اللباب في علوم الكتاب لابن عادل - ابن عادل  
{وَإِذَا مَسَّكُمُ ٱلضُّرُّ فِي ٱلۡبَحۡرِ ضَلَّ مَن تَدۡعُونَ إِلَّآ إِيَّاهُۖ فَلَمَّا نَجَّىٰكُمۡ إِلَى ٱلۡبَرِّ أَعۡرَضۡتُمۡۚ وَكَانَ ٱلۡإِنسَٰنُ كَفُورًا} (67)

{ وَإِذَا مَسَّكُمُ الضر فِي البحر } أي : خوف الغرق " ضَلَّ " ، بطل { مَن تَدْعُونَ } من الآلهة { إِلاَّ إِيَّاهُ } إلا الله ، فلم تجدوا مغيثاً سواه ، { فَلَمَّا نَجَّاكُمْ } من الغرق ، والشدة ، وأهوال البحر ، وأخرجكم { إِلَى البر أَعْرَضْتُمْ } عن الإيمان ، والإخلاص ، والطاعة ؛ كفراً منكم لنعمه ، { وَكَانَ الإنسان كَفُوراً } .

قوله تعالى : { إِلاَّ إِيَّاهُ } : فيه وجهان :

أحدهما : أنه استثناءٌ منقطعٌ ؛ لأنه لم يندرج فيما ذكر ، إذ المراد به آلهتهم من دون الله .

والثاني : متصلٌ ؛ لأنهم كانوا يلْجَئُونَ إلى آلهتهم ، وإلى الله تعالى .

والثالث : { أَفَأَمِنْتُمْ } بعد ذلك { أَن يَخْسِفَ بِكُم } ربُّكم يغوِّر بكم [ جانب ]{[20561]} البرِّ .

قال الليث - رحمه الله- : الخسفُ والخسوف دخُولُ الشيءِ في الشَّيء{[20562]} ، يقال عينٌ خاسفةٌ التي غابت حدقتها في الرَّأس ، وعينٌ من الماس خاسفةٌ ، أي : غائرة الماءِ ، وخسفتِ الشَّمس أي : احتجبت ، وكأنَّها وقعت تحت حجابٍ ، أو دخلت في جحر ، فقوله : { يَخْسِفَ بِكُمْ جَانِبَ البر } أي : يغيبكم في جانب البرِّ ، وهو الأرض ، وإنما قال : جانب البرِّ ؛ لأنَّه ذكر البحر أولاً ، فهو جانب ، والبر جانبٌ ، فأخبر الله سبحانه وتعالى ؛ أنه كما كان قادراً على أن يغيبهم في الماءِ ، فهو قادر على أن يغيبهم في الأرض ، فالغرق تغييبٌ تحت الماء ، كما أنَّ الخسف تغييبٌ تحت التُّراب .

وتقرير الكلام أنَّه تعالى ذكر أولاً أنَّهم كانوا خائفين من هول البحر ، فلمَّا نجَّاهم منه آمنوا ، فقال : هَبْ أنَّكم نجوتم من هول البحر ، فكيف أمنتم من هو البرِّ ؛ فإنَّه قادرٌ على أن يسلِّط عليكم آفاتِ البرِّ من جانب التَّحتِ ، أو من جانب الفوق ، فأما من جانب التَّحت ، فالخسف ، وأما من جانب الفوق ، فبإمطاركم الحجارة ، وهو المراد من قوله { أَوْ يُرْسِلَ عَلَيْكُمْ حَاصِباً } فكما يتضرعون إلى الله تعالى عند ركوب البحر فكذا يتضرَّعون إليه في كل الأحوال ، والحَصَبُ في اللغة : المرمى ، يقال : خصبته أحصبه ، إذا رميته والحَصْبُ : الرَّميُ ومنه قوله تعالى :

{ حَصَبُ جَهَنَّمَ } [ الأنبياء : 98 ] ، أي : يُلقَوْنَ فيها ، ومعنى قوله " حَاصِباً " أي عذاباً يحصبهم ، أي : يرميهم بحجارةٍ .

قال أبو عبيدة والقتيبيُّ : الحاصبُ : الرِّيحُ التي ترمي بالحصباء ، وهي الحصى الصِّغار ؛ قال الفرزدق :

مُسْتَقْبِلينَ شَمالَ الشَّامِ تَضْرِبُهمْ *** حَصْبَاءُ مِثْلُ نَدِيفِ القُطْنِ مَنْثُورِ{[20563]}

ويسمَّى السَّحاب الذي يرمي بالبرد والثَّلج حاصباً ، لأنه يرمي بهما رمياً ، ولم يؤنثه : إمَّا لأنه مجازيٌّ ، أو على النسب ، أي : ذات حصبٍ .

وقال الزجاج : الحاصب التُّراب الذي فيه الحصباء ، فالحاصب على هذا هو ذُو الحصباء ، مثل اللاَّبن والتَّامر .

{ ثُمَّ لاَ تَجِدُواْ لَكُمْ وَكِيلاً } قال قتادة : مَانِعاً{[20564]} .


[20561]:في ب: ناجية.
[20562]:ذكره الرازي في "تفسيره " (21/9).
[20563]:ينظر: ديوانه (1/213)، الكامل 3/57، الطبري 15/83، البحر المحيط 6/44، القرطبي 10/189، روح المعاني 15/116، الدر المصون 4/407.
[20564]:أخرجه الطبري في "تفسيره" (8/113) وذكره السيوطي في "الدر المنثور" (4/349) وزاد نسبته إلى ابن أبي حاتم.