اللباب في علوم الكتاب لابن عادل - ابن عادل  
{أَوَكُلَّمَا عَٰهَدُواْ عَهۡدٗا نَّبَذَهُۥ فَرِيقٞ مِّنۡهُمۚ بَلۡ أَكۡثَرُهُمۡ لَا يُؤۡمِنُونَ} (100)

الجمهور على تحريك واو " أَوَ كلما " ، واختلف النحويون في ذلك على ثلاثة أقوال :

فقال الأخفش : إن الهمزة للاستفهام ، والواو زائدة ، وهذا على رأيه في جواز زيادتها .

وقال الكسائي هي " أو " العاطفة التي بمعنى " بل " ، وإنما حركت الواو .

ويؤيده قراءة من قرأها ساكنة .

وقال البصريون : هي واو العطف قدمت عليها همزة الاستفهام على ما عرف .

قال القرطبي : كما دخلت همزة الاستفهام على " الفاء " في قوله : { أَفَحُكْمَ الْجَاهِلِيَّةِ } [ المائدة : 50 ] ، { أَفَأَنتَ تُسْمِعُ الصُّمَّ } [ يونس : 42 ] ،

{ أَفَتَتَّخِذُونَهُ وَذُرِّيَّتَهُ } [ الكهف : 50 ] .

وعلى " ثم " كقوله : { أَثُمَّ إِذَا مَا } .

وقد تقدم أن الزمخشري يقدر بين الهمزة وحرف العطف شيئاً يعطف عليه ما بعده ، لذلك قدره هُنَا : أكفروا بالآيات البينات ، وكلما عاهدوا .

وقرأ أبو السّمَال العدوي{[1543]} : " أوْ كلما " ساكنة الواو ، وفيها ثلاثة أقوال : فقال الزمخشري : إنها عاطفة على " الفاسقين " ، وقدره بمعنى إلا الذين فسقوا أو نقضوا ، يعني به : أنه عطف الفعل على الاسم ؛ لأنه في تأويله كقوله : { إِنَّ الْمُصَّدِّقِينَ وَالْمُصَّدِّقَاتِ وَأَقْرَضُواْ } [ الحديد : 18 ] أي : الذين اصَّدَّقُوا وأقرضوا .

وفي هذا كلام يأتي في سورته إن شاء الله تعالى .

وقال المهدوي : " أو " لانقطاع الكلام بمنزلة " أم " المنقطعة ، يعني أنها بمعنى " بل " ، وهذا رأى الكوفيين ، وقد تقدم تحريره وما استدلّوا به من قوله :

[ الطويل ]

687- . . . *** أَوْ أَنْتَ فِي الْعَيْنِ أَمْلَحُ{[1544]}

في أول السورة .

وقال بعضهم : هي بمعنى " الواو " فتتفق القراءتان ، وقد وردت " أو " بمنزلة " الواو " كقوله : [ الكامل ]

688- . . . *** مَا بَيْنَ مُلْجِمِ مُهْرِهِ أَوْ سَافِعِ{[1545]}

{ خَطِيئَةً أَوْ إِثْماً } [ النساء : 112 ] { آثِماً أَوْ كَفُوراً } [ الإنسان : 24 ] فلتكن [ هنا ]{[1546]} كذلك ، وهذا أيضاً رأي الكوفيين .

والناصب ل " كلّما " بعده ، وقد تقدم تحقيق القول فيها ، وانتصاب " عَهْداً " على أحد وجهين : إما على المصدر الجاري على غير الصدر وكان الأصل : " مُعَاهَدَة " أو على المفعول به على أن يضمن عاهدوا معنى " أَعْطوْا " ويكون المفعول الأول محذوفاً ، والتقدير : عاهدوا الله عَهْداً .

وقرئ{[1547]} : " عَهِدُوا " فيكون " عَهْداً " مصدراً جارياً على صدره .

وقرئ أيضاً{[1548]} : " عُوهِدُوا " مبنياً للمفعول .

قال ابن الخطيب : المقصود من هذا الاستفهام ، الإنكار ، وإعظام ما يقدمون عليه ، ودلّ قوله : " أو كلما عاهدوا " على عهد بعد عهد نقضوه ونبذوه ، ويدل على أن ذلك كالعادة فيهم ، فكأنه تعالى أراد تسلية الرسول عليه الصلاة والسلام عن كفرهم بما أنزل عليه من الآيات بأن ذلك ليس ببدع منهم ، بل هو سجيّتهم وعادتهم ، وعادة سَلَفهم على ما بيّنه فيما تقدم من نَقْضهم العهود والمواثيق حالاً بعد حال ؛ لأن من يعتاد منه هذه الطريقة ، فلا يصعب على النفس مُخَالفته كصعوبة مَنْ لم تَجْرِ عادته بذلك . وفي العهد وجوه :

أحدها : أن الله تعالى لما أظهر الدَّلائل الدَّالة على نبوة محمد صلى الله عليه وسلم وعلى صحّة شرعه كان ذلك كالعهد منه سبحانه وتعالى وقبولهم لتلك الدلائل كالمعاهدة منهم لله سبحانه وتعالى .

وثانيها : قولهم قبل مبعثه : لئن خرج النبي لنؤمنن به ، ولنخرجن المشركين من ديارهم [ قال ابن عباس : لما ذكرهم رسول الله صلى الله عليه وسلم ما أخذ الله تعالى عليهم ، وعهد إليهم في مُحَمّد أن يؤمنوا به قال مالك بن الصيف : والله ما عهد إلينا في محمد عهد فنزلت هذه .

قال القرطبي{[1549]} : ويقال فيه : " ابن الصّيف " ويقال : " ابن الضَّيْف " ] .

وثالثها : أنهم كانوا يعاهدون الله كثيراً وينقضونه .

ورابعها : قال عطاء : إن اليهود كَانُوا قد عاهدوه على ألاَّ يعينوا عليه أحداً من الكافرين ، فنقضوا ذلك ، وأعانوا عليه قريشاً يوم " الخندق " [ ودليله قوله تعالى : { الَّذِينَ عَاهَدتَّ مِنْهُمْ ثُمَّ يَنقُضُونَ عَهْدَهُمْ }{[1550]} إنما قال : { نَبَذَهُ فَرِيقٌ مِنْهُم } لأن في جملة من عاهد من آمن ، أو يجوز أن يؤمن ، فلما لم يكن ذلك صفة جميعهم خص الفريق بالذكر ، ثم لما كان يجوز أن يظن أن ذلك الفريق هم الأقلّون بين أنهم الأكثر فقال : { بَلْ أَكْثَرُهُمْ لاَ يُؤْمِنُونَ } وفيه قولان :

الأول : أن أكثر أولئك الفسّاق لا يصدقون بك أبداً لحسدهم وبغيهم .

[ والثاني : لا يؤمنون ]{[1551]} أي : لا يصدقون بكتابهم ، لأنهم في قومهم كالمُنَافقين مع الرسول عليه الصلاة والسلام يظهرون لهم الإيمان بكتابهم ورسولهم ، ثم لا يعملون بموجبه ومقتضاه .

قوله تعالى : { بَلْ أَكْثَرُهُمْ لاَ يُؤْمِنُونَ } فيه قولان :

أحدهما : أنه من باب عَطْف الجمل ، وتكون " بل " لإضراب الانتقال لا الإبطال ، وقد [ علم ]{[1552]} أن " بل " لا تسمَّى عاطفة حقيقية إلا في المفردات .

الثاني : أنه يكون من عطف المفردات ، ويكون " أكثرهم " معطوفاً على " فريق " ، و " لاَ يُؤْمِنُونَ " جملة في محلّ نصب على الحال من " أكثرهم " .

وقال ابن عطيَّة : من الضمير في " أكثرهم " ، وهذا الذي قاله جائز ، لا يقال : إنها حال من المضاف إليه ؛ لأن المضاف جزء من المضاف إليه ، وذلك جائز .

وفائدة هذا الإضراب ما تقدم ذكره آنفاً .

والنَّبْذُ : الطرح ومنه النَّبِيذ والمَنْبُوذ ، وهو حقيقة في الأجْرَام وإسناده إلى العَهْد مَجَاز .

وقال بعضهم : النَّبْذ والطَّرْح والإلقاء متقاربة ، إلاّ أن النبذ أكثر ما يقال فيما يبس والطَّرح أكثر ما يُقال في المبسوط والجاري مجراه ، والإلقاء فيما يعتبر فيه مُلاَقاة بين شيئين ؛ ومن مجيء النبذ بمعنى الطَّرْح قوله : [ الكامل ]

689- إِنَّ الَّذِينَ أَمَرتَهُمْ أَنْ يَعْدِلُوا *** نَبَذُوا كِتابَكَ وَاسْتَحَلُّوا الْمَحْرَما{[1553]}

وقال أبو الأسود : [ الطويل ]

690- وَخَبَّرَنِي مَنْ كُنْتُ أَرْسَلْتُ أَنَّما *** أَخَذْتَ كِتَابِي مُعْرضاً بشِمَالِكا

نَظَرْتَ إِلَى عُنْوَانِهِ فَنبَذْتَهُ *** كَنَبْذِكَ نَعْلاً أَخْلَقَتْ مِنْ نِعَالِكَا{[1554]}


[1543]:- انظر الشواذ: 16، والمحرر الوجيز: 1/185، والبحر المحيط: 1/492، والدر المصون: 1/316.
[1544]:- تقدم برقم 227.
[1545]:- عجز بيت لحميد بن ثور صدره: قوم إذا سمعوا الصريخ رأيتهم ينظر شواهد المغني: 1/63، العيني: 4/146، اللسان (سفع)، شرح التصريح: 2/146، شرح الأشموني: 3/107، الدر المصون: 1/317.
[1546]:- في ب: هذه القراءة.
[1547]:- انظر المحرر الوجيز: 1/185، والبحر المحيط: 1/493، والدر المصون: 1/317.
[1548]:- قرأ بها الحسن وأبو رجاء. انظر المحرر الوجيز: 1/185، والبحر المحيط: 1/492، والدر المصون: 1/317، وإتحاف فضلاء البشر: 1/410.
[1549]:- ينظر تفسير القرطبي: 2/28.
[1550]:- سقط في ب.
[1551]:- سقط في أ.
[1552]:- في ب: عرفت.
[1553]:- ينظر القرطبي: 2/29، تفسير القرطبي: 2/401، معاني القرآن للزجاج: 1/158، مجمع البيان: 1/379، الدر المصون: 1/318.
[1554]:- ينظر ديوانه: (49)، القرطبي: 2/29، الدر المصون: 1/318.