اللباب في علوم الكتاب لابن عادل - ابن عادل  
{قُلۡ إِن كَانَتۡ لَكُمُ ٱلدَّارُ ٱلۡأٓخِرَةُ عِندَ ٱللَّهِ خَالِصَةٗ مِّن دُونِ ٱلنَّاسِ فَتَمَنَّوُاْ ٱلۡمَوۡتَ إِن كُنتُمۡ صَٰدِقِينَ} (94)

وهذا نوع آخر من قبائح أفعالهم ، وهو زعمهم أن الدار الآخرة خالصة لهم من دون النَّاس ، ويدلّ عليه أنه لا يجوز أن يقال للخصم : إن كان كذا أو كذا فافعل كذا ، والأول مذهبه ، ليصحّ إلزام الثاني عليه .

ويدلّ على ذلك أيضاً قولهم : { لَن يَدْخُلَ الْجَنَّةَ إِلاَّ مَن كَانَ هُوداً أَوْ نَصَارَى } [ البقرة : 111 ] وقولهم : { نَحْنُ أَبْنَاءُ اللَّهِ وَأَحِبَّاؤُهُ } [ المائدة : 18 ] وقولهم : { لَن تَمَسَّنَا النَّارُ إِلاَّ أَيَّاماً مَّعْدُودَةً } [ البقرة : 80 ] .

وأيضاً اعتقادهم في أنفسهم أنهم هم المحقّون ؛ لأن النسخ غير جائز في شرعهم ، وأن سائر الفرق مبطلون ، وأيضاً اعتقادهم أن انتِسَابَهُمْ إلى أكابر الأنبياء عليهم الصلاة والسلام ، أعني : يعقوب وإسماعيل وإسحاق وإبراهيم عليهم السلام يخلصهم من [ عقاب ]{[1498]} الله تعالى ويوصلهم إلى ثوابه ، فكذّبهم الله تعالى وألزمهم الحُجّة ، فقال : قل لهم يا محمد : إن كانت لكم الدار الآخرة يعني الجَنّة خالصة من دون النَّاس ، فتمنوا الموت أي : فأريدوه واسألوه ؛ لأن من علم أن الجنة مَأْواه حنّ إليها ؛ لأن نعم الدنيا على قلّتها كانت منغصةً عليهم بسبب ظهور محمد عليه الصلاة والسلام ومنازعته لهم بالجِدَالِ والقتال ، ومن كان في النّعم القليلة المنغصة ، وهو يتيقّن بعد الموت أنه ينتقل إلى تلك النعم العظيمة ، فإنه لا بد وأن يرغب في الموت .

وقيل : إن الله تعالى صرفهم عن إظْهَار التمنِّي ، وقصرهم على الإمساك ليجعل ذلك آية لنبيه صلى الله عليه وسلم .

وقيل : فتمنّوا الموت : ادعوا بالموت على الفِرْقَةِ الكاذبة . روى ابن عباس رضي الله عنهما أن النبي صلى الله عليه وسلم قال : " لو تمنوا الموت لشرق كلّ إنسان بريقه وما بقي على وجه الأرض يهودي إلاَّ مات " .

قوله : { إِنْ كَانَتْ لَكُمُ الدَّارُ الآخِرَةُ عِندَ اللَّهِ خَالِصَةً } شرط جوابه " فَتَمَنّوا " .

و " الدار " اسم " كان " وهي الجنة ، والأولى أن يقدّر حذف مضاف ، أي : نعيم الدار الآخرة ؛ لأن الدَّار الآخرة في الحقيقة هي انقضاء الدُّنيا ، وهي للفريقين . واختلفوا في خير " كان " على ثلاثة أقوال :

أحدها : أنه " خالصة " ، فيكون " عند " ظرف ل " خالصة " ، أو للاستقرار الذي في " لكم " ، ويجوز أن تكون حالاً من " الدار " ، والعامل فيه " كان " ، أو الاستقرار .

وأما " لكم " فيتعلق ب " كان " ؛ لأنها تعمل في الظرف وشبيهه .

قال أبو البقاء رحمه الله تعالى : ويجوز أن تكون للتبيين ، فيكون موضعها بعد " خالصة " أي : خالصة لكم فتتعلّق بنفس " خالصة " ، وهذا فيه نظر ؛ لأنه متى كانت للبيان تعلّقت بمحذوف تقديره : أعني لكم ، نحو : سُقْياً لك ، تقديره : أعني بهذا الدعاء لك ، وقد صرح غيره في هذا الموضع بأنها للبيان ، وأنها متعلّقة حينئذ بمحذوف كما تقدم ، ويجوز أن يكون صفة ل " خالصة " في الأصل قُدّمَ عليها فصار حالاً منها ، فيتعلّق بمحذوف .

الثاني : أن الخبر " لكم " فيتعلّق بمحذوف وينصب خالصة حينئذ على الحال ، والعامل فيها إما " كان " ، أو الاستقرار في " لكم " ، و " عند " منصوب بالاستقرار أيضاً .

الثالث : أن الخبر هو الظَّرف ، و " خالصة " حال أيضاً ، والعامل فيها إما " كان " أو الاستقرار ، وكذلك " لكم " ، وقد منع من هذا الوجه قَوْمٌ فقالوا : لا يجوز أن يكون الظرف خبراً ؛ لأن هذا الكلام لا يستقل .

وجوز ذلك المهدوي ، وابن عطية ، وأبو البقاء ، واستشعر أبو البقاء هذا الإشكال ، وأجاب عنه بأن قال : وسوغ أن يكون " عند " خبر " كان لكم " يعني لفظ " لكم " سوغ وقوع " عند " خبراً ، إذ كان فيه تخصيص وَتَبْيِينٌ ، ونظيره قوله : { وَلَمْ يَكُن لَّهُ كُفُواً أَحَدٌ } [ الإخلاص : 4 ] ، لولا " له " لم يصحّ أن يكون " كفواً " خبراً .

و { مِن دُونِ النَّاسِ } في محلّ نصب ب " خالصة " ؛ لأنك تقول : خَلُصَ كذا من كذا ، والمراد به سوى لا معنى المكان ، كما يقول القائل لمن وهب منه ملكاً : هذا لك دون النَّاس .

وقرأ الجمهور : " فتَمَنَّوُاْ المَوْتَ " بضم الواو ، ويروى عن أبي عمرو{[1499]} فتحها تخفيفاً واختلاس الضمة ، وقرأ ابن أبي{[1500]} إسحاق بكسرها على التقاء السَّاكنين تشبيهاً بواو { لَوِ اسْتَطَعْنَا } [ التوبة : 42 ] المراد بها عندية المنزلة .

قال ابن الخطيب : " ولا بعد أيضاً في حمله على [ المكان ] فلعل اليهود كانوا مشبّهة ، فاعتقدوا العِنْدِيَة المكانية " .

وقوله تعالى : " فتمنوا الموت " هذا أمر متعلّق على أمر مفقود ، وهو كونهم صادقين ، فلا يكون الأمر موجوداً ، أو الغرض إظهار كذبهم في دعواهم ، وفي هذا التمني قولان :

أحدهما : قول ابن عباس : إنهم أمروا بأن يَدْعُوَ الفريقان بالموت على الفرقة الكاذبة .

والثاني : أن يقولوا : ليتنا نموت وهذا أولى ؛ لأنه أقرب إلى موافقة اللفظ .

قال عليه الصلاة والسلام : " لَوْ تَمَنَّوا المَوْتَ لَغَصَّ كُلُّ إنْسَانٍ بِرِيقِهِ وَمَا بَقِيَ عَلَى وَجْهِ الأَرضِ يَهُودِيٌّ إلاَّ مَاتَ " وقال عليه الصلاة والسلام : " لَوْ أنَّ اليَهُودَ تَمَنَّوا المَوْتَ لماتُوا ورَأوا مَقَاعِدَهُمْ من النَّارِ وَلَوْ خَرَجَ الَّذِينَ يُبَاهِلُونَ [ رَسُولَ اللهِ صلى الله عليه وسلم ] ، لَرَجَعُوا لاَ يَجِدُونَ أَهْلاً وَلاَ مَالاً  " .

قوله تعالى : { إِن كُنتُمْ صَادِقِينَ } كقوله : { إِن كُنتُم مُّؤْمِنِينَ } [ البقرة : 91 ] .

فصل في سؤالات واردة

السؤال الأول : لعلّهم كانوا يعلمون أن نعم الآخرة عظيمة لا سبيل إليها إلاَّ بالموت ، والذي يتوقف عليه المطلوب يجب أن يكون مطلوباً لكونه وسيلةً إلى ذلك المطلوب ، إلاَّ أنه يكون مكروهاً نظراً إلى ذاته ، والموت مما لا يحصل إلا بالآلام العظيمة ، وما كانوا يطيقونها ، فلا جرم ما تمنوا الموت .

السؤال الثاني : أنه كان لهم أن يقلبوا هذا السؤال على محمد صلى الله عليه وسلم فيقولون إنّك تدَّعي أن الدار الآخرة خالصة لك ولأمتك دون من ينازعك في الأمر ، فإنْ كان الأمر كذلك فارْض بأن نقتلك ونقتل أمتك ، فإنَّا نراك ونرى أمتك في الضّر الشديد ، والبلاء العظيم بسبب الجدال والقتال ، وبعد الموت فإنكم تتخلّصون إلى نعيم الجنّة ، فوجب أن ترضوا بقتلكم .

السؤال الثالث : لعلّهم كانوا يقولون : الدار الآخرة خالصة لمن كان على دينهم ، لكن بشرط الاحتراز عن الكَبَائر ، فأما صاحب الكبيرة فإنه يبقى مخلداً في النار أبداً ؛ لأنهم كانوا وعدوا به ، أو لأنهم جوّزوا في صاحب الكبيرة أن يصير معذباً ، فلأجل هذا ما تمنّوا الموت ، وليس لأحد أن يدفع هذا السُّؤال بأن مذهبهم أنه لا تمسُّهم النار إلاَّ أياماً معدودة ؛ لأن كلّ يوم من أيام القيامة كألف سنة ، فكانت هذه الأيام ، وإن كانت قليلة بحسب العدد ، لكنها طويلة بحسب المدة ، فلا جَرَمَ ما تمنّوا الموت بسب الخوف .

السؤال الرابع : أنه عليه الصلاة والسَّلام نهى عن تمنّي الموت فقال : " لاَ يَتَمَنَّيَنَّ أَحَدُكُم المَوْتَ لِضُرٍّ نَزَلَ بِهِ وَلَكِنْ لِيَقُلْ : اللَّهُمَّ أَحْيِنِي إِنْ كَانَتِ الحَيَاةُ خَيْراً لِي وتَوَفَّنِي إِنْ كَانَتِ الوَفَاةُ خَيْراً لِي " وأيضاً قال تعالى في كتابه : { يَسْتَعْجِلُ بِهَا الَّذِينَ لاَ يُؤْمِنُونَ بِهَا وَالَّذِينَ آمَنُواْ مُشْفِقُونَ مِنْهَا } [ الشورى : 18 ] فكيف يجوز أن ينهى عن الاستعجال ، ثم إنه يتحدّى القوم بذلك ؟

السؤال الخامس : أنَّ لفظ التمني بين التمنّي الذي هو المعنى القائم بالقلب ، وبين اللفظ الدَّال على ذلك المعنى ، وهو قول القائل : ليتني متّ ، فلليهود أن يقولوا : إنك طلبت منا التمني ، والتمنّي لفظ مشترك ، فإن ذكرناه باللِّسان ، فله أن يقول : ما أردت به هذا اللَّفظ ، وإنما أردت به المعنى الذي في القَلْب ، وإن فعلنا ذلك المعنى القائم بالقَلْب ، فله أن يقول : كذبتم ما أتيتم بذلك في قلوبكم ، ولما علم اليهود أنه أتى بلفظة مشتركة لا يمكن الاعتراض عليها لا جرم لم يلتفتوا إليه .

السؤال السادس : هَبْ أن الدار الآخرة لو كانت لهم لوجب أن يتمنّوا الموت ، فلم قلتم : إنهم لم يتمنوا الموت ؟ والاستدلال بقوله تعالى : { وَلَنْ يَتَمَنَّوْهُ أَبَداً } ضعيف ؛ لأن الاستدلال بهذا إنما يصحّ لو ثبت كون القرآن حقًّا ، والنزاع ليس إلا فيه .

والجواب كون الموت متضمناً للآلام يكون كالصارف عن تمنّيه .

قلنا : كما أن الألم الحاصل عند الحِجَامَةِ لا يصرف عن الحِجَامَةِ للعلم الحاصل ؛ لأن المنفعة الحاصلة عن الحِجَامة عظيمة وجب أن يكون الأمر هاهنا كذلك .

وقوله : لو قلبوا الكلام على محمد لزمه أن يرضى بالقتل .

قلنا : الفرق بين محمد - عليه الصلاة والسلام وبينهم أن محمداً كان يقول : إني [ مبعوث ]{[1501]} لتبليغ الشَّرَائع إلى أهل التَّوَاتر ، وهذا المقصود لم يحصل بعد فلأجل هذا لا أرضى بالقَتْل ، وأما أنتم فلستم كذلك فظهر الفرق .

وقوله ثالثاً : كانوا خائفين من العقاب .

قلنا : القوم ادعوا أن الآخرة خالصة لهم ، وذلك يؤمنهم من الامتزاج .

وقوله رابعاً : نهي عن تمني الموت .

قلنا : هذا النهي طريقه الشرع ، فيجوز أن يختلف الحال فيه بحسب اختلاف الأوقات .

فصل في بيان متى يُتمنى الموت

روي أن عليًّا رضي الله عنه كان يطوف بين الصَّفَّيْن في [ غِلالَة ]{[1502]} ، فقال له ابنه الحسن رضي الله عنه ما هذا بِزِيِّ المحاربين ، فقال : يا بنيَّ ، لا يبالي أبوك أعلى المَوْتِ سقط أم عليه [ بسقط ] .

وقال عمار رضي الله عنه ب " صفين " : [ الرجز ]

672- الآنَ أُلاَقِي الأَحِبَّهْ *** مُحَمداً وَحِزْبَهْ{[1503]}

وقد ظهر عن الأنبياء في كثير من الحالات تمنّي الموت على أن هذا النهي مختصّ بسبب مخصوص ، فإنه عليه الصلاة والسلام حَرّم أن يتمنّى الإنسان الموت عند الشَّدائد ؛ لأن ذلك كالجزع والخروج عن الرضا بما قسم الله تعالى فأين هذا مما نحن فيه ؟

وقولهم خامساً : " إنهم ما عرفوا المراد التمنّي باللسان أم بالقلب ؟ " .

قلنا : التمني في لغة العرب لا يعرف إلا بما يظهر بالقول ، كما أن الخبر لا يعرف إلاَّ بما يظهر بالقول ، ومن المحال أن يقول عليه الصلاة والسلام : " تَمَنَّوا المَوْتَ " ، ويريد بذلك [ ما لا يمكن الوقوف عليه ] ، مع أن الغرض بذلك لا يتمّ إلاَّ بظهوره .

وقوله سادساً : ما الدليل على أنه ما وجد التمنّي ؟ قلنا من وجوه :

أحدها : لو حصل ذلك لنقل نقلاً متواتراً ؛ لأنه أمر عظيم ، فإنه بتقدير عدمه يثبت القول بصحّة نبوة محمد صلى الله عليه وسلم وبتقدير حصول هذا التمنّي يبطل القول بنبوّته ، وما كان كذلك كان من الوقائع العظيمة ، فوجب أن ينقل نقلاً متواتراً ، ولما لم ينقل علمنا أنه لم يوجد .

وثانيها : أنه عليه الصلاة والسلام مع تقدّمه في الرأي والحزم ، وحسن النَّظر في العاقبة ، والوصول إلى الرياسة العظيمة التي انْقَادَ لها المخالف قَهْراً والموافق طَوْعاً ، لا يجوز وهو غير واثقٍ من جهة رَبّه بالوحي النازل عليه أن يتحدَّاهم بأمر لا يأمن عاقبة الحال فيه ، ولا يأمن من خصمه أن يقهره بالدليل والحجّة ؛ لأن العاقل الذي لم [ يعرف ]{[1504]} الأمور لم يرض بذلك ، فكيف الحال في أعقل العقلاء ؟ فثبت أنه عليه الصلاة والسلام ما أَقْدَمَ على هذه الأدلة إلا بوحي من الله تعالى إليه بأنهم لا يتمنونه .

وثالثها : ما روى ابن عباس رضي الله عنه أنه عليه الصلاة والسلام قال : " لَوْ تَمَنَّوا المَوْتَ لَشَرِقُوا بهِ وَلَمَاتُوا " وقد نطق القرآن بذلك في قوله : { وَلَنْ يَتَمَنَّوْهُ أَبَداً } أي : ولو تمنّوه بقلوبهم لأظهروه بألسنتهم ردًّا على النبي صلى الله عليه وسلم وإبطالاً لحجّته . والحديثان المتقدّمان ، وبالجملة الأخبار الواردة في أنهم ما تمنوا الموت بلغت مبلغ التواتر .


[1498]:- في : عذاب.
[1499]:- حكاه عنه الأهوازي. انظر المحرر الوجيز: 1/181، والبحر المحيط: 1/478، والدر المصون: 1/307.
[1500]:- انظر السابق.
[1501]:- في ب: بعثت.
[1502]:- في أ: غلالته.
[1503]:- ينظر الفخر الرازي: 3/160، الكشاف: 1/297.
[1504]:- في أ: يعرف.