قوله تعالى : { وتولى عَنْهُمْ وَقَالَ ياأسفا عَلَى يُوسُفَ وابيضت عَيْنَاهُ مِنَ الحزن فَهُوَ كَظِيمٌ } الآية .
لما سمع يعقوب كلام بنيه ، ضاق قلبه ، وهاج حزنهُ على يوسف ، فأعرض عنهم : { وقال يا أسفى على يوسف } يا حزنا على يوسف .
والأسفُ : أشدُّ الحُزْنِ ، وإنما عظم حزنهُ على مُفارقةِ يوسف عند هذه الواقعة لوجوه :
الأول : أنَّ الحزن القديم الكامل إذا وقع عليه حزن آخر كان أوجع ، قال متمّم بن نويرة : [ الطويل ]
3133 فَقَالَ أتَبْكِي كُلَّ قَبْرٍ رأيتَهُ *** لِمَيْتٍ ثَوَى بَيْنَ اللِّوى والدَّكَادِكَ
فقُلْتُ لَهُ : إنَّ الأسَى يَبْعَثُ الأسَى *** فدَعْنِي فَهذَا كُلُّهُ قَبْرُ مَالِكِ
وذلك ؛ لأنه كلما رأى قبراً تجدَّد عليه حزنه على أخيه مالك ، فلاموهُ ؛ فأجاب : إنَّ الأسى يبعث الأسى .
الثاني : أنَّ ينيامين ، ويوسف كانا من أمٍّ واحدة ، وكانت المشابهة بينهما في الصِّفة متقاربة ، فكان يعقوب عليه الصلاة والسلام يتسلّى برؤيته عن رؤية يوسف عليه السلام ، فلما وقع ما وقع ، زال ما يوجبُ السَّلوة ، فعظم الألم .
الثالث : أنَّ المصيبة بيوسف كانت أصل مصائبه الَّتي عليها ترتب سائر المصائب ، فكان الأسفُ عليه أسفاً على الكُلِّ .
الرابع : أنَّ هذه المصائب كانت أسبابها جارية مجرى الأمور المعلومةِ ، فلم يبحث عنها يوسف صلوات الله وسلامه عليه فهو عليه السلام كان يعلمُ كذبهم في السَّببِ الذي ذكروه ، وأما السَّببُ الحقيقي ، فلم يعلمه .
وأيضاً : أنه عليه الصلاة والسلام كان يعلم حياة هؤلاء ، وأمَّا يوسف فما كان يعلم أنَّه حي ، أو ميت ، فلهذه الأسباب عظم حزنه على مفارقته .
قوله : { ياأسفا } الألف منقلبة عن ياء المتكلم ، وإنَّما قلبت ألفاً ؛ لأنَّ الصَّوت معها أتم ، ونداؤه على سبيل المجازِ ، كأنَّه قال : هذا أوانُك فاحضر ، نحو : " يَا حَسْرَتَا " .
وقيل هذه ألف الندبة ، وحذفت هاء السَّكت وصلاً .
قال الزمخشريُّ : والتَّجانس بين لفظتي الأسف ، ويوسف ممَّا يقعُ مطبوعاً غير متعمل فيملح ، ويبدع ، ونحوه : { اثاقلتم إِلَى الأرض أَرَضِيتُمْ } [ التوبة : 38 ] { يَنْهَوْنَ عَنْهُ وَيَنْأَوْنَ عَنْهُ } [ الأنعام : 26 ] { يَحْسَبُونَ أَنَّهُمْ يُحْسِنُونَ } [ الكهف : 10 ] { مِن سَبَإٍ بِنَبَإٍ } [ النمل : 22 ] .
قال شهابُ الدِّين : ويسمَّى هذا النَّوع تجنيس التَّصريف ، وهو أن تشترك الكلمتان في لفظ ، ويفرق بينهما بحرف ليس في الأخرى ، وقد تقدَّم [ الأنعام : 26 ] .
وقرأ ابن عباسٍ ، مجاهدٌ " مِنَ الحَزَن " بفتحتين ، وقتادة بضمتين والعامة بضمة فسكون .
فالحُزْن ، والحَزَن ، كالعُدْمِ ، والعَدَم ، والبُخْل والبَخَل ، وأمَّا الضمتان فالثانية إتباعٌ . وقال الواحديُّ : اختلفوا في الحُزْنِ ، الحَزَن ، فقال قومٌ : الحُزْن : البُكاء والحَزَن ضد الفرحِ ، وقال قومٌ : هما لغتان ، يقال : أصَابهُ حُزْنٌ شديدٌ وحَزنٌ شديدٌ ، إذا كان في مواضع النَّصب ، فتحوا الحاء ، والزَّاي كقوله : { تَوَلَّوْا وَّأَعْيُنُهُمْ تَفِيضُ مِنَ الدمع حَزَناً } [ التوبة : 92 ] ، وإذا كان في موضع الرفع ، والخفض فبضم الحاءِ ، كقوله : { مِنَ الحزن } وقوله : { إِنَّمَآ أَشْكُو بَثِّي وَحُزْنِي إِلَى الله } قال : هما في موضع رفع بالابتداء .
و " كَظِيمٌ " يجوز أن يكون مبالغة بمعنى فاعل ، وأن يكون بمعنى مفعول ، كقوله : { وَهُوَ مَكْظُومٌ } [ القلم : 48 ] وبه فسَّرهُ الزمخشريُّ ، فإن كان بمعنى الكَاظِم فهو الممسك على حزنه فلا يظهره ، وإن كان بمعنى المكظُومِ ، فقال ابنُ قتيبة : " معناه المملوء من الهمّ ، والحزن مع سدّ طريق نفسه المصدور ، من كَظَمَ السِّقاء ، إذا اشتدّ على ملئه ، ويجوز أن يكون بمعنى مَمْلُوء من الغيظِ على أولاده " .
تقدَّم الكلام على الأسفِ ، وأمَّا قوله : { وابيضت عَيْنَاهُ مِنَ الحزن } فقيل : إنَّه لما قال : { ياأسفا عَلَى يُوسُفَ } غلبه البُكَاءُ ، وعند غلبةِ البُكاءِ يكثرُ الماء في العين ، فتصير العينُ كأنها ابيضَّت من بياض ذلك الماءِ ، فقوله : { وابيضت عَيْنَاهُ } كناية عن غلبة البكاءِ . رواه الواحدي عن ابن عبَّاسٍ . وقال مقاتلٌ : كناية عن العمى ، فلم يبصر بهما شيئاً حتى كشفهُ اللهُ تعالى بقميص يوسف عليه الصلاة والسلام بقوله : { فَأَلْقُوهُ على وَجْهِ أَبِي يَأْتِ بَصِيراً } [ يوسف : 93 ] ، وقال : { فَلَمَّآ أَن جَآءَ البشير أَلْقَاهُ على وَجْهِهِ فارتد بَصِيراً } [ يوسف : 96 ] : ولأنَّ الحزن الدَّائم ، يوجب البكاء الدائم وهو يوجب العمىح لأنَّه يوجب كُدُورة على سوادِ العين .
وقيل : ما عمي ، ولكنَّه صار بحيثُ يدرك إدراكاً ضعيفاً ؛ كما قال : [ الطويل ]
3134 خَلِيليَّ إنِّي قَدْ غَشِيتُ مِنَ البُكَا *** فهَلْ عِنْدَ غَيْرِي مُقلَةٌ اسْتَعِيرُهَا
قيل : ما صحَّت عينا يعقوب من وقت فراق يوسف إلى حين لقائه ، وتلك المدة ثمانون سنة ، وما كان على وجه الأرض أكرم على الله من يعقوب عليه الصلاة والسلام .
مشروع تقني يهدف لتوفير قالب تقني أنيق وحديث يليق بالمحتوى الثري لمشروع الجامع التاريخي لتفسير القرآن الكريم الصادر عن مؤسسة البحوث والدراسات العلمية (مبدع)، وقد تم التركيز على توفير تصفح سلس وسهل للمحتوى ومتوافق تماما مع أجهزة الجوال، كما تم عمل بعض المميزات الفريدة كميزة التلوين التلقائي للنصوص والتي تم بناء خوارزمية برمجية مخصصة لهذا الغرض.
تم الحصول على المحتوى من برنامج الجامع التاريخي لتفسير القرآن الكريم.
المشروع لا يتبع أي جهة رسمية أو غير رسمية، إنما هي جهود فردية ومبادرات شخصية لبعض الخبراء في مجال البرمجيات.
المشروع لازال في بداياته وننوي إن شاء الله العمل على تطويره بشكل مستمر وسنضع خطة تطوير توضح المميزات التي يجري العمل عليها إن شاء الله.
الدعاء للقائمين عليه، نشر الموقع والتعريف به، إرسال الملاحظات والمقترحات.