاء ثم ياء وكذلك في هذه السورة : { وَلاَ تَيْأَسُواْ مِن رَّوْحِ الله } [ يوسف : 87 ] إنَّه لا يَيْأسُ { حتى إِذَا استيأس الرسل } [ يوسف : 110 ] ، وفي الرعد : { أَفَلَمْ يَيْأَسِ } [ الرعد : 31 ] الخلاف واحد .

فأمَّا قرأءة العامة : فهي الأصل ، إذ يقال : يَئِسَ ، فالفاء ياء ، والعين همزة وفيه [ لغة ] أخرى ، وهي القلبُ [ الرعد : 31 ] بتقديم العين على الفاءِ ، فيقال : أيِسَ ، ويدلُّ على ذلك شيئان :

أحدهما : المصدر الذي هو اليأسُ .

والثاني : أنَّه لو لم يكن مقلوباً للزم قلبُ الياءِ ألفاً ، لتحركها ، وانفتاح ماقبلها ، ولكن منع من ذلك كون الياءِ في موضع لا تعلُّ فيه ما وقعت موقعه ، وقراءة ابن كثير من هذا ، ولما قلب الكلمة أبدل من الهمزة ألفاً لسكونها بعد فتحة ، إذ صارت كهمزة رأس ، وكأس ، وإن لم يكن من أصله قلب الهمزة السَّاكنة حتىعلَّةِ وهذا كما تقدَّم أنه يقرأ " القرآن " بالألف ، وأنَّه يحتملُ أن يكون نقل حركة الهمزة ، وإن لم يكن من أصله النقل .

قال أبو شامة بعد أن ذكر هذه الكلمات الخمسِ الَّتي وقع فيها الخلافُ " وكذلك رسمت في المصحف ، يعني كما قرأها البزيُّ يعنى بالألف مكان الياءِ ، وبياء مكان الهمزة " .

وقال أبو عبدالله : واختلفت هذه الكلمات في الرَّسم ، فرسم : " يَأيَس " ، " ولا تَأيسُوا " بألف ، ورسم الباقي بغير ألف .

قال شهابُ الدين : " وهذا هو الصَّوابُ ، وكأنَّه غفلة من أبي شامة " .

ومعنى الآية : " فلمَّا أيسُوا من يوسف أن يجيبهم إلى ما سألوا " .

وقال أبو عبيدة : " اسْتَيْأسُوا " : استيقنوا أنَّ الأخ لا يرد إليهم .

قوله : { خَلَصُواْ نَجِيّاً } قال الواحديُّ : يقال : خلص الشَّيء يخلصُ خلوصاً إذا انفصل من غيره ، ثم فيه وجهان :

أحدهما : قال الزجاج ، خلصوا : أي : انفردوا ، وليس معهم أخوهم .

وقال الباقون : تميزوا عن الأجانب ، وهذا هو الأظهر ، أي : خلا بعضهم ببعضٍ يتناجون ويتشاورون لا يخالطهم غيرهم .

وأمَّا قوله : " نَجِيًّا " حال من فاعل : " خَلصُوا " أي : اعتزلوا في هذه الحالِ وإنَّما أفردت الحال ، وصاحبها جمع ، إمَّا لأن النَّجيَّ فعيلٌ بمعنى مفاعل كالعشير والخليط بمعنى المُخالِط والمُعاشِر ، كقوله { وَقَرَّبْنَاهُ نَجِيّاً } [ مريم : 52 ] أي : مناجياً وهذا في الاستعمال يفرد مطلقاً ، يقال : هُم خَليطُكَ وعَشِيرتُك ، أي : مخالطوك ومعاشروك وإما لأنَّه صفة على فعيل بمنزلة صَدِيق ، وبابه يوحد ، لأنه يزنة المصارد كالصَّهيل ، والوجيب والذَّميل ، وإمَّا لأنه مصدرٌ بمعنى التَّناجي كما قيل : النَّجْوى بمعناه ، قال تعالى :

{ وَإِذْ هُمْ نجوى } [ الإسراء : 47 ] ، وحينئذ يكون فيه التأويلات المذكورات في : " رجُلٌ عدلٌ " وبابه ، ويحمع على " أنْجِيَة " ، وكان من حقِّه إذا جعل وصفاً أن يجمع على " أفْعِلاء " ، ك " غَنِيّ " ، وأغْنِيَاء " و " شَقِيّ ، وأشْقِيَاء " ؛ ومن مجيئه على " أنجِيَة " قول الشاعر : [ الرجز ]

3131 إنِّي إذَا ما القَوْمُ كَانُوا أنْجِيَهْ *** واضْطَرَبَ القَوْمُ اضطِرابَ الأرْشِيَهْ

هناك أوصيني ولا تُوصِي بِيَهْ *** وقول لبيد : [ الكامل ]

3132 وشَهِدْتُ أنْجِيةً الأفَاقةِ عَالِياً *** كَعبي وَأرْدَافُ المُلوكِ شُهُودُ

وجمعه كذلك يقوي كونه جامداً ، إذ يصيرُ كرغيب ، وأرغِفَة .

وقال البغويُّ : النَّجِي يصلحُ للجماعة ، كما قال ههنا ، وللواحد كما قال : { وَقَرَّبْنَاهُ نَجِيّاً } [ مريم : 52 ] وإنما جاز للواحد والجمع ؛ لأنه مصدر جعل نعتاً كالعدل ، ومثله النَّجوى يكونُ اسماً ، ومصدراً ، قال تعالى { وَإِذْ هُمْ نجوى } [ الإسراء : 47 ] أي : مُتنَاجِين ، وقال حل ذكره { مَا يَكُونُ مِن نجوى ثَلاَثَةٍ } [ المجادلة : 7 ] وقال في المصدر { إِنَّمَا النجوى مِنَ الشيطان } [ المجادلة : 10 ] .

قال ابن الخطيب : " وأحسنُ الوجوه أن يقال : إنَّهم تمحَّضُوا تناجياً ؛ وأنَّ من كمل حصول أمرٍ من الأمُورِ فيه وصف بأنَّه صار غير ذلك الشَّيء فلما أخذوا في التَّناجي على غاية الجدِّ ؛ صاروا كأنهم في أنفسهم صاروا نفس التَّناجِي في الحقيقة " .

" قالَ كَبيرُهمْ " في العقل ، والعلم لا في السنِّ ، وهو " يَهُوذَا " ، قاله ابن عباسٍ ، والكلبي .

وقال مجاهدٌ : شمعون ، وكانت له الرِّئاسةُ على إخوته .

وقال قتادة ، والسديُّ ، والضحاك : وهو روبيلُ ، كان أكبرهم في السنِّ ، وهو الذي نهاهم عن قتل يوسف عليه السلام .

{ أَلَمْ تعلموا أَنَّ أَبَاكُمْ قَدْ أَخَذَ عَلَيْكُمْ مَّوْثِقاً } : عهداً : { مِّنَ الله } ، وأيضاً : نحنُ متَّهمُونَ بواقعة يوسف .

قوله { وَمِن قَبْلُ مَا فَرَّطتُمْ } في هذه الآية وجوه ستة :

أظهرها : أنَّ " مَا " مزيدة فيتعلَّق الظَّرف بالعفل بعدها ، والتقدير : ومن قبل هذا فرَّطتم ، أي : قصَّرتم في حقِّ يوسف ، وشأنه ، وزيادة " مَا " كثيرة ، وبه بدأ الزمخشري وغيره .

الثاني : أن تكون " مَا " مصدرية في محلِّ رفع بالابتداء ، والخبر الظَّرف المتقدم قال الزمخشريُّ : على أنَّ محل المصدر الرَّفع بالابتداء ، والخبر الظرف وهو " مِنْ قَبْلُ " ، والمعنى : وقع من قبل تفريطكم في يوسف عليه الصلاة والسلام وإلى هذا نحا ابنُ عطيَّة أيضاً فإنَّه قال : ولا يجوز أن يكون قوله : " مِنْ قَبْلُ " متعلقاً ب : " مَا فَرَّطْتُمْ " ، وأنَّ " مَا " تكون على هذا مصدرية ، والتقدير : ومن قَبْلِ تفريطكم في يوسف واقعٌ ، أو مستقرٌ وبهذا المقدر يتعلق قوله : " مِنْ قَبْلُ " .

قال أبو حيَّان : هذا وقول الزمخشريُّ راجعان إلى معنى واحد ، وهو أن " مَا فرَّطتُمْ " يقدَّرُ بمصدرٍ مرفوع بالابتداء ، و : " مِنْ قَبْلُ " في موضع الخبر وذهلا عن قاعدة عربيَّة ، وحقَّ لهما أن يذهلا وهي أنَّ هذه الظروف التي هي غايات إذا بُنيت لا تقع أخباراً للمبتدأ جرَّت ، أو لم تجرَّ ، تقول : يومُ السَّبت مُباركٌ والسَّفر بعدهُ ، ولا تقول : والسَّفر بَعد و " عَمْرٌو وزيْدٌ خَلفهُ " ولا يجوز : عمرٌو وزيدٌ خلف ، وعلى ما ذكراه يكون : " تَفْريطُكُم " مبتدأ ، و " مِنْ قَبْلُ " خبر وهو مبنيُّ وذلك لا يجوز ، وهو مقررٌ في علم العربيِّة " .

قال شهابُ الدِّين : " قوله : " وحُقًّ لهُمَا أنْ يَذْهَلا " تحامل على هذين الرجلين ، وموضعهما من العلم معروفٌ ، وأمَّا قوله : " إنَّ الظرف المقطوع لا يقعُ خبراً " ، فمسلَّم ، قالوا : لأنَّه لا يفيد ، وما لا يفيد ، لا يقع خبراً ، ولذا لا يقع صفة ، ولا صلة ، ولا حالاً والآية الكريمةُ من هذا القبيل لو قلت : " جاء الذي قبل " أو " مررت برجل قبل " لم يجز لما ذكرت .

ولقائلٍ أن يقول : إنَّما امتنع ذلك ؛ لعدم الفائدة ، وعدم الفائدة لعدم العلم بالمضافِ إليه المحذوف ، فينبغي إذا كان المضاف إليه معلوماً مدلولاً عليه أن يقع ذلك الظَّرف المضاف إلى ذلك المحذوف خبراً ، وصفة ، وصلة ، وحالاً والآية الكريمة من هذا القبيل ، أعني ممَّا علم فيه المضاف إليه كما مرَّ تقريره " .

ثمَّ هذا الرَّد الذي ردّ به أبو حيَّان سبقه إليه أبو البقاءِ ، فقال : " وهذا ضعيف ؛ لأن " قَبْل " إذا وقعت خبراً أو صلة لا تقطع عن الإضافة لئلا تبقى ناقصة " .

الثالث : أنها مصدرية أيضاً ، في محل رفع بالابتداء ، والخبر هو قوله " فِي يُوسفَ " أي : وتفريطكم كائن ، أو مستقر في يوسف ، وإلى هذا ذهب الفارسي كأنه استشعر أن الظرف المقطوع لا يقعُ خبراً ؛ فعدل إلى هذا ، وفيه نظر ؛ لأنَّ السِّياق ، والمعنى يجريان إلى تعلق : " فِي يُوسفَ " ب " فَرَّطْتُمْ " ، فالقولُ بما قاله الفارسي يؤدِّي إلى تهيئة العامل [ للعمل ] ، وقطعه عنه .

الرابع : أنَّها مصدرية أيضاً ، ولكن محلها النَّصب على أنَّها منسوقة على " إنَّ أباكُمْ قد أخَذَ " أي : ألم تعلموا أخذ أبيكم الميثاق ، وتفريطكم في يوسف .

قال الزمخشري : " كأنه قيل : ألم تعلموا أخذ أبيكم عليكم موثقاً ، وتفريطكم من قبل في يوسف " وإلى هذا ذهب ابن عطية أيضاً .

قال أبو حيَّان : " وهذا الذي ذهبا إليه ليس بجيِّد ؛ لأنَّ فيه الفصل بالجار والمجرور بين حرف العطف الذي هو حرفٍ واحدٍ ، وبين المعطوف ؛ فصار نظير : ضَربْتُ زيداً ، وبِسَيفٍ عمراً ، وقد زعم الفارسيُّ أنه لا يجوز ذلك إلاَّ في ضرورة الشِّعر " .

قال شهابُ الدِّين : هذا الرَّدُّ سبقه إليه أبُو البقاءِ ، ولم يرتضه وقال : " وقيل : هو ضعيفٌ ؛ لأنَّ فيه الفصل بين حرفِ العطفِ ، والمعطوفِ ، وقد بينا في سورة النِّساء أن هذا ليس بشيء " .

قال شهاب الدين : " يعني أنَّ منع الفصل بين حرفِ العطفِ ، والمعطوفِ ليس بشيءِ ، وقد تقدَّم إيضاحُ هذا ، وتقريره في سورة النساء ، كما أشار إليه أبو البقاء " .

ثمَّ قال أبو حيَّان : " وأمَّا تقديرُ الزمخشري : وتفريطكم من قبل في يوسف ؛ فلا يجوز ؛ لأن فيه تقديم معمول المصدر المنحل لحرف مصدري ، والفعل عليه ، وهو لا يجوز " .

وقال شهابُ الدِّين : " ليس في تقدير الزمخشريِّ شيء من ذلك ؛ لأنَّه لمَّا صرح بالمقدر أخَّر الجارين ، والمجرورين عن لفظ المصدر المقدَّر كما ترى ، وكذا هو في سائر النسخ ، وكذا ما نقله عنه الشيخ بخطهِ ، فأين تقديمُ المعمولِ على المصدر ولو رد عليه ، وعلى ابن عطيَّة بأنه يلزمُ من ذلك تقديمُ معمولِ الصِّلةِ على الموصول لكان ردًّا واضحاً ، فإنَّ : " مِنْ قَبْلُ " متعلق " فَرَّطْتُمْ " ، وقد تقدَّم الكلامُ على ما المصدرية ، وفيه خلافٌ مشهورٌ " .

الخامس : أن تكون مصدرية أيضاً ، ومحلها النصب عطفاً على اسم : " أنَّ " أي : ألم تعلموا أنَّ أباكم ، وأن تفريطكم من قبل في يوسف ، وحينئذٍ يكون في خبر " أنَّ هذه المقدرة وجهان :

أحدهما : هو : " مِنْ قَبْلُ " .

والثاني : هو " فِي يُوسَفُ " واختاره أبو البقاء ، وقد تقدَّم ما في كلِّ منهما ، ويردُّ على هذا الوجه الخامس ما ردَّ به على ما قبله من الفصل بين حرف العطف ، والمعطوف ، وقد عرف ما فيه .

السادس : أن تكون موصولة اسمية ، ومحلُّها الرفع ، والنَّصب علكى ما تقدَّم في المصدريَّة .

قال الزمخشريُّ : يعنى ومن قبل هذا ما فرطتموه ، أي : قدَّمتموهُ في حقِّ يوسف من الجنايةِ ، ومحلُّها الرَّفع ، أو النَّصب على الوجهين .

يعنى بالوجهين رفعها بالابتداء ، وخبرها " مِنْ قبل " ، ونصبها على مفعولِ " ألمْ تَعْلمُوا " ، فإنَّهُ لم يذكر في المصدرية غيرهما ، وقد تقدَّم ما اعترض به عليهما ، وما قيل في جوابه .

فتحصل في " مَا " ثلاثة أوجه :

الزيادة ، وكونها مصدرية ، أو بمعنى الذي ، وأن في محلها وجهين : الرفع ، أو النصب .

قوله تعالى : { فَلَنْ أَبْرَحَ الأرض } برح هنا تامة ، ضمنت معنى أفارقُ ف : " الأرْضَ " معفول به ، ولا يجوز أن تكون تامَّة من غير تضمين ؛ لأنها إذا كانت كذلك ؛ كان معناها : ظهر أو ذهب ، ومنه : بَرحَ الخفاءُ ، أي : ظهر ، أو ذهب ، ومعنى الظهور لا يليق ، والذهابُ لا يصلُ إلى الظَّرف المخصوص إلاَّ بواسطةِ " في " : تقول : " ذَهَبْتُ في الأرضِ " ولا يجوز ذهبتُ الأرْضَ ، وقد جاء شيءٌ لا يقاس عليه .

وقال ابو البقاء : " ويجوز أن يكون ظرفاً " .

قال شهابُ الدِّين : " يحتمل أن يكون سقط من النُّسخِ لفظ " لاَ " ، كان : " ولا يجوز أن يكون ظرفاً " .

واعلم أنه لا يجوز في " أبْرَحَ " هنا أن تكون ناقصة ؛ لأنَّه لا ينتظم من الضمير الذي فيها ، وما " من الأرض " مبتدأ أو خبرٌ ، ألا ترى أنَّك لو قلت : أنَا الأرض لم يجز من غير " فِي " بخلاف " أنَا في الأرْضِ وزيدٌ في الأرْضِ " .

قوله : { أَوْ يَحْكُمَ الله } في نصبه وجهان :

أظهرهما : عطفه على : " يَأذَنَ " .

والثاني : أنه منصوبٌ بإضمار " أنْ " في جواب النَّفي ، وهو قوله : { فَلَنْ أَبْرَحَ الأرض } أي : لنْ أبْرحَ الأرْضَ إلاَّ أن يحكم ، كقولهم : لالزَمنَّكَ أوْ تَقْضِيَنِي حقِّي ، أي : إلا أن تَقْضِيَنِي .

قال أبو حيَّان : " ومَعْنَاهُ ومعنى الغية مُتقَارِبَان " .

قال شهابُ الدِّين : " وليْسَ المعنى على الثَّاني ، بل سِياقُ المعنى على عطفه على " بَأذَنَ " فإنه غيًّا الأمر بغايتين : أحداهما خاصة ، وهي إذْنُ أبيه والثانية عامة ؛ لأنَّ إذن أبيه له في الانصراف هو من حكم الله عزَّ وجلَّ " .

فصل

اعلم أنَّهم لما أيسوا من تخليصه ، وتناجوا فميا بينهم ، قال كبيرهم : { أَلَمْ تعلموا أَنَّ أَبَاكُمْ قَدْ أَخَذَ عَلَيْكُمْ مَّوْثِقاً } أي : عهداً { مِّنَ الله وَمِن قَبْلُ } هذا فرَّطتم في شأن يوسف ، ولم تحفظوا عهد أبيكم ، { فَلَنْ أَبْرَحَ الأرض } التي أنا بها ، وهي أرض مصر ، فلن أفارق أرض مصر { حتى يَأْذَنَ لي أبيا } في الانصراف إليه والخروج مهنا { أَوْ يَحْكُمَ الله لِي } بالخروج منها بردّ أخي إليّ ، أو خروجي ، وترك أخي ، أو بالانتصاف ممَّن أخذ أخي .

وقيل : أو يحكم الله لي بالسَّيف وأقاتلهم واسترد أخي { وَهُوَ خَيْرُ الحاكمين } ؛ لأنه لا يحكم إلا بالعدل ، والحق ، فحينئذ تفكَّروا في الأصوب ماهو ؟ فظهر لهم أنَّ الأصوب هو الرُّجوع ، وأن يذكروا لأبيهم كيفية الواقعة ، فقال الأخ المحتبس بمصر لإخوته :