اللباب في علوم الكتاب لابن عادل - ابن عادل  
{وَلَن يَتَمَنَّوۡهُ أَبَدَۢا بِمَا قَدَّمَتۡ أَيۡدِيهِمۡۚ وَٱللَّهُ عَلِيمُۢ بِٱلظَّـٰلِمِينَ} (95)

قوله : " وَلَنْ يَتَمَنَّوْهُ " خبر قاطع عن أنّ ذلك لا يقع في المستقبل ، وهذا إخبار عن الغيب ؛ لأن من توفّر الدواعي على تكذيب محمد صلى الله عليه وسلم وسهولة الإتيان بهذه الكلمة أخبر أنهم لا يأتون بذلك ، فهذا إخبار جازم عن أمر قامت الأمارات على ضدّه ، فلا يمكن الوصول إليه إلا بالوحي .

قوله : " أبداً " منصوب ب " يتمنّوه " ، وهو ظرف زمان يقع للقليل والكثير ، ماضياً كان أو مستقبلاً .

قال القرطبي : كالحين والوقت ، وهو هاهنا من أول العمر إلى الموت تقول : ما فعلته أبداً .

وقال الراغب هو عبارة عن مدّة الزمان الممتد الذي لا يتجزأ كما يتجزأ الزمان ، وذلك أنه يقال : زمان كذا ، ولا يقال : أبدُ كذا ، وكان من حقّه على هذا أَلاَّ يثنى ولا يجمع ، وقد قالوا : آباد ، فجمعوه لاختلاف أنواعه .

وقيل : آباد لغة مولّدة ، ومجيئه بعد " لن " يدلّ على أن نفيها لا يقتضي التأبيد ، وقد تقدم غير ذلك ، ودعوى التأكيد فيه بعيدة .

فصل في بيان أن بالآية غيبين

واعلم أن هذا إخبار عن غيب آخر ، لأنه أخبر أن ذلك لا يوجد في شيء من الأزمنة ، ولا شك أن الإخبار عن عدمه بالنسبة إلى عموم الأوقات{[8]} فهما غَيْبان ، وقال هنا : { وَلَنْ يَتَمَنَّوْهُ } [ البقرة : 95 ] فنفى ب " لن " ، وفي الجمعة ب " لا " [ قال صاحب " المنتخب " : ] وذلك لأن دعواهم هنا أعظم من دعواهم هناك ؟ لأن السعادة القُصْوَى فوق مرتبة الولاية ؛ لأن الثانية تراد لحصول الأولى ، فإنهم ادعوا هنا أنَّ الدار الآخرة خالصة لهم من دون الناس ، وادعوا في سورة " الجمعة " أنهم أولياء لله من دون النَّاس ، والسعادة القصوى هي الحصول في دار الثواب ؛ ومرتبة الولاية وإن كانت شريفةً إلا أنها لا تراد ليتوسّل بها إلى الجنة ، فلما كانت الأولى أعظم لا جَرَمَ ورد النفي ب " لن " ؛ لأنه أبلغ من النفي ب " لا " .

قوله : { بما قَدَّمَتْ أيديهم } بيان للعلّة التي لها لا يتمنّون ؛ لأنهم إذا علموا سوء طرقهم وكثرة ذنوبهم دعاهم ذلك إلى عدم تمنّي الموت ، وهذه الجملة متعلّقة ب " يتمنّوه " ، والباء للسببية ، أي : بسبب اجْتِرَاحِهِم العظائم ، و " أيديهم " في محلّ رفع حذفت الضمة من الباء لثقلها مع الكسرة .

و " ما " يجوز فيها ثلاثة أوجه :

أظهرها : كونها موصولةً بمعنى " الذي " .

والثاني : نكرة موصوفة ، والعائد على كلا القولين محذوف ، أي : بما قدّمته ، فالجملة لا محلّ لها على الأولى ، ومحلّها الجر على الثاني .

والثالث : أنها مصدرية أي : بِتَقْدِمَةِ أيديهم .

ومفعول " قدمت " محذوف أي : بما قدمت أيديهم الشَّر ، أو التبديل ونحوه .

قوله : { وَاللَّهُ عَلِيمٌ بِالظَّالِمينَ } ابتداء وخبر ، وهذا كالزَّجْر والتهديد ؛ لأنه إذا كان عالماً بالسر والنجوى لا يخفى عليه شيء صار ذلك من أعظم الصَّوَارف للمكلّف عن المعاصي ، وإنما ذكر الظالمين ؛ لأن كلّ كافر ظالم ، وليس كلّ ظالم كافراً ، فذكر الأعم ؛ لأنه أولى بالذكر .


[8]:ينظر: تفسير القرطبي (20/93).