اللباب في علوم الكتاب لابن عادل - ابن عادل  
{ٱرۡجِعُوٓاْ إِلَىٰٓ أَبِيكُمۡ فَقُولُواْ يَـٰٓأَبَانَآ إِنَّ ٱبۡنَكَ سَرَقَ وَمَا شَهِدۡنَآ إِلَّا بِمَا عَلِمۡنَا وَمَا كُنَّا لِلۡغَيۡبِ حَٰفِظِينَ} (81)

{ ارجعوا إلى أَبِيكُمْ فَقُولُواْ ياأبانا إِنَّ ابنك } بنيامين " سَرَقَ " .

قرأ العامة : " سَرَقَ " مبنيًّا للفاعل مخففاً ، وابن عباس ، وأبو رزين ، والضحاك ، والكسائي في رواية " سُرِّقَ " بضمِّ السِّين ، كسر الرَّاء مشدداً مبنيًّا للمفعول يعني : نسب إلى السَّرقة ، كما يقال : خَوَّنته ، أي : نسبته إلى الخِيانةِ ، قال الزجاج : " سُرِّقَ " يحتمل معنيين :

أحدهما : علم منه السرقة ، والآخر : اتهم بالسَّرقة .

قال الجوهريُّ : " والسَّرِق والسَّرِقة بكسر الراء فيهما هو اسم الشيء المسروق ، والمصدر : سَرَق ، يَسْرِق ، سَرَقاً بالفتح " .

وقرأ الضحاك : " سَارِق " جعله اسم فاعل .

{ وَمَا شَهِدْنَآ إِلاَّ بِمَا عَلِمْنَا } فإنَّا رأينا أخراج صاع من متاعه . وقيل : معناه { وَمَا شَهِدْنَآ } أي : ما كانت منَّا شهادة في عمرنا على الشَّيء إلاَّ بما علمنا ، وليست هذه الشَّهادة منَّا ، إنَّما هو خبرٌ عن صنيعِ ابنكَ بزعمهم .

فإن قيل : كيف حكموا عليه بأنَّه سرق من غير بينة ، لا سيَّما وقد أجابهم بالنَّفي فقال : الذي جعل الصَّواع في رحلي ، وهو الذي جعل البضاعة في رحالكم ؟ فالجواب من وجوهٍ :

أحدها : أنهم شاهدوا أنَّ الصواع كان موضوعاً في [ محلٍّ ] لم يدخله غيرهم ، فلمَّا شاهدوا إخراج الصواع من رحله ؛ غالب على ظنهم أنَّه هو الذي أخذ الصواع .

وأما قوله : " وضَعَ الصُّواعَ في رحْلِي الذي وضع البِضاعَة في رحالكم " فالفرق ظاهرٌ ؛ لأنهم لمَّا رجعوا بالبضاعة إليهم اعتروفا بأنهم هم الذين وضعوها في رحالهم ، وأمَّا الصُّواع ، فلم يعترف أحدٌ بأنه هو الذي وضع الصُّواعَ ؛ فلهذا غلب على ظنونهم أنه سرق ؛ فشهدوا بناء على غلبة الظَّنِّ ، ثمَّ بينوا أنهم غيرُ قاطعين بهذا الأمر بقوله : { وَمَا شَهِدْنَآ إِلاَّ بِمَا عَلِمْنَا وَمَا كُنَّا لِلْغَيْبِ حَافِظِينَ } .

وثانيها : تقدير الكلام : { إِنَّ ابنك سَرَقَ } في قول الملك ، وأصحابه ، ومثله كثيرٌ في القرآن ، قال تعالى : { ذُقْ إِنَّكَ أَنتَ العزيز الكريم } [ الدخان : 49 ] أي : عند نفسك وأمَّا عندنا فلا فكذا هاهنا .

وثالثها : أنَّ ابنك ظهر عليه ما يشبه السَّرقة ، ومثل هذال المعنى قد يسمَّى سرقة ، فإن إطلاق أحد الشَّيئين على الشبيه الآخر جائزٌ ، مثله في القرآن { وَجَزَآءُ سَيِّئَةٍ سَيِّئَةٌ مِّثْلُهَا } [ الشورى : 40 ] .

ورابعها : أنهم ما كانوا أنبياء في ذلك الوقت ، فلا يبعد أن يقال : إنهم ذكروا هذا الكلام على سبيل المجازفة ، لا سيَّما ، و قد شاهد سائرهم ذلك .

وخامسها : قراءة ابن عبَّاسٍ رضي الله عنه المتقدمة " سُرِّقَ " أي : نسب إلى السَّرقة ، فهذه لا تحتاجُ إلى تأويلٍ ، إلاَّ أنه تقدَّم أنَّ أمثال هذه القراءة لا تدفعُ السَّؤال ؛ لأنَّ الإشكال إنَّما يندفعُ إذا كانت القراءة الأولى باطلة ، وهذه القراءة حقّ أمَّا إذا كانت الأولى حقّ ، كان الإشكال باقياً صحَّت القراءة ، أو لم تصحّ ، فلا بدّ من الرجوعِ إلى أحدِ الوجوه المذكورة .

فصل

دلَّ قولهم : { وَمَا شَهِدْنَآ إِلاَّ بِمَا عَلِمْنَا } على أنَّ الشَّهادة غير العلم ؛ لأن هذا الكلام يقتضي كون الشَّهادةِ مغايرة للعلم ، ولقوله عليه الصلاة والسلام : " إذَا عَلمْتَ مثلَ الشَّمْسِ فاشْهَدْ " . . . وليست الشَّهادةٌ عبارةً عن قوله " اشْهَد " ؛ لأنه إخبار عن الشَّهادة ، والأخبار عن الشَّهادة غير الشهادة .

وإذا ثبت هذا ؛ فنقول : الشَّهادةُ عبارةٌ عن الحكم الذِّهنيِّ وهو الذي يسميه المتكلمون ب " الكلام " النفسي " .

فصل

قال القرطبيُّ : تضمنت هذه الآية جواز الإشهاد بأيّ [ وجه ] حصل العلمُ بها فإنَّ الشَّهادة مرتبطةٌ بالعلم عقلاً وشرعاً ، فلا تسمعُ إلاَّ ممَّن علم ، ولا تقبلُ إلاَّ منهم ، وهذا هو الأصل في الشَّهادات .

ولهذا قال أصحابنا : شهادة الأعمى جائزة ، وشهادة المستمع جائزةٌ ، وشهادة الأخرس إذا فهمت إشارته جائزة ، وكذلك الشَّهادة على الخطّ أي : إذا تبيَّن أنه خطُّه ، أو خطُّ فلان صحيحةٌ ، فكلُّ من حصل كله العلم بشيء ؛ جاز أن يشهد به ، وإن لم يشهدهُ المشهودُ عليه . قال الله تعالى : { إِلاَّ مَن شَهِدَ بالحق وَهُمْ يَعْلَمُونَ } [ الزخرف : 86 ] وقال عليه الصلاة والسلام : " ألاَ أخْبِرُكمْ بِخيْرِ الشُّهداءِ ؟ الذي يأتِي بشهادة قَبْل أنْ يُسْألَها " .

قوله تعلى : { وَمَا كُنَّا لِلْغَيْبِ حَافِظِينَ } قال مجاهدٌ وقتادة : وما كنا نعلم أنَّ ابنك يسرق ، ويصيِّر أمرنا إلى هذا ، ولو علمنا بلك ما ذهبنا به معنا ، وإنَّما قلنا : ونحفظ أخانا مما لنا إلى حفظه من سبيل .

وقال عكرمة : لعلَّ الصُّواع دفن في اللَّيلِ ، فإنَّ الغيب هو اسم لليل على بعض اللغات .

وقيل : رأيناهم أخرجوا الصواع من رحله ، أمَّا حقيقة الحالِ ، فغير معلومة لنا ، فإن الغيب لا يعلمه إلا الله تعالى .

وعن ابن عبَّاسٍ رضي الله عنهما ما كنا لليله ، ونهاره ، ومجيئه ، وذهابه حافظين .

وقيل : إنَّ يعقوب عليه الصلاة والسلام قال لهم : فهبْ أنه سرق ، ولكن كيف علم الملكُ أن شرع بني إسرائيل أنَّه من سرقَ يُسترقُّ بل أنتم ذكرتموه له لغرض لكم ، فقالوا عند ذلك : إنَّا ذكرنا له هذا الحكم قبل أن نعلم أنّ هذه الواقعة نقع فيها ، فوله : { وَمَا كُنَّا لِلْغَيْبِ حَافِظِينَ } أي : ما كنا نعلم أن الواقعة تصيبنا .

فإن قيل : فهل يجوز من يعقوب أن يخفي حكم الله ؟ .

فالجواب : لعلَّ ذلك الحكم كان مخصوصاً بما إذا كان المسروق منه مسلماً ، فلهذا أنكر ذلك الحكم عند الملك الذي ظنَّه كافراً .