قوله تعالى : { فَلَمَّا جَهَّزَهُمْ بِجَهَازِهِمْ جَعَلَ السقاية فِي رَحْلِ أَخِيهِ } .
تقدَّم الكلامُ في الجهَازِ . أمَّا قوله : { جَعَلَ السقاية } فالعامة على : " جعل " بلا واو قبلها ، وقرأ عبدُ الله " وَجَعَلَ " وهي تحتمل وجهين :
والثاني : أنَّ الواو مزيدة في الجواب على رأي الكوفيين ، والأخفش .
قال أبو حيَّان : وقرأ عبدُ الله فيما نقل عن الزمخشري { وجعل السقاية في رحل أخيه } : أمْهَلهُمْ حتّى انطلقوا . { ثُمَّ أَذَّنَ مُؤَذِّنٌ } ، وفي نقل ابنِ عطيَّة : " وَجَعلَ " بزيادة واوٍ في : " جَعَلَ " دون الزيادة التي زادها الزمخشريُّ ، بعد قوله : " في رَحْل أخيهِ " فاحتمل أن تكون الواو زائدة على مذهب الكوفيِّين ، واحتمل أن يكون جواب : " لمَّا " محذوفاً تقديره : فقدها حافظها كما قيل : إنَّما أوحي إلى يوسف بأن يجعل السِّقاية فقط ، ثمَّ إنَّ صاحبها فقدها فنادى برأيه فيما ظهر له ، ورجَّحهُ الطبريُّ ، وتفتيتش الأوعية يردُّ هذا القول .
قال شهابُ الدِّين : " لم ينقل الزمخشريُّ هذه الزِّيادة كلها قراءة عن عبدالله ، إنَّما جعل [ الزِّيادة ] المذكورة بعد قوله : " رحْلِ أخِيهِ " تقدير جواب من عنده ، وهذا نصُّه :
قال الزمخشريُّ : " وقرأ ابنُ مسعودٍ : وجَعَلَ السِّقاية " على حذف جواب " لمَّا " كأنه قيل : فلمَّا جهزهم بجهازهم ، وجعل السِّقاية في رحل أخيه ؛ أمهلهم حتى انطلقوا ، ثمَّ أذَّن مؤذِّنٌ " فهذا من الزمخشريُّ إنما هو تقدير لا تلاوة منقولة عن عبدالله ، ولعلَّهُ وقع للشَّيخ نسخةٌ سقيمةٌ " .
قال الزمخشريُّ : " السِّقاية : مَشْربةٌ يُسْقَى بها وهِيَ الصواع " .
قيل : كَانَ يُسْقى بها الملكُ ، ثُمَّ جعلت صاعاً يكالُ به ، وقيل : كانت الدَّوابُّ تسقى بها ، ويُكَالُ بِهَا أيضاً ، وقيل : كانت من فضَّةٍ ، وقيل : كَانتْ من ذهَبٍ ، وقيل : كَانتْ مُرصَّعة بالجَواهرِ .
والأولى أن يقال : كان ذلِكَ الإنَاء شيئاً لهُ قِيمَة ، أمَّا إلى هذا الحدِّ الذي ذكروهُ فَلاً ؟
روي أنَّ يوسف صلوت الله وسلامه عليه قال لأخيه : لا تُعْلِمهُمْ شيئاً ممَّا أعلمتك ، ثمَّ أوفى يوسف لإخوته الكيل ، وحمل لكلِّ واحدٍ بعيراً ، ولبنيامين بعيرٌ باسمه ، ثمَّ أمر بسقاية الملك ، فجعلت في رحل بنيامين .
قال السديُّ رحمه الله : لما قال له يوسف : { إني أَنَاْ أَخُوكَ } [ يوسف : 69 ] قال بنيامين : فأنا لا أفارقك ، فقال له يوسف : قد علمت اغتمام والدي بي ، وإذا أجلستك ، ازداد غمه ولا يمكنني هذا إلاَّ بعد أن أشهرك بأمر فظيع ، وأنسبك إلى ما لا يُحْمدُ ، قال لا أبالي فافعل ما بدا لك ؛ فإني لا أفارقك ، قال : فإنِّي أدس صاعي في رحلك ، ثمَّ أنادي عليك بالسِّرقةِ ليتهيأ لي ردّك بعد تسريحك ، قال : فافعل .
فعند ذلك جعل السِّقاية في طعام أخيه بنيامين ، إمَّا بنفسه بحيثُ لم يطِّلعْ عليه أحدٌ ، أو أمر أحداً من بعض خواصه بذلك ، ثمَّ ارتحلوا وأمهلهم يوسف حتَّى نزلوا منزلاً .
وقيل : حتَّى خرجوا من العمارة ، ثمَّ بعث خلفهم من استوقفهم ، وحبسهم .
{ ثُمَّ أَذَّنَ مُؤَذِّنٌ } نادى منادٍ : { أَيَّتُهَا العير } ، وهي القافلةُ التي فيها الأحمال ، يقال : أذَّن ، أي : أعلمَ .
وفي الفرق بين " أذَّنَ " ، و " آذَنَ " وجهان :
قال ابن الأنباريِّ : " أذن بمعنى أعلم إعلاماً بعد إعلام ، لأنَّ " فعَّل " يوجب تكرير الفعل ، قال : ويجوز أن يكون إعلاماً واحداً ، من قبل أنَّ العرب يجعل فعَّل بمعنى أفعل ، في كثير من المواضع " .
وقال سيبويه : الفرقُ بين أذنتُ وآذنْتُ معناه : أعلمتُ ، لا فرق بينهما والتَّأذينُ معناه : النِّداءُ ، والتَّصويتُ بالإعلام .
{ أَيَّتُهَا العير } منادى حذف منه حرف النِّداء ، والعير مؤنثٌ ، ولذلك أنث أي المتوصل بها إلى ندائه ، والعير فيها قولان :
أحدهما : أنها في الأصل جماعة الإبل ، سُمِّيت بذلك ؛ لأنها تعير ، أي : تذهب وتجيء به .
والثاني : أنَّها في الأصل قافلة الحمير ؛ كأنها جمع عير ، والعِيرُ : الحِمارُ ؛ قال الشاعر : [ البسيط ]
3121 ولاَ يُقِيمُ عَلى ضَيْمٍ يُرادُ بِهِ *** إلاَّ الأذَلانِ عَيْرُ الحيِّ والوَتِدُ
وأصلُ " عُيْرٌ " ، بضم العين ، ثمَّ فعل به ما فعل ب " بيض " ، والأصل [ بُيض ] بضم الأول ، ثم أطلق العير على كلِّ قافلة حميرٍ كُنَّ أو غيرها ، وعلى كلِّ فتقدير نسبة النداء إليها على سبيل المجاز ؛ لأنَّ المنادى في الحقيقة أهلها ، ونظره الزمخشريُّ بقوله : " يَاخَيْل اللهِ ارْكبِي " ولو التفت لقال : اركَبُوا " . ويجوز أن يعبر عن أهلها بها للمجاورة ، فلا يكون من مجاز الحذف ، بل من مجاز العلاقة ، وتجمعه العرب قاطبةٌ على " عيرات " بفتح الياءِ ، وهذا ممَّا اتُّفق على شذوذِهِ ؛ لأن فعلة المعتلة العين حقها في جمعها بالألف والتاء أن تسكن عينها ، نحو : قِيمَة وقِيمَات ، ودِيمَة ودِيمَات ، وكذلك " فِعْل " دون ياء إذا جمع حقه أن تسكن عينه ؛ قال امرؤ القيس : [ الطويل ]
3122 غَشِيتُ دِيَارَ الحيِّ بالبَكرَاتِ *** فعَارِمَةٍ فبُرْقَةِ العِيَراتِ
قال الأعلمُ الشَّنتمَرِيُّ : العِيرَات هنا موضع الأعيار ، وهي الحمر .
قال شهابُ الدِّين : " وفي عِيرَات " شذوذ آخر ، وهو جمعها بالألف ، والتَّاء مع جمعها على أعيار أيضاً جمع تكسيرٍ ، وقد نصُّوا على ذلك ، قيل : ولذلك لحن المتنبي في قوله : [ الطويل ]
3123 إذَا كَانَ بَعض النَّاسِ سُيْفاً لِدوْلَةٍ *** فَفِي النَّاس بُوقاتٌ لهَا وطُبُولُ
قالوا : فجمع : " بُوقاً " على : " بُوقَات " مع تكسيرهم له على " أبْوَاق " .
وقال أبُو الهيثم : " كلُّ ما يسير عليه من الإبل ، والحمير ، والبغال فهو عير خلافاً لقول من قال : العيِرُ : الإبلُ خاصَّة " .
فإن قيل : هل كان ذلك النداء بأمر يوسف عليه السلام ، أو ماكان بأمره ؟ فإن كان بأمره فكيف يليق بالرًَّسُول الحق من عند الله أن يتهمهم وينسبهم إلى السرقة كذباً وبهتاناً ؟ .
وإنْ لم يكن بأمره ، فهلا أظهر براءتهم عن تلك التُّهمةِ ؟ .
الأول : ما تقدَّم من أنَّه صلوات الله وسلامه عليه أظهر لأخيه أنَّه يوسف وقال : لا سبيل إلى حبسك هنا إلاَّ بهذه الحيلة ، فرضي أخوهُ بها ، ولم يتألم قلبه .
والثاني : أراد إنكم لسارقون يوسف من أبيه ، والمعاريض لا تكون إلا كذلك .
والثالث : أن [ المؤذن ] إنما نادى مستفهماً .
والرابع : هو الظاهر أنَّهم نادوا من عند أنفسهم ؛ لأنهم طلبوا السِّقاية فلم يجدوها ، ما كان هناك غيرهم ، فغلب على ظنهم أنَّهم هم الَّذين أخذوها ، وليس في القرآن أنَّهم نادوا عن أمر يوسف صلوات الله وسلامه عليه .
وقيل : إنَّهم لما كانوا باعوا يوسف استجاز أن يقال لهم هذا ، وأنَّه عوقب على ذلك بأن قالوا : { فَقَدْ سَرَقَ أَخٌ لَّهُ مِن قَبْلُ } [ يوسف : 77 ] .
وقيل : أراد أيتها العيرُ حالكم حال السارق ، والمعنى : إن شيئاً لغيركم صار عندكم ، من غير رضى الملك ، ولا علم له .
وقيل : إنَّ ذلك كان حيلة لاجتماع شمله بأخيه ، وفصله عنهم إليه ، وهذا بناءً على أنَّ بنيامين لم يعلم بدسّ الصَّاع في رحله ، ولا أخبره بنفسه .
وقيل : معنى الكلامِ : الاستهفام ، أي : أو إنكم لسارقون ، كقوله : { وَتِلْكَ نِعْمَةٌ تَمُنُّهَا عَلَيَّ } [ الشعراء : 22 ] والغرضُ ألا يعزى الكذب إلى يوسف .
فإن قيل : كيف رضي بنيامين بالقعود طوعاً ، وفيه عقوق الأب بزيادة الحزن ، ووافقه على ذلك يوسف ؟ .
فالجواب : أنَّ الحزن كان قد غلب على يعقوب بحيث لا يؤثِّر فيه فقد بنيامين كل التأثير ، ألا تراهُ لما فقده قال : { يا أسفا على يوسف } ، ولم يعرج على بنيامين ولعلَّ يوسف إنَّما وافقه على القعود بوحي ، فلا اعتراض .
مشروع تقني يهدف لتوفير قالب تقني أنيق وحديث يليق بالمحتوى الثري لمشروع الجامع التاريخي لتفسير القرآن الكريم الصادر عن مؤسسة البحوث والدراسات العلمية (مبدع)، وقد تم التركيز على توفير تصفح سلس وسهل للمحتوى ومتوافق تماما مع أجهزة الجوال، كما تم عمل بعض المميزات الفريدة كميزة التلوين التلقائي للنصوص والتي تم بناء خوارزمية برمجية مخصصة لهذا الغرض.
تم الحصول على المحتوى من برنامج الجامع التاريخي لتفسير القرآن الكريم.
المشروع لا يتبع أي جهة رسمية أو غير رسمية، إنما هي جهود فردية ومبادرات شخصية لبعض الخبراء في مجال البرمجيات.
المشروع لازال في بداياته وننوي إن شاء الله العمل على تطويره بشكل مستمر وسنضع خطة تطوير توضح المميزات التي يجري العمل عليها إن شاء الله.
الدعاء للقائمين عليه، نشر الموقع والتعريف به، إرسال الملاحظات والمقترحات.