اللباب في علوم الكتاب لابن عادل - ابن عادل  
{وَتَوَلَّىٰ عَنۡهُمۡ وَقَالَ يَـٰٓأَسَفَىٰ عَلَىٰ يُوسُفَ وَٱبۡيَضَّتۡ عَيۡنَاهُ مِنَ ٱلۡحُزۡنِ فَهُوَ كَظِيمٞ} (84)

قوله تعالى : { وتولى عَنْهُمْ وَقَالَ ياأسفا عَلَى يُوسُفَ وابيضت عَيْنَاهُ مِنَ الحزن فَهُوَ كَظِيمٌ } الآية .

لما سمع يعقوب كلام بنيه ، ضاق قلبه ، وهاج حزنهُ على يوسف ، فأعرض عنهم : { وقال يا أسفى على يوسف } يا حزنا على يوسف .

والأسفُ : أشدُّ الحُزْنِ ، وإنما عظم حزنهُ على مُفارقةِ يوسف عند هذه الواقعة لوجوه :

الأول : أنَّ الحزن القديم الكامل إذا وقع عليه حزن آخر كان أوجع ، قال متمّم بن نويرة : [ الطويل ]

3133 فَقَالَ أتَبْكِي كُلَّ قَبْرٍ رأيتَهُ *** لِمَيْتٍ ثَوَى بَيْنَ اللِّوى والدَّكَادِكَ

فقُلْتُ لَهُ : إنَّ الأسَى يَبْعَثُ الأسَى *** فدَعْنِي فَهذَا كُلُّهُ قَبْرُ مَالِكِ

وذلك ؛ لأنه كلما رأى قبراً تجدَّد عليه حزنه على أخيه مالك ، فلاموهُ ؛ فأجاب : إنَّ الأسى يبعث الأسى .

الثاني : أنَّ ينيامين ، ويوسف كانا من أمٍّ واحدة ، وكانت المشابهة بينهما في الصِّفة متقاربة ، فكان يعقوب عليه الصلاة والسلام يتسلّى برؤيته عن رؤية يوسف عليه السلام ، فلما وقع ما وقع ، زال ما يوجبُ السَّلوة ، فعظم الألم .

الثالث : أنَّ المصيبة بيوسف كانت أصل مصائبه الَّتي عليها ترتب سائر المصائب ، فكان الأسفُ عليه أسفاً على الكُلِّ .

الرابع : أنَّ هذه المصائب كانت أسبابها جارية مجرى الأمور المعلومةِ ، فلم يبحث عنها يوسف صلوات الله وسلامه عليه فهو عليه السلام كان يعلمُ كذبهم في السَّببِ الذي ذكروه ، وأما السَّببُ الحقيقي ، فلم يعلمه .

وأيضاً : أنه عليه الصلاة والسلام كان يعلم حياة هؤلاء ، وأمَّا يوسف فما كان يعلم أنَّه حي ، أو ميت ، فلهذه الأسباب عظم حزنه على مفارقته .

قوله : { ياأسفا } الألف منقلبة عن ياء المتكلم ، وإنَّما قلبت ألفاً ؛ لأنَّ الصَّوت معها أتم ، ونداؤه على سبيل المجازِ ، كأنَّه قال : هذا أوانُك فاحضر ، نحو : " يَا حَسْرَتَا " .

وقيل هذه ألف الندبة ، وحذفت هاء السَّكت وصلاً .

قال الزمخشريُّ : والتَّجانس بين لفظتي الأسف ، ويوسف ممَّا يقعُ مطبوعاً غير متعمل فيملح ، ويبدع ، ونحوه : { اثاقلتم إِلَى الأرض أَرَضِيتُمْ } [ التوبة : 38 ] { يَنْهَوْنَ عَنْهُ وَيَنْأَوْنَ عَنْهُ } [ الأنعام : 26 ] { يَحْسَبُونَ أَنَّهُمْ يُحْسِنُونَ } [ الكهف : 10 ] { مِن سَبَإٍ بِنَبَإٍ } [ النمل : 22 ] .

قال شهابُ الدِّين : ويسمَّى هذا النَّوع تجنيس التَّصريف ، وهو أن تشترك الكلمتان في لفظ ، ويفرق بينهما بحرف ليس في الأخرى ، وقد تقدَّم [ الأنعام : 26 ] .

وقرأ ابن عباسٍ ، مجاهدٌ " مِنَ الحَزَن " بفتحتين ، وقتادة بضمتين والعامة بضمة فسكون .

فالحُزْن ، والحَزَن ، كالعُدْمِ ، والعَدَم ، والبُخْل والبَخَل ، وأمَّا الضمتان فالثانية إتباعٌ . وقال الواحديُّ : اختلفوا في الحُزْنِ ، الحَزَن ، فقال قومٌ : الحُزْن : البُكاء والحَزَن ضد الفرحِ ، وقال قومٌ : هما لغتان ، يقال : أصَابهُ حُزْنٌ شديدٌ وحَزنٌ شديدٌ ، إذا كان في مواضع النَّصب ، فتحوا الحاء ، والزَّاي كقوله : { تَوَلَّوْا وَّأَعْيُنُهُمْ تَفِيضُ مِنَ الدمع حَزَناً } [ التوبة : 92 ] ، وإذا كان في موضع الرفع ، والخفض فبضم الحاءِ ، كقوله : { مِنَ الحزن } وقوله : { إِنَّمَآ أَشْكُو بَثِّي وَحُزْنِي إِلَى الله } قال : هما في موضع رفع بالابتداء .

و " كَظِيمٌ " يجوز أن يكون مبالغة بمعنى فاعل ، وأن يكون بمعنى مفعول ، كقوله : { وَهُوَ مَكْظُومٌ } [ القلم : 48 ] وبه فسَّرهُ الزمخشريُّ ، فإن كان بمعنى الكَاظِم فهو الممسك على حزنه فلا يظهره ، وإن كان بمعنى المكظُومِ ، فقال ابنُ قتيبة : " معناه المملوء من الهمّ ، والحزن مع سدّ طريق نفسه المصدور ، من كَظَمَ السِّقاء ، إذا اشتدّ على ملئه ، ويجوز أن يكون بمعنى مَمْلُوء من الغيظِ على أولاده " .

فصل

تقدَّم الكلام على الأسفِ ، وأمَّا قوله : { وابيضت عَيْنَاهُ مِنَ الحزن } فقيل : إنَّه لما قال : { ياأسفا عَلَى يُوسُفَ } غلبه البُكَاءُ ، وعند غلبةِ البُكاءِ يكثرُ الماء في العين ، فتصير العينُ كأنها ابيضَّت من بياض ذلك الماءِ ، فقوله : { وابيضت عَيْنَاهُ } كناية عن غلبة البكاءِ . رواه الواحدي عن ابن عبَّاسٍ . وقال مقاتلٌ : كناية عن العمى ، فلم يبصر بهما شيئاً حتى كشفهُ اللهُ تعالى بقميص يوسف عليه الصلاة والسلام بقوله : { فَأَلْقُوهُ على وَجْهِ أَبِي يَأْتِ بَصِيراً } [ يوسف : 93 ] ، وقال : { فَلَمَّآ أَن جَآءَ البشير أَلْقَاهُ على وَجْهِهِ فارتد بَصِيراً } [ يوسف : 96 ] : ولأنَّ الحزن الدَّائم ، يوجب البكاء الدائم وهو يوجب العمىح لأنَّه يوجب كُدُورة على سوادِ العين .

وقيل : ما عمي ، ولكنَّه صار بحيثُ يدرك إدراكاً ضعيفاً ؛ كما قال : [ الطويل ]

3134 خَلِيليَّ إنِّي قَدْ غَشِيتُ مِنَ البُكَا *** فهَلْ عِنْدَ غَيْرِي مُقلَةٌ اسْتَعِيرُهَا

قيل : ما صحَّت عينا يعقوب من وقت فراق يوسف إلى حين لقائه ، وتلك المدة ثمانون سنة ، وما كان على وجه الأرض أكرم على الله من يعقوب عليه الصلاة والسلام .