قوله : { وَاتَّبَعُواْ مَا تَتْلُواْ الشَّيَاطِينُ } : هذه الجملة معطوفة على مجموع الجملة السابقة من قوله : " ولما جاءهم " إلى آخرها .
وقال أبو البقاء : إنها معطوفة على " أشربوا " أو على " نبذ فريق " ، وهذا ليس بظاهر ؛ لأن عطفها على " نبذ " يقتضي كونها جواباً لقوله تعالى :
{ وَلَمَّا جَاءَهُمْ رَسُولٌ } .
واتِّباعُهُم لما تتلو الشياطين ليس مترتباً على مجيء الرسول - عليه الصَّلاة والسَّلام بل كان اتباعهم لذلك قبله ، فالأولى أن تكون معطوفة على جملة " لما " كما تقدم ، و " ما " موصولة ، وعائدها محذوف ، والتقدير : تتلوه .
وقيل : " ما " نافية ، وهو غلط فاحش لا يقتضيه نظم الكلام ، [ ذكره ] ابن العربي .
و { يتلو } في معنى " تلت " فهو مضارع واقع موقع الماضي ؛ كقوله : [ الكامل ]
692- وَإِذَا مَرَرْتَ بِقَبْرِهِ فَاعْقِرْ بِهِ *** كُومَ الهِجَانِ وَكُلَّ طَرْفٍ سَابِحِ
وانْضَحْ جَوَانِبَ قَبْرهِ بِدِمَائِهَا *** فَلَقَدْ يَكُونُ أَخَا دَمٍ وَذَبَائِحِ{[1559]}
وقال الكوفيون : الأصل : وما كانت تتلو الشياطين ، ولا يريدون بذلك أن صلة " ما " محذوفة ، وهي " كانت " و " تتلو " في موضع الخبر ، وإنما قصدوا تفسير المعنى ، وهو نظير : " كان زيد يقوم " المعنى على الإخبار ، وبقيامه في الزمن الماضي ، وقرأ الحسن{[1560]} والضحاك " الشياطون " إجراء له مجرى جمع السَّلامة ، قالوا : وهو غلط . وقال بعضهم : لحن فاحش .
وحكى الأصمعي " بُسْتَانُ فُلاَنٍ حَوْلَهُ بساتون " وهو يقوي قراءة الحسن .
قوله تعالى : { عَلَى مُلْكِ سُلَيْمَانَ } فيه قولان :
أحدهما : أنه على معنى " في " ، أي : في زمن ملكه ، والمُلْكُ هنا شَرْعه .
والثاني : أن يضمن تتلو معنى تَتقوَّل أي : تتقول على ملك سليمان ، وتَقَوَّل يتعدى بعلى ، قال تعالى : { وَلَوْ تَقَوَّلَ عَلَيْنَا بَعْضَ الأَقَاوِيلِ } .
وهذا الثاني أولى ، فإن التجوّز في الأفعال أولى من التجوّز في الحروف ، وهو مذهب البصْريين كما تقدم وإنما أحْوَجَ إلى هذين التأويلين ؛ لأن تلا إذا تعدَّى ب " على " كان المجرور ب " على " شيئاً يصحّ أن يتلى عليه نحو : تلوت على زيد القرآن ، والملك ليس كذلك .
قال أبو مسلم : " تتلو " أي : تكذب على ملك سليمان يقال : تلا عليه : إذا كذب وتلا عنه إذا صدق . وإذا أبهم جاز الأمران .
قال ابن الخطيب{[1561]} : أي يكون الذي كانوا يخبرون به عن سليمان مما يتلى ويقرأ فيجتمع فيه كل الأوصاف ، والتلاوة : الاتباع أو القراءة وهو قريب منه .
قال أبو العباس المقرئ : و " على " ترد على ثلاثة أوجه :
الأول : بمعنى " في " كهذه الآية .
وبمعنى " اللام " ، قال تعالى : { ثُمَّ آتَيْنَا مُوسَى الْكِتَابَ تَمَاماً عَلَى الَّذِي أَحْسَنَ } [ الأنعام : 154 ] أي : للذي .
وبمعنى " من " ، قال تعالى : { الَّذِينَ إِذَا اكْتَالُواْ عَلَى النَّاسِ يَسْتَوْفُونَ }
[ المطففين : 2 ] أي : من الناس يستوفون .
و { سليمان } علم أعجمي ، فلذلك لم ينصرف .
وقال أبو البقاء رحمه الله تعالى : " وفيه ثلاثة أسباب : العُجْمة والتَّعريف والألف والنون " ، وهذا إنما يثبت بعد دخول الاشتقاق فيه ، والتصريف حتى تعرف زيادتها ، وقد تقدَّم أنهما لا يَدْخُلان في الأسماء الأعجميّة ، وكرر قوله : { وَمَا كَفَرَ سُلَيْمَانُ } بذكره ظاهراً ؛ تفْخِيماً له ، وتعظيماً ؛ كقوله : [ الخفيف ]
693- لا أَرَى المَوْتَ يَسْبِقُ المَوْتَ شَيْءٌ *** . . . {[1562]}
فصل في المراد بقوله تعالى : { واتبعوا } .
المراد بقوله : { وَاتَّبَعُوا } هم اليهود .
فقيل : هم الذين كانوا في زمن محمد عليه الصلاة والسلام .
وقيل : هم الذين كانوا في زمن سليمان صلى الله عليه وسلم من السَّحَرة ؛ لأن أكثر اليهود ينكرون نبوّة سليمان عليه الصلاة والسلام ويعدونه من جُمْلة الملوك في الدنيا ، وهؤلاء ربما اعتقدوا فيه أنه إنما وجد الملك العظيم بسبب السحر .
وقيل : إنه يتناول الكل وهو أولى .
قال السّدي : لما جاءهم محمد عليه الصلاة والسلام عارضوه بالتوراة فخاصموه بها ، فاتفقت التوراة والفرقان ، فنبذوا التوراة ، وأخذوا بكتاب " آصف " وسِحْر " هاروت وماروت " فلم يوافق القرآن ، فهذا هو قوله تعالى : { وَلَمَّا جَاءَهُمْ رَسُولٌ مِّنْ عِندِ اللَّهِ مُصَدِّقٌ لِّمَا مَعَهُمْ نَبَذَ فَرِيقٌ مِّنَ الَّذِينَ أُوتُواْ الْكِتَابَ كِتَابَ اللَّهِ وَرَاءَ ظُهُورِهِمْ كَأَنَّهُمْ لاَ يَعْلَمُونَ وَاتَّبَعُواْ مَا تَتْلُواْ الشَّيَاطِينُ عَلَى مُلْكِ سُلَيْمَانَ } أخبر عنهم بأنهم اتبعوا كتب السّحر .
واختلفوا في المراد من الشياطين .
فقال المتكلمون من المعتزلة : هم شياطينُ الإنس ، وهم المتمرِّدون في الضلال ؛ كقول جرير : [ البسيط ]
694- أَيَّامَ يَدْعُونَنِي الشَّيْطَانُ مِنْ غَزَلِي *** وَكُنَّ يَهْوَيْنَنِي إِذْ كُنْتُ شَيْطَانَا{[1563]}
وقيل : هم شياطين الإنس والجن .
قال السدي : إن الشياطين كانوا يسترقون السَّمع ، ثم يضمون إلى ما سمعوا أكاذيب يلقونها إلى الكَهَنَةِ ، وقد دوّنوها في كتب يقرءونها ويعلمونها الناس ، وفشا ذلك في زمن سليمان عليه الصلاة والسلام وقالوا : إن الجنّ تعلم الغيب ، وكانوا يقولون : هذا علم سليمان ، وما تم له ملكه إلاَّ بهذا العلم ، سخّر الجن والإنس [ والطير ] والريح التي تجري بأمره{[1564]} .
وأما القائلون بأنهم شياطين الإنس فقالوا : روي أن سليمان عليه الصلاة والسلام كان قد دفن كثيراً من العلوم التي خصّه الله تعالى بها تحت سرير ملكه حرصاً على أنه إن هلك الظَّاهر منها يبقى ذلك المدفون ، فلما مضت مدة على ذلك توصل قوم من المنافقين إلى أن كتبوا في خلال ذلك أشياء من السِّحْر تناسب تلك الأشياء من بعض الوجوه ، ثم بعد موته واطّلاع الناس على تلك الكتب أوهموا الناس أنه من عمل سليمان ، وأنه ما وصل إلى ما وصل إليه إلاّ بسبب هذه الأشياء .
فصل في الباعث على نسبتهم السحر لسليمان
إنما أضافوا السِّحْر إلى سليمان عليه الصلاة والسلام لوجوه :
أحدها : أضافوه تفخيماً لشأنه ، وتعظيماً لأمره ، وترغيباً للقوم في قبول ذلك منهم .
وثانيها : أن اليهود كانوا يقولون : إن سليمان إنما وجد ذلك الملك بسبب السّحر .
وثالثها : أنه تعالى لما سخر الجن لسليمان ، فكان يخالطهم ، ويستفيد منهم أسراراً عجيبة غلب على الظنون أنه عليه الصلاة والسلام استفاد السحر منهم فقوله تعالى : { وَمَا كَفَرَ سُلَيْمَانُ } تنزيه له عليه الصلاة والسلام عن الكفر ، وذلك يدلّ على أن القوم نسبوه إلى الكُفْرِ والسحر ، فروي عن بعض أَحْبَار اليهود أنهم قالوا : ألا تعجبون من محمد عليه الصَّلاة والسَّلام يزعم أن سليمان كان نبياً وما كان إلا ساحراً ، فأنزل الله تعالى هذه الآية ، وروي أن السَّحرة من اليهود زعموا أنهم أخذوا السحر عن سليمان ، فبرأه الله تعالى من ذلك ، وبين أن الذي برأه الله منه لاصق بغيره ، وهو قوله تعالى : " وَلَكِنَّ الشَّيَاطِينَ " .
هذه الواو عاطفة جملة الاستدراك على ما قبلها .
وقرأ ابن عامر{[1565]} ، والكسائي وحمزة بتخفيف " لكن " ورفع ما بعدها ، والباقون بالتشديد ، والنصب وهو واضح .
وأما القراءة الأولى ، فتكون " لكن " مخففة من الثقيلة جيء بها لمجرّد الاستدراك ، وإذا خففت لم تعمل عند الجمهور ونُقِل جواز ذلك عن يونس
[ والأخفش . وهل تكون عاطفة ؟ الجمهور على أنها تكون عاطفة إذا لم يكن معها " الواو " ، وكان ما بعدها مفرداً وذهب يونس ]{[1566]} إلاَّ أنها لا تكون عاطفةً وهو قوي ، فإنه لم يسمع في لسانهم : ما قام زيد لكن عمرو ، وإن وجد ذلك في كتب النحاة{[1567]} فمن تمثيلاتهم ، ولذلك لم يمثل بها سيبويه رحمه الله إلا مع الواو وهذا يدل على نفيه .
وأما إذا وقعت بعدها الجمل فتارة تقترن بالواو ، وتارة لا تقترن .
695- إنَّ ابْنَ وَرْقَاءَ لاَ تُخْشَى بَوَادِرُهُ *** لَكِنْ وَقَائِعُهُ في الحَرْبِ تُنتَظَرُ{[1568]}
وقال الكسائي والفراء : الاختيار تشديدها إذا كان قبلها " واو " وتخفيفها إذا لم يكن ، وهذا جنوح منهما إلى القول بكونها حرف عَطْف ، وأبعد من زعم أنها مركّبة من ثلاث كلمات : لا النافية ، وكاف الخطاب ، وإن التي للإثبات ، وإنما حذفت الهمزة تخفيفاً .
قوله : { يُعَلِّمُونَ النَّاسَ السِّحْرَ } " الناس " مفعول أول ، و " السِّحْر " مفعول ثان ، واختلفوا في هذه الجملة على خمسة أقوال :
أحدها : أنها حال من فاعل " كفروا " أي مُعَلِّمين .
الثاني : أنها حال من الشياطين ، وردّه أبو البقاء رحمه الله تعالى بأن " لكن " لا تعمل في الحال ، وليس بشيء فإن " لكن " فيها رائحة الفعل .
الثالث : أنها في محلّ رفع على أنها خبر ثان للشياطين .
الرابع : أنها بَدَلٌ من " كفروا " أبدل الفعل من الفعل .
الخامس : أنها استئنافية ، أَخْبر عنهم بذلك ، هذا إذا أعدنا الضمير من " يعملون " على الشَّيَاطين .
أما إذا أعدناه على " الذين اتَّبَعُوا ما تتلوا الشَّياطين " فتكون حالاً من فاعل " اتبعوا " ، أو استئنافية فقط .
والسِّحْر : كلّ ما لَطف ودَقَّ سِحْرُهُ ، إذا أَبْدَى له أمراً يدقُّ عليه ويخفى .
696- . . . *** أَدَاءٌ عَرَانِي مِنْ حُبَابِكِ أمْ سِحْرُ{[1569]}
ويقال : سَحَرَهُ : أي خَدَعَهُ وعلَّله ؛ قال امرؤ القيس : [ الوافر ]
697- أَرَانَا مُوضِعِينَ لأَمْرٍ غَيْبٍ *** ونُسْحَرُ بِالطَّعَامِ وبِالشَّرَابِ{[1570]}
أي : نُعَلَّلُ ، وهو في الأصل : مصدر يقال : سَحَرَهُ سِحْراً ، ولم يجئ مصدر ل " فَعَلَ " يَفْعَلُ على فِعْلٍ إلا سِحْراً وَفِعْلاً .
والسَّحر بالنصب هو الغذاء لخفائه ولطف مَجَاريه ، والسّحر هو الرئة وما تعلق بالحُلْقُوم [ ومنه قول عائشة رضي الله عنها توفي رسول الله صلى الله عليه وسلم بين سحري ونحري ] {[1571]}وهذا أيضاً يرجع إلى معنى الخفاء .
ومنه قوله تعالى : { إِنَّمَا أَنتَ مِنَ الْمُسَحَّرِينَ } [ الشعراء : 153 ] يعني من المخلوقين الذي يطعم ويشرب بدليل قولهم : { مَا أَنتَ إِلاَّ بَشَرٌ مِّثْلُنَا }
[ الشعراء : 154 ] ، ويحتمل أنه ذو سحر مثلنا .
وقال تعالى : { فَلَمَّا أَلْقُوْاْ سَحَرُواْ أَعْيُنَ النَّاسِ وَاسْتَرْهَبُوهُمْ } [ الأعراف : 116 ] .
وقال تعالى : { وَلاَ يُفْلِحُ السَّاحِرُ حَيْثُ أَتَى } ، والسّحر في عرف الشرع مختصّ بكل أمر يخفى سببه ، ويتخيل على غير حقيقته ، ويجري مجرى التَّمويه والخداع ، وهو عند الإطلاق يذم فاعله ، ويستعمل مقيداً فيما يمدح وينفع ، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم " إنَّ مِنَ البَيَانِ لَسِحْراً " .
فسمى النبي صلى الله عليه وسلم بعض البيان سحراً ؛ لأن صاحبه يوضح الشيء المشكل ، ويكشف عن حقيقته بحسن بيانه ، وبليغ عبارته ، فعلى [ هذا ] يكون قوله عليه الصلاة والسلام : " إنَّ مِنَ البَيَانِ لَسِحْراً " خرج مخرج المدح .
وقال جماعة من أهل العلم : خرج مخرج الذم للبلاغة والفصاحة ، إذ شبهها بالسّحر يدلّ عليه قوله عليه الصلاة والسلام : " فَلَعَلَّ بَعْضَكُمْ أَنْ يَكُونَ أَلْحَنَ بِحُجّتِهِ مِنْ بَعْضٍ " .
وقوله عليه الصلاة والسلام : " إنَّ أَبْغَضَكُمْ إلَيَّ الثَّرْثَارُونَ المُتَفَيْهِقُونَ " .
[ الثرثرة : كثرة الكلام وتردده ، يقال : ثرثر الرجل فهو ثَرْثار مِهْذَار والمتفيهق نحوه ]{[1572]} قال ابن دريد : فلان يتفيهق في كلامه إذا توسّع وتنطّع ، قال : " وأصله الفَهْقُ ، وهو الامتلاء كأنه ملأ به فمه " .
قال القرطبي رحمه الله تعالى : وبهذا المعنى الذي ذكرناه فسره عامر الشعبي راوي الحديث وصعصعة بن صوحان ، فقالا : أما قوله صلى الله عليه وسلم : " إنَّ مِنَ البَيَانِ لَسِحْراً " ، فالرجل عليه الحق وهو ألحن بالحُجَج من صاحب الحقّ [ فيسحر ] القوم ببيانه ، فيذهب بالحق ، وهو عليه ، وإنما يحمد العلماء البلاغة واللسان ما لم تخرج إلى حدّ الإسهاب والإطناب ، وتصوير الباطل في صورة الحق .
فإن قيل : كيف يجوز أن يسمى ما يوضح إظهار الحقّ سِحْراً ، وهو إنما قصد إظهار الخفي لا إخفاء الظاهر ، ولفظ السحر إنما يفيد الظاهر ؟
فالجواب : إنما سمي السّحر سحراً لوجهين :
الأول : أن ذلك القَدْر لِلُطْفه وحسنه استمال القلوب ، فأشبه السّحر الذي يستميل القلوب من هذا الوجه .
الثاني : أنَّ القادر على البيان يكون قادراً على تحسين ما يكون قبيحاً ، وتقبيح ما يكون حسناً فأشبه السحر من هذا الوجه .
قال بعض العلماء : إن السِّحر تخيُّل لا حقيقة له ، لقوله تعالى : { يُخَيَّلُ إِلَيْهِ مِن سِحْرِهِمْ أَنَّهَا تَسْعَى } [ طه : 66 ] .
وقيل : إنه حقيقة ؛ لأنَّ النبي صلى الله عليه وسلم سحره لبيد بن الأعصم فإن السحر أخرج من بئر ، وحلت عقوده ، وكلما انحلت عقدة خفَّ عنه عليه السلام إلى أن سار كما نشط من عقال .
وذهب ابن عمر إلى " خيبر " ليخرص ثمرها فسحره بعض اليهود فانكشفت يده ، فأجلاهم عمر رضي الله تعالى عنه وجاءت امرأة لعائشة رضي الله عنها فقالت : يا أم المؤمنين ما على المرأة إذا عقلت بعيرها ، فقالت عائشة : ليس عليها شيء ، فقالت : إني عقلت زوجي عن النساء ، فقالت عائشة : أخرجوا عني هذه الساحرة .
وأجابوا عن الآية بأنها لا تمنع بأنَّ من السحر ما هو تخيّل ، وغير تخيل .
فإن قيل : إن الله تعالى قال في حقّه عليه السَّلام : { واللهُ يَعْصِمُكَ مِنَ النَّاسِ } فكيف أثر فيه السحرُ ؟
فالجواب أن قوله تعالى : { وَاللَّهُ يَعْصِمُكَ مِنَ النَّاسِ } المراد به عصمة القلب والإيمان لا عصمة الجسد عما يرد عليه من الأمور الحادثة الدنيوية ، فإنه عليه السلام قد سحر وكسرت رباعيته ، ورُمي عليه الكرش والثرب ، وآذاه جماعة من قريش .
قال ابن الخطيب{[1573]} : السِّحر على أقسام :
الأول : سحر الكلدانيين الذين كانوا في قديم الدهر يعبدون الكواكب ، ويزعمون أنها هي المدبرة لهذا العالم ، ومنها يصدر الخير والشر والفرح والسرور والسعادة والنحوسة ، وهم الذين بعث الله تعالى إبراهيم عليه الصلاة والسلام مبطلاً لمقالتهم ورادًّا عليهم وهم ثلاث فرق :
الأولى : الذين زعموا أن الأفلاك والكواكب واجبة في ذواتها ، وأنه لا حاجة بها إلى موجد ومدبر وخالق ، وهي المدبّرة لعالم الكون والفساد ، وهم الصَّابئة الدهرية .
والفريق الثاني : القائلون بإلاهية الأفلاك ، قالوا : إنها هي المؤثّرة للحوادث باستدارتها وتحرّكها ، فعبدوها وعظّموها ، واتخذوا لكل واحد منها هيكلاً مخصوصاً وصنماً معيناً ، واشتغلوا بخدمتها ، فهذا دين عبدة الأصنام والأوثان .
والفريق الثالث : الذين أثبتوا لهذه الأفلاك والنُّجوم فاعلاً مختاراً خلقها وأوجدها بعد العدم إلاَّ أنهم قالوا : إن الله تعالى عز وجلّ أعطاهم قوة عالية نافذة في هذا العالم ، وفوض تدبير هذا العالم إليها .
النوع الثاني : سحر أصحاب الأَوْهَام ، والنفوس القوية .
النوع الثالث : الاستعانة بالأرواح الأرضية .
واعلم أن القول بالجنّ مما أنكره بعض المتأخرين من الفلاسفة والمعتزلة .
أما أكابر الفلاسفة فإنهم لم ينكروا القول به إلا أنهم سمّوها بالأرواح الأرضية ، وهي في أنفسها مختلفة منها خيرة ، ومنها شريرة ، فالخيرة هم مؤمنو الجن ، والشريرة هم كفار الجن وشياطينهم .
النوع الرابع : التخيُّلات والأخذ بالعيون ، وذلك أن أغلاط البَصَرِ كثيرة ، فإن راكب السَّفينة ينظر السفينة واقفة والشَّط متحركاً ، وذلك يدلّ على أن السَّاكن متحرك والمتحرك يُرَى ساكناً ، والقطرة النازلة ترى خطّاً مستقيماً ، والذّبالة التي تدار بسرعة ترى دائرة ، والعنبة ترى في الماء كبيرة كالإجَّاصَة ، والشخص الصغير يرى في الضَّباب عظيماً .
النوع الخامس : الأعمال العجيبة التي تظهر من تركيب الآلات على النُّصُب الهندسية مثل صورة فارس على فرس في يده بُوق ، فإذا مضت ساعة من النهار صوت بالبوق من غير أن يمسه أحد ، ومثل تصاوير الروم على اختلاف أحوال الصور من كونها ضاحكة وباكية ، حتى يفرق فيها بين ضحك السرور ، وضحك الخَجلِ ، وضحك الشَّامت ، وكان سحر سحرة فرعون من هذا الضرب ، ومن هذا الباب تركيب صندوق السَّاعات ، ويندرج في هذا الباب علم جَرَّ الأثقال وهو أن يجر ثقلاً عظيماً بآلة خفيفة سهلة ، وهذا في الحقيقة لا ينبغي أن يعد من باب السحر ؛ لأن لها أسباباً معلومة يقينية من اطّلع عليها قدر عليها .
النوع السادس : الاستعانة بخواصّ الأدوية المبلّدة المزيلة للعقل والدّخن المسكرة .
النوع السابع : تعليق القلب وهو أن يدعي السَّاحر أنه يعرف الاسم الأعظم ، وأن الجن تطيعه ، وينقادون له ، فإذا كان السامع ضعيف العَقْل قليل التمييز اعتقد أنه حق ، وتعلّق قلبه بذلك ، وحصل في نفسه نوع من الرُّعب والخوف ، فحينئذ يُمكّن الساحر من أن يفعل به حينئذ ما شاء .
حكي عن الشافعي رضي الله عنه أنه قال : السحر يخيل ويمرض ويقتل وأوجب القصاص على من يقتل به فهو من عمل الشيطان يتلقَّاه الساحر منه بتعليمه إيَّاه ، فإذا تلقاه منه استعمله في غيره .
وقيل : إنه يؤثر في قَلْبِ الأعيان ، والأصح أن ذلك تخييل .
قال : تعالى : { يُخَيَّلُ إِلَيْهِ مِن سِحْرِهِمْ أَنَّهَا تَسْعَى } [ طه : 66 ] ، لكنه يؤثر في الأبدان بالأمراض والموت والجنون ، وللكلام تأثير في الطِّباع والنفوس ، كما إذا سمع الإنسان ما يكره فيحمرّ [ وربما يحمّ منه }{[1574]} ويغضب وقد مات قوم بكلام سمعوه فهو بمنزلة العلَل التي تؤثر في الأبدان .
قال القرطبى رحمه الله تعالى : قال علماؤنا : لا ينكر أن يظهر على يد السّاحر خَرْقُ العادات مما ليس في مقدور البشر من مرض وتفريق ، وزوال عقل وتَعْويج عُضْو ، إلى غير ذلك مما قام الدليل على استحالة كونه من مقدورات العباد .
قالوا : ولا يعبد في السِّحر أن يَسْتَدِقّ جسم السَّاحر حتى [ يلج }{[1575]} في الكُوَّات والانتصاب على رأس قَصَبَةٍ ، والجري على خيط مستدق ، والطيران في الهواء ، والمشي على الماء ، وركوب كلب وغير ذلك .
ولا يكون السحر علة لذلك ، ولا موجباً له ، وإنما [ يخلق ] الله تعالى هذه الأشياء ، ويحدثها عند وجود السحر ، كما يخلق الشبع عند الأكل ، والرِّي عند شرب الماء [ روى سفيان عن عمار الدهنى أن ساحراً كان عند الوليد بن عقبة يمشي على الحبل ، ويدخل في اسْت الحمار ، ويخرج من فيه ، فاستل جندب{[1576]} السيف فقتله .
هذا هو جندب بن كعب الأسدي ويقال : البجلي وهو الذي قال في حقه النبي صلى الله عليه وسلم " يكُونُ في أُمَّتي رَجُلٌ يُقَالُ لَهُ جُنْدب يَضْرِبُ ضَرْبَةً بالسَّيْفِ يَفْرُقُ فيها بَيْنَ الحَقّ والبَاطِلِ " فكانوا يرونه جندباً هذا قاتل السّاحر .
قال علي بن المديني : وروى عنه حارثة بن مُضَرِّب ]{[1577]} .
واختلف المسلمون في إمكان السحر ، فأما المعتزلة فقد أنكروه أعني : الأقسام الثلاثة الأولى ولعلهم كَفّروا من قال بها وبوجودها .
أما أهل السّنة فقد جَوّزوا أن يقدر الساحر على أن يطير في الهواء ، ويقلب الإنسان حماراً ، والحمار إنساناً ؛ إلاَّ أنهم قالوا : إن الله تعالى هو الخالق لهذه الأشياء عندما يقرأ الساحر كلماتٍ معينة ، و يدل على ذلك قوله تعالى : { وَمَا هُم بِضَارِّينَ بِهِ مِنْ أَحَدٍ إِلاَّ بِإِذْنِ اللَّهِ } [ البقرة : 102 ] .
وقد روي أنه عليه الصلاة والسلام سُحِرَ ، وأن السحر عمل فيه حتى قال : " إِنَّهُ لَيُخَيَّلُ إلَيَّ أنِّي أقُولُ الشَّيْءَ وَأَفْعَلُهُ وَلَمْ أَفْعَلْهُ " .
وأن امرأة يهودية سحرته ، وجعلت ذلك السحر تحت رَاعُونَةِ البئر ، فلما استخرج ذلك زال عن النبي صلى الله عليه وسلم ذلك العارض ، ونزلت المُعَوِّذَتَان بسببه .
وروي أن امرأة أتت عائشة رضي الله عنها : فقالت لها : إني ساحرة فهل لي من توبة ؟ فقالت عائشة : وما سحرك ؟ فقالت : صرت إلى الموضع الذي فيه هاروت وماروت ب " بابل " أطلب علم السحر ، فقالا لي : يا أمة الله لا تختاري عذاب الآخرة بأمر الدنيا فأبيت ، فقالا لي : اذهبي فَبُولِي على ذلك الرماد ، فذهبت لأبول عليه ففكرت في نفسي فقلت لا أفعله وجئت إليهما فقلت قد فعلت ، فقالا لي ما رأيت لما فعلت ؟ فقلت : ما رأيت شيئاً فقالا لي : أنت على رأس أمر ، فاتقي الله ولا تفعلي فأبيت فقالا لي : اذهبي فافعلي فذهبت ففعلت ، فرأيت كأن فارساً مقنّعاً بالحديد قد خرج من فرجي ، فصعد إلى السماء فجئتهما فأخبرتهما فقالا : إيمانك قد خرج عنك ، وقد أحسنت السحر .
فقلت : وما هو ؟ قالا : ما تريدين شيئاً فَتُصَوّريه في وَهْمك إلا كان ، فصورت في نفسي حباً من حِنْطة فإذا أنا بحبّ فقلت : انزرع فانزرع ، فخرج من ساعته سُنْبُلاً فقلت : انطحن فانطحن من ساعته ، فقلت : انخبز فانخبز ، وأنا لا أريد شيئاً أصوره في نفسي إلا حصل ، فقالت عائشة : ليس لك توبة{[1578]} .
فصل فى أنّ معجزات الله ليست من قبيل السّحر
قال القرطبي رحمه الله تعالى : أجمع المسلمون على أنه ليس من السحر ما يفعل الله عند إنزال الجراد والقمل ، والضفادع ، وفلق البحر ، وقلب العصا ، وإحياء الموتى ، وإنطاق العَجْمَاء وأمثال ذلك من عظيم آيات الرسل عليهم السلام ، والفرق بين السحر والمعجزة أن السحر يأتي به الساحر وغيره ، وقد يكون جماعة يعرفونه ، ويمكنهم الإتيان به في وقت واحد ، والمعجزة لا يمكن الله أحداً أن يأتي بمثلها .
فصل في أن العلم بالسحر ليس بمحظور
قال ابن الخطيب : اتفق المحققون على أن العلم بالسحر ليس قبيحاً ولا بمحظور ؛ لأن العلم لذاته شريف وأيضاً لقوله تعالى : { هَلْ يَسْتَوِي الَّذِينَ يَعْلَمُونَ وَالَّذِينَ لاَ يَعْلَمُونَ } [ الزمر : 9 ] ولأن الساحر لو لم يكن يعلم لما أمكن الفرق بينه وبين المُعْجزة ، والعلم بكون المعجز معجزاً واجب ،
[ وما يتوقّف الواجب عليه فهو واجب ، فهذا يقتضي أن يكون تحصيل العلم بالسحر واجباً ، وما يكون واجباً ] كيف يكون حراماً وقبيحاً . [ ونقل بعضهم وجوب نقله عن المفتي حتى يعلم ما يقتل فيه وما لا يقتل فيفتي به في وجوب القصاص ]{[1579]} .
فصل في أمور لا تكون من السحر ألبتة
قد تقدم عن القرطبي قوله : أجمع المسلمون على أنه ليس في السحر ما يفعل الله عند إنزال الجراد والقمل والضفادع وفلق البحر وقلب العصا وإحياء الموتى [ وإنطاق العجماء ]{[1580]} ، وأمثال ذلك من عظيم آيات الرسل عليهم السلام فهذا ونحوه مما يجب القطع بأنه لا يكون ، ولا يفعله الله عند إرادة الساحر .
قال القاضي أبو بكر بن الطيب : وإنما منعنا ذلك بالإجماع ، ولولاه لأجزناه نقله القرطبي رحمه الله تعالى في تفسيره ، وأورد عليه قوله تعالى عن حبال سحرة فرعون وعصيهم : { يُخَيَّلُ إِلَيْهِ مِن سِحْرِهِمْ أَنَّهَا تَسْعَى } [ طه : 66 ] ، فأخبر عن إقلاب العِصِيّ والحبال بأنها حيّات .
اختلف العلماء في الساحر هل يكفر أو لا ؟
اعلم أنه لا نزاع في أن من اعتقد أن الكواكب هي المدبّرة لهذا العالم ، وهي [ الخالقة ]{[1581]} لما فيه من الحوادث ، فإنه يكون كافراً مطلقاً ، وهو النوع الأول من السحر .
وأما النوع الثاني : وهو أن يعتقد [ أن الإنسان تبلغ روحه ]{[1582]} في التصفية والقوة إلى حيث يقدر بها على إيجاد الأجسام والحياة والقدرة وتغيير البِنْيَةِ والشكل ، [ فالظاهر ]{[1583]} إجماع الأمة أيضاً على تكفيره .
وإما النوع الثالث : وهو أن يعتقد السَّاحر أنه [ بلغ ]{[1584]} في التصفية وقراءة الرّقى وتدخين بعض الأدوية إلى حيث يخلق الله تعالى عقيب أفعاله على سبيل خرق العادة الأجسام والحياة والعقل وتغيير البنية والشكل ، فالمعتزلة كفروه وغيرهم لم يكفروه .
فإن قيل : إن اليهود لما أضافوا السِّحر إلى سليمان عليه الصلاة والسلام قال الله تعالى تنزيهاً له عنه : { وَمَا كَفَرَ سُلَيْمَانُ وَلَكِنَّ الشَّيَاطِينَ كَفَرُواْ يُعَلِّمُونَ النَّاسَ السِّحْرَ وَمَآ أُنزِلَ } [ البقرة : 102 ] فظاهر الآية يقتضي أنهم إنما كفروا لأجل أنهم كانوا يعلمون السحر ؛ لأن ترتيب الحكم على الوصف مشعر بالعلية ، وتعليم ما لا يكون كفراً لا يوجب الكفر ، وهذا يقتضي أنّ السحر على الإطلاق كفر ، وأيضاً قوله : " عَلَى المَلَكَيْنِ " { وَمَا يُعَلِّمَانِ مِنْ أَحَدٍ حَتَّى يَقُولاَ إِنَّمَا نَحْنُ فِتْنَةٌ فَلاَ تَكْفُرْ } [ البقرة : 102 ] .
قلنا : حكاية الحال يكفي في صدقها صورة واحدة ، فيحمل على سحر من يعتقد إلاهية النجوم وأيضاً فلا نسلم أن ترتيب الحكم على الوصف مشعر بالعلّية ، بل المعنى أنهم كفروا ، وهم مع ذلك يعلمون السحر .
فصل في سؤال الساحر حلّ السحر عن المسحور
قال القرطبي رحمه الله تعالى : هل يسأل الساحر حل السحر عن المسحور ؟
اختلفوا : فقال سعيد بن المسيّب : يجوز . ذكره " البخاري " ، وإليه مال المزني ، وكرهه الحسن البصري .
وقال الشعبي : لا بأس بِالنُّشْرَةِ .
قال ابن بَطّال : وفى كتاب وهب بن منبه : أن يأخذ سبع ورقات من سِدْرٍ أخضر ويدقه بين حَجَرين ، ثم يضربه بالماء ، ويقرأ عليه آية الكرسي ثم يحسو منه ثلاث حسوات ويغتسل به ، فإنه يذهب عنه كلّ ما به إن شاء الله تعالى ، وهو جيّد للرجل إذ حُبِسَ عن أهله .
فصل في أن الساحر هل يتقل أم لا ؟
أما النوعان الأولان فلا شكّ في [ قتل ]{[1585]} معتقدهما .
قال ابن الخطيب{[1586]} : يكون كالمرتد يُسْتَتَاب فإن أصر قتل .
وروي عن مالك وأبي حنيفة رضي الله عنهما توبته .
لنا أنه إن أسلم فيقبل إسلامه لقوله عليه الصلاة والسلام : " نَحْنُ نَحْكُمُ بِالظَّاهِرِ " .
وأما النوع الثالث : فإن اعتقد أن إتيانه به مباح كفر ؛ لأنه حكم على المحظور بكونه مباحاً ، وإن اعتقد حرمته ، فعند الشَّافعي رضي الله عنه حكمه حكم الجِنَاية ، إن قال : إني سحرته وسحري يَقْتُلُ غالباً ، يجب عليه القَوَدُ .
وإن قال : سحرته وسحري قد يقتل وقد لا يقتل ، فهو شبه عمد .
وإن قال : سحرت غيره فوافق اسمه فهو خطأ يجب عليه الدِّيَةُ مخففة في ماله ؛ لأنه ثبت بإقراره إلاّ أن تصدقه العاقلة ، فحينئذ يجب عليهم . هذا تفصيل مذهب الشافعي رضي الله عنه .
وروى الحسن بن زياد عن أبى حنيفة رحمه الله أنه قال : يقتل السَّاحر إذا علم أنه ساحر ، ولا يستتاب ولا يقبل قوله : إني أترك السحر وأتوب منه ، فإذا أقر أنه ساحر فقد حلّ دمه ، وإن شهد شاهدان على أنه ساحر أو وصفوه بصفة يعلم أنه ساحر قتل ولا يُسْتَتَاب ، وإن أقر بأني كنت أسحر مرة ، وقد تركت ذلك منذ زمان قبل منه ، ولم يقتل .
وحكى محمد بن شجاع عن علي الرازي قال : سألت أبا يوسف عن قول أبي حنيفة في السَّاحر : يقتل ولا يُسْتَتَاب لم يكن ذلك بمنزلة المرتد ، فقال الساحر جمع مع كفره السعي في الأرض بالفساد ، ومن كان كذلك إذا قَتَل قُتل . واحتج أصحاب الشافعي بأنه لما ثبت أن هذا النوع ليس بكفر ، فهو فسق ، فإن لم يكن جناية على حق الغير كان فيه التفصيل المتقدم .
وأيضاً فإن ساحر اليهود لا يقتل ؛ لأنه عليه الصلاة والسلام سحره رجل من اليهود يقال له : لبيد بن أعصم ، وامرأة من يهود " خيبر " يقال لها : زينب فلم يقتلهما ، فوجب أن يكون المؤمن كذلك لقوله عليه الصلاة والسلام : " لَهُمْ مَا لِلْمُسْلِمِينَ وَعَلَيْهِمْ مَا عَلَى المُسْلِمِينَ " .
واحتج أبو حنيفة بما روى نافع عن ابن عمر رضي الله عنه أن جارية لحفصة سحرتها ، وأخذوها فاعترفت بذلك فأمرت عبد الرحمن بن زيد ، فقتلها فبلغ ذلك عثمان ، فأنكره فأتاه ابن عمر وأخبره أمرها فكأن عثمان إنما أنكر ذلك ، لأنها قتلت بغير إذن ، وبما روى عمرو بن دينار أن عمر رضي الله عنه قال : " اقتلوا كل ساحر وساحرة فقتلنا ثلاث سَوَاحر " .
والجواب : لعل السحرة الذين قتلوا كانوا من الكفرة ، فإن حكاية الحال تكفي في صدقها صورة واحدة ، وأما بقية [ أنواع ]{[1587]} السحر من الشَّعْوذة ، والآلات العجيبة المبنية على النسب الهندسية ، وأنواع التخويف ، والتقريع والوهم ، فكل ذلك ليس بكفر ، ولا يوجب القتل .
قوله : " وَمَا أُنزِلَ " فيه أربعة أقوال :
أظهرها : أن " ما " موصولة بمعنى " الذي " محلّها النصب عطفاً على " السحر " ، والتقدير : يعلّمون الناس السحر ، والمنزل على الملكين .
الثاني : أنها موصولة أيضاً ، ومحلها النصب لكن عطفاً على { مَا تَتْلُواْ الشَّيَاطِينُ } ، والتقدير : واتبعوا ما تتلو الشياطين ، وما أنزل على الملكين . وعلى هذا فما بينهما اعتراض ، ولا حاجة إلى القول بأن في الكلام تقديماً وتأخيراً .
الثالث : أن " ما " حرف نفي ، والجملة معطوفة على الجملة المنفية قَبْلَها ، وهي { وما كفر سُلَيْمان } والمعنى : وما أنزل على الملكين إباحة السحر .
قال القرطبي : و " ما " نافية{[1588]} ، والواو للعطف على قوله : [ { وَمَا كَفَرَ سُلَيْمَانُ } ، وذلك أن اليهود قالوا : إن الله أنزل جبريل ، وميكائيل بالسحر ، فنفى الله ذلك .
وفي الكلام تقديم وتأخير والتقدير : وما كفر سليمان ]{[1589]} ، وما أنزل على الملكين ، ولكن الشياطين كفروا يعلمون الناس السِّحر ببابل هَارُوت وماروت ، فهاروت وماروت بدل من الشَّيَاطين في قوله : { وَلَكِنَّ الشَّيَاطِينَ كَفَرُوا } قال : وهذا أولى ولا يلتفت إلى سواه ، فالسحر استخراج الشياطين للطافة جوهرهم ، وأكثر ما يتعاطاه من الإنس النساء ، وخاصة في حالة طَمْثهن ؛ قال الله تعالى : { وَمِن شَرِّ النَّفَّاثَاتِ فِي الْعُقَدِ } [ الفلق : 4 ] .
فإن قيل : كيف يكون اثنان بدلاً من الجميع والبدل إنما يكون على حد المبدل منه ؟ فالجواب من وجوه ثلاثة :
الأول : أن الاثنين قد يطلق عليهما اسم الجمع ؛ كما قال تعالى : { فَإِن كَانَ لَهُ إِخْوَةٌ } [ النساء : 11 ] .
الثاني : أنهما لما كانا الرأس في التعليم نصّ عليهما دون أتباعهما كقوله تعالى : { عَلَيْهَا تِسْعَةَ عَشَرَ } [ المدثر : 30 ] .
الثالث : إنما خُصَّا بالذكر من بينهم لتمرّدهما ، كتخصيصه تعالى النخل [ والرمان ]{[1590]} في قوله : { فِيهِمَا فَاكِهَةٌ وَنَخْلٌ وَرُمَّانٌ }
[ الرحمن : 68 ] فقد ينص على بعض أشخاص العموم إما لشرفه ؛ كقوله تعالى : { إِنَّ أَوْلَى النَّاسِ بِإِبْرَاهِيمَ لَلَّذِينَ اتَّبَعُوهُ وَهَذَا النَّبِيُّ } [ آل عمران : 68 ] وإما لطيبه كقوله : { فَاكِهَةٌ وَنَخْلٌ وَرُمَّانٌ } وإما لأكثريته ؛ كقوله صلى الله عليه سلم : " جُعِلَتْ لِيَ الأَرْضُ مَسْجِداً وَتُرَابُهَا طَهُوراً " وإما لتمردهم كهذه الآية .
الرابع : أن محلّها الجر عطفاً على " ملك سليمان " ، والتقدير : افتراء على ملك سليمان وافتراء على ما أنزل على الملكين ، وهو اختيار أبي مسلم .
وقال أبو البقاء : " تقديره " وعلى عهد الّذي أنزل .
واحتج أبو مسلم : بأن السحر لو كان نازلاً عليهما لكان مُنْزله هو الله تعالى ، وذلك غير جائز ، كما لا يجوز في الأنبياء أن يبعثوا لتعليم السِّحر ، كذلك في الملائكة بطريق الأولى .
وأيضاً فإن تعليم السحر كفر بقوله تعالى : { وَلَكِنَّ الشَّيَاطِينَ كَفَرُواْ يُعَلِّمُونَ النَّاسَ السِّحْرَ } .
وأيضاً فإنما يضاف السحر إلى الكفرة والمردة ، فكيف يضاف إلى الله تعالى ما ينهى عنه ؟
والمعنى : أن الشياطين نسبوا السحر إلى ملك سليمان مع أن ملك سليمان كان مبرأ عنه ، فكذلك نسبوا ما أنزل على الملكين إلى السحر ، مع أن المنزل عليهما كانا مبرّأين عن السحر ؛ لأن المنزل عليهما هو الشرع والدين ، وكانا يعلمان الناس ذلك مع قولهما : { إِنَّمَا نَحْنُ فِتْنَةٌ فَلاَ تَكْفُرْ } توكيداً لبعثهم على [ قبوله ]{[1591]} والتمسّك به ، فكانت طائفة تتمسّك ، وأخرى تخالف .
قال ابن الخطيب رحمه الله تعالى : والأول أولى ؛ لأن عطف " وَمَا أُنزِلَ " على ما يليه أولى من عطفه على ما بعد عنه إلا لدليل ، أما قوله : " لو كان منزلاً عليهما لكان مُنَزِّلهُ هو الله تعالى " .
قلنا : تعريف صفة الشيء قد يكون لأجل الترغيب في إدخاله في الوجود ، وقد يكون لأجل أن يقع الاحتراز عنه ؛ قال : [ الهزج ]
698- عَرَفْتُ الشَّرَّ لا لِلشَّرْ *** رِ لَكِنْ لِتَوَقِّيهِ{[1592]}
وقوله : لا يجوز بعثة الأنبياء [ لتعليم السحر ، فكذا الملائكة ]{[1593]} .
قلنا : الغرض من ذلك التعليم التَّنبيه على إبطاله .
وقوله : " تعليم السِّحْر كفر " .
قلنا : إنه واقعة حال فيكفي في صدقها سورة واحدة .
وقوله : يضاف السحر للكفرة والمردة .
قلنا : فرق بين العمل والتعليم ، فيجوز أن يكون العمل منبهاً عنه ، والتعليم لغرض التنبيه على فساده فلا يكون مأموراً به .
والجمهور على فتح لام " المَلَكين " على أنهما من الملائكة .
وقرأ ابن عباس{[1594]} وأبو الأسود والحسن والضحاك بكسرها على أنهما رجلان من الناس ، وسيأتي تقريره .
قوله : " بِبَابِلَ " متعلق ب " أنزل " ، والباء بمعنى " في " أي : في " بابل " . ويجوز أن يكون في محلّ نصب على الحال من المَلَكين ، أو من الضمير في " أنزل " فيتعلق بمحذوف . ذكر هذين الوجهين أبو البقاء رحمه الله .
و " بابل " لا ينصرف للعُجْمة والعلمية ، فإنها اسم أرض ، وإن شئت للتأنيث والعلمية وسميت بذلك قيل : لِتَبَلْبُلِ ألسنة الخلائق بها ، وذلك أن الله تعالى أمر ريحاً ، فحشرتهم بهذه الأرض ، فلم يدر أحد ما يقول الآخر ، ثم فرقتهم الريح في البلاد فتكلم كل واحد بلغة ، والبَلْبَلَة التفرقة .
وقيل : لما أُهْبِط نوح عليه الصلاة والسلام نزل فبنى قرية ، وسماها " ثمانين " ، فأصبح ذات يوم وقد تبلبلت ألسنتهم على ثمانين لغة .
وقيل : لتبلبل ألسنة الخلق عند سقوط صرح نمرود .
وقال ابن مسعود : " بابل " أرض " الكوفة " .
قوله : " هَارُوتَ وَمَارُوتَ " الجمهور على فتح تائها .
واختلف النحاة في إعرابها ، وذلك مبني على القراءتين في " الملكين " ، فمن فتح لام " الملكين " ، وهم الجمهور كان في هاروت وماروت أربعة أوجه :
أظهرها : أنها بدل من " الملكين " ، وجُرَّا بالفتحة لأنهما ينصرفان للعجمة والعلمية .
الثاني : أنهما عطف بيان لهما .
الثالث : أنهما بدل من " الناس " في قوله تعالى : { يُعَلِّمُونَ النَّاسَ السِّحْرَ } وهو بدل بعض من كل ، أو لأن أقل الجمع اثنان .
الرابع : أنهما بدل من " الشياطين " في قوله : { ولكن الشياطين كفروا } في قراءة من نصب ، وتوجيه البدل كما تقدم .
وقيل : هاروت وماروت اسمان لقبيلتين من الجن ، فيكون بدل كل من كل ، والفتحة على هذين القولين للنصب .
وأما من قرأ برفع " الشياطين " ، فلا يكون " هاروت وماروت " بدلاً منهم ، بل يكون منصوباً في هذا القول على الذم أي : أذم هاروت وماروت من بين الشياطين كلها ؛ كقوله : [ الطويل ]
699- أقَارعُ عَوْفٍ لا أُحَاوِلُ غَيْرَهَا *** وُجُوهَ قُرُودٍ تَبْتَغِي مَنْ تُجَادِعُ{[1595]}
أي : أذم وجوه قرود ، ومن كسر لامهما ، فيكون بدلاً منهما كالقول الأول إلاَّ إذا فسر الملكان بداود وسليمان عليهما الصلاة والسلام كما ذكره بعض المفسرين ، فلا يكونان بدلاً منهما ، بل يكونان متعلّقين بالشياطين على الوجهين السَّابقين في رفع الشياطين ونصبه ، أو يكونان بدلاً من " النّاس " كما تقدم .
وقرأ الحسن " هَارُوتُ وماروتُ " برفعهما ، وهما خبر لمبتدأ محذوف أي : هما هاروت وماروت ، ويجوز أن يكون بدلاً من " الشياطين " الأولى وهو قوله : { ما تَتْلُوا الشياطين } ، أو الثاني على قراءة من رفعه .
ويُجْمَعَان على هَوَاريت ومَوَاريت ، وهَوَارتة ومَوَارتة ، وليس من زعم اشتقاقهما من الهَرْتِ والمَرْتِ وهو الكسر بمصيب لعدم انصرافهما ، ولو كانا مشتقّين كما ذكر لانصرفا .
أما القراءة بفتح لام " الملكين " ، فقيل : هما ملكان من السماء اسمهما هاروت وماروت .
وقيل : هما جبريل وميكائيل عليهما الصلاة والسلام .
وأما من كسر اللام فقيل : إنهما اسم لقبيلتين من الجن .
وقيل : هما داود وسليمان عليهما الصلاة والسلام .
وقيل : كانا علجين أقنعين ب " بابل " يعلمان الناس السحر .
قوله : { وَمَا يُعَلِّمَانِ مِنْ أَحَدٍ حَتَّى يَقُولاَ إِنَّمَا نَحْنُ فِتْنَةٌ } هذه الجملة عطف على ما قبلها ، والجمهور على " يُعَلِّمَان " مضعفاً .
أحدهما : أنه على بابه من التعليم .
والثاني : أنه بمعنى يعلمان من " أعلم " ، فالتضعيف والهمزة متعاقبان .
قالوا : لأن المَلَكين لا يعلمان الناس السحر ، إنما يُعْلِمانِهِمْ به ، ويَنْهَيَانِهِم عنه ، وإليه ذهب طحلة بن مصرف ، وكان يقرأ " يُعْلِمَان " من الأعلام .
ومن حكى أن تَعَلَّمْ بمعنى " اعْلَم " ابنُ الأعرابي ، وابن الأنباريِّ ؛ وأنشدوا قول زُهَيْر : [ البسيط ]
700- تَعَلَّمَنْ ها لَعَمْرُ اللهِ ذا قَسَماً *** فَاقْدِرْ بِذَرْعِكَ وَانْظُرْ أَيْنَ تَنْسَلِكُ{[1596]} ؟
وقول القُطَامِيُّ : [ الوافر ]
701- تَعَلَّمْ أَنَّ بَِعْدَ الْغَيِّ رُشْداً *** وَأَنَّ لِذَلِكَ الغَيِّ انْقِشَاعَا{[1597]}
702- تَعَلَّمْ رَسُولَ اللهِ أَنَّكَ مُدْرِكِي *** وَأَنَّ وَعِيداً مِنْكَ كَالأَخْذِ بِالْيَدِ{[1598]}
703- تَعَلَّمْ أَنَّهُ لاَ طَيْرَ إِلاَّ *** عَلَى مُتَطَيِّرٍ وَهُوَ الثُّبُورُ{[1599]}
والضمير في " يعلمان " فيه قولان :
أحدهما : أنه يعود على هاروت وماروت .
والثاني : أنه عائد على [ الملكين ، ويؤيده قراءة أُبَيّ بإظهار الفاعل : " وَمَا يُعَلِّم الملكان " .
والأول هو الأصح ؛ لأن الاعتماد إنما هو على البدل ]{[1600]} دون المبدل منه ، فإنه في حكم المطَّرح ، فمراعاته أولى ؛ تقول : " هِنْدٌ حُسْنُهَا فَاتِنٌ " ولا تقول : " فَاتِنَةٌ " مراعاة لِهِنْد ، إلاّ في قليل من الكلام ؛ كقوله : [ الكامل ]
704- إنَّ السُّيُوفَ غُدُوَّهَا ورَواحَهَا *** تَرَكَتْ هَوَازِنَ مِثْلَ قَرْنِ الأَعْضَبِ{[1601]}
705- فَكَأَنَّهُ لَهِقُ السَّراة كَأَنَّهُ *** مَا حَاجِبَيْهِ مُعَيَّنٌ بِسَوادِ{[1602]}
فراعى المُبْدَلَ منه في قوله : " تَرَكَتْ " ، وفي قوله : " مُعَيَّن " ، ولو راعى البَدَل ، وهو الكثير ، لقال " تَرَكَا " و " مُعَيَّنَان " ؛ كقول الآخر : [ الطويل ]
706- فَمَا كَانَ قَيْسٌ هُلْكُهُ هُلْكَ وَاحِدٍ *** وَلَكِنَّهُ بُنْيَانُ قَوْمٍ تَهَدَّمَا{[1603]}
ولو لم يراع البدل للزم الإخبار بالمعنى عن الجُثَّة .
وأجاب أبو حيان عن البيتين بأن " رَوَاحها وغدوها " منصوب على الظرف ، وأن قوله : " مُعَيَّن " خبر عن " حَاجِبَيْهِ " ، وجاز ذلك ؛ لأن كل اثنين لا يغني أحدهما عن الآخر ، يجوز فيهما ذلك ؛ قال : [ الهزج ]
707- . . . *** بِهَا العَيْنَان تَنْهَلُّ{[1604]}
708- لَكَأَنَّ فِي الْعَيْنَيْنِ حَبَّ قَرَنْفُلٍ *** أَوْ سُنْبُلٍ كُحِلَتْ بِهِ فَانْهَلَّتِ{[1605]}
709- إِذَا ذَكَرَتْ عَيْنِي الزَّمَانَ الّّذِي مَضَى *** بِصَحْرَاءَ فَلْجٍ ظَلَّتَا تَكِفَانِ{[1606]}
و " من " زائدة لتأكيد الاستغراق لا للاستغراق ؛ لأن " أحداً " يفيده بخلاف : " ما جاء من رجل " فإنها زائدة للاستغراق .
و " أحد " هنا الظاهر أنه الملازم للنفي ، وأنه الذي همزته أصل بنفسها .
وأجاز أبو البقاء أن يكون بمعنى واحد ، فتكون همزته بدلاً من الواو .
فصل فيمن قال بأنهما ليسا من الملائكة
القائلون بأنهما ليسا من الملائكة احتجوا بأن الملائكة عليهم السلام لا يليق بهم تعليم السحر ، وقالوا : كيف يجوز إنزال الملكين مع قوله :
{ وَلَوْ أَنزَلْنَا مَلَكاً لَّقُضِيَ الأَمْرُ ثُمَّ لاَ يُنظَرُونَ } [ الأنعام : 8 ] .
وأيضاً لو أنزل الملكين ، فإما أن يجعلهما في صورة الرجلين ، أو لا يجعلهما كذلك ، فإن جعلهما في صورة الرجلين مع أنهما ليسا برجلين كان ذلك تجهيلاً وتلبيساً على الناس وهو لا يجوز ، ولو جاز ذلك فلم لا يجوز أن كل واحد من الناس الذين تشاهدهم أنه لا يكون في الحقيقة إنساناً ، بل يكون ملكاً من الملائكة ؟ وإن لم يجعلهما في صورة الرجلين قدح ذلك في قوله تعالى : { وَلَوْ جَعَلْنَاهُ مَلَكاً لَّجَعَلْنَاهُ رَجُلاً } [ الأنعام : 9 ] .
وأجاب القائلون بأنهما من الملائكة عن الأول بأنا سنبين وجه الحكمة في إنزال [ الملكين ]{[1607]} لتعليم السحر وعن الثاني : بأن هذه الآية عامة ، [ وقراءة المَلَكين بفتح اللام متواترة وتلك ]{[1608]} خاصة والخاص مقدم على العام .
وعن الثالث : أن الله تعالى أنزلهما في صورة رَجُلين ، وكان الواجب على الملكين في زمان الأنبياء صلوات الله وسلامه عليهم أن يقطعوا على من صورته صورة الإنسان بكونه إنساناً ، كما أنه في زمان الرسول عليه الصلاة والسلام كان الواجب على من شاهد حية الكَلْبي ألاَّ يقطع بكونه من البشر ، بل الواجب التوقف فيه .
رووا قصة الزُّهَرة وما جرى لها مع الملكين .
أحدهما : أنها الكوكب المعروف .
والثاني : أنها من بنات آدم ومسخت إلى هذا الكوكب .
قال ابن الخطيب : وهذه الرواية فاسدة مردودة{[1609]} ؛ لأنه ليس في كتاب الله تعالى ما يدل عليها ، بل فيه ما يبطلها من وجوه :
الأول : الدلائل الدالة على عِصْمَةِ الملائكة عليهم السلام من كل المعاصي .
الثاني : أن قولهم : إنهما خُيِّرا بَيْن عذاب الدنيا ، وبين عذاب الآخرة فاسد ، بل كان الأولى أن يُخَيَّرا بَيْنَ التوبة والعذاب ؛ لأن الله تعالى خير بينهما من أشرك به طول عمره ، فكيف يبخل عليهما بذلك ؟
الثالث : أن من أعجب الأمور قولهم : إنهما يعلمان السحر في حال كونهما معذبين ، ويدعوان إليه ، وهما يعاقبان [ ولما ظهر فساد هذا القول فنقول : السبب ]{[1610]} في إنزالهما وجوه :
أحدها : أن السحرة كثرت في ذلك الزمان ، واستنبطت أبواباً غريبة من السحر ، وكانوا يَدَّعُون النبوة ، ويتحَدَّون الناس بها ، فبعث الله تعالى هذين الملكين لأَجْلِ أن يعلّما الناس أبواب السِّحر حتى يتمكّنوا من معارضة أولئك الذين كانوا يدعون النبوة كذباً ، ولا شك أن هذا من أحسن الأغراض والمقاصد .
وثانيها : أن العلم بكون المعجزة مخالفة للسّحر متوقّف على العلم بماهية المعجزة ، وبماهية السحر ، والناس كانوا جاهلين بماهية السِّحر ، فلا جرم تعذّرت عليهم معرفة حقيقة المعجزة ، فبعث الله تعالى هذين الملكين لتعريف ماهية السحر لأجل هذا الغرض .
وثالثها : لا يمتنع أن يقال : السحر الذي يوقع الفرقة بين أعداء الله ، والألفة بين أولياء الله كان مباحاً عندهم ، أو مندوباً ، فالله تعالى بعث مَلَكين لتعليم السِّحر لهذا الغرض ، ثم إن القوم تعلموا ذلك منهما ، واستعملوه في الشر ، وإيقاع الفُرْقة بين أولياء الله ، والألفة بين أعداء الله .
ورابعها : أن تحصيل العلم بكل شيء حسن ، ولما كان السِّحر منهياً عنه وجب أن يكون متصوراً معلوماً ؟ لأن الذي لا يكون متصوراً يمتنع النهي عنه .
وخامسها : لعل الجن كان عندهم أنواع من السحر لم يقدر البشر على الإتيان بمثلها ، فبعث الله الملائكة ليعلموا البشر أموراً يقدرون بها على معارضة الجن .
وسادسها : يجوز أن يكون ذلك تشديداً في التكليف من حيث إنه إذا علمه ما أمكنه أن يتوصّل به إلى اللَّذات العاجلة ، ثم منعه من استعمالها كان ذلك في نهاية المشقّة ، فيستوجب به الثواب الزائد ، كما ابتلي قوم طالوت بالنهر على ما قال : { فَمَن شَرِبَ مِنْهُ فَلَيْسَ مِنِّي وَمَن لَّمْ يَطْعَمْهُ فَإِنَّهُ مِنِّي }
[ البقرة : 249 ] فثبت بهذه الوجوه أنه لا يبعد من الله تعالى إنزال الملكين لتعليم السّحر ، والله أعلم .
قال بعضهم : هذه الواقعة إنما وقعت في زمان إدريس عليه الصَّلاة والسلام .
قوله : { حَتَّى يَقُولاَ : إِنَّمَا نَحْنُ فِتْنَةٌ } .
" حتى " : حرف غاية ونصب ، وهي هنا بمعنى " إلى " ، والفعل بعدها منصوب بإضمار " أن " ولا يجوز إظهارها ، وعلامة النصب حذف النون ، والتقدير : إلى أن يقولا ، وهي متعلقة بقوله : " وَمَا يُعَلِّمَانِ " ، والمعنى أنه ينتفي تعليمهما أو إعلامهما على ما مضى من الخلاف إلى هذه الغاية ، وهي قولهم : { إِنَّمَا نَحْنُ فِتْنَةٌ فَلاَ تَكْفُر } .
وأجاز أبو البقاء رحمه الله أن تكون " حتى " بمعنى " إلا " قال : والمعنى : وما يعلمان من أحد إلاّ أن يقولا وهذا الذي أجازه لا يعرف عن أكثر المتقدمين ، وإنما قاله ابن مالك ؛ وأنشد : [ الكامل ]
710- لَيْسَ الْعَطَاءُ مِنَ الْفُضُولِ سَمَاحَةً *** حَتَّى تَجُودَ وَمَا لَدَيْكَ قَلِيلُ{[1611]}
قال : تقديره : إلا أن تَجُودَ .
و " حتى " تكون حرف جر بمعنى " إلى " كهذه الآية ، وكقوله : { حَتَّى مَطْلَعِ الْفَجْرِ } [ القدر : 5 ] ، وتكون حرف عطف ، وتكون حرف ابتداء فتقع بعدها الجمل ؛ كقوله : [ الطويل ]
711- فَمَا زَالَتِ الْقَتْلَى تَمُجُّ دِمَاءَهَا *** بِدَجْلَةَ حَتَّى مَاءُ دَجْلَةَ أَشْكَلُ{[1612]}
والغاية معنى لا يفارقها في هذه الأحوال الثلاثة ، فلذلك لا يكون ما بعدها إلا غاية لما قبلها : إما في القوة ، أو الضعف ، أو غيرهما ، ولها أحكام أُخر ستأتي إن شاء الله تعالى .
و " إنما " مكفوفة ب " ما " الزائدة ، فلذلك وقع بعدها الجملة ، وقد تقدم أن بعضهم يجيز إعمالها ، والجملة في محلّ نصب بالقول ، وكذلك : " فَلاَ تَكْفُر " .
المراد هاهنا بالفتنة المحنة التي بها يتميز المطيع عن العاصي ، كقولهم : فتنت الذهب بالنار إذا عرض على النار ليتميز الخاصّ عن المشوب ، وقد بَيّنا الحكمة في بعثة الملكين لتعليم السحر .
فالمراد أنهما لا يعلمان أحداً السحر ولا يصفانه لأحد ، ولا يكشفان له وجوه الاحتيال حتى يبذلا له النَّصيحة فيقولا له : { إِنَّمَا نَحْنُ فَتْنَةٌ } أي : هذا الذي نصفه لك ، وإن كان الغرض منه أن يتميز به الفرق بين السحر عن المعجزة ، ولكنه يمكنك أن تتوصّل به إلى المفاسد والمعاصي ، فإياك أن تستعمله فيما نهيت عنه ، أو تتوصل به إلى شيء من الأعراض العاجلة .
قوله تعالى : " فَيَتَعَلَّمُونَ " في هذه الجملة سبعة أقوال :
أظهرها : أنها معطوفة على قوله تعالى : " وما يعلمان " والضمير في " فيتعلّمون " عائد على " أحد " ، وجمع حملاً على المعنى ، كقوله تعالى :
{ فَمَا مِنكُمْ مِّنْ أَحَدٍ عَنْهُ حَاجِزِينَ } [ الحاقة : 47 ] .
فإن قيل : المعطوف عليه منفي ، فيلزم أن يكون " فيتعلّمون " منفياً أيضاً لعطفه عليه ، وحينئذ ينعكس المعنى . فالجواب ما قالوه ، وهو أن قوله : { مَا يُعَلِّمَانِ مِنْ أَحَدٍ حَتَّى يَقُولاَ } ، وإن كان منفياً لفظاً فهو موجب معنى ؛ لأن المعنى : يعلمان الناس السحر بعد قولهما : إنما نحن فتنة ، وهذا الوجه ذكره الزجاج وغيره .
الثَّاني : أنه معطوف على { يُعَلِّمُونَ النَّاسَ السَّحْر } قاله الفراء .
وقد اعترض الزجاج هذا القول بسبب لفظ الجمع في " يعلمون " مع إتيانه بضمير التثنية في " منهما " يعني : فكان حقه أن يقال : " منهم " لأجل " يعلمون " وأجازه [ أبو علي ]{[1613]} وغيره ، وقالوا : لا يمتنع عطف " فيتعلمون " على " يعلِّمون " ، وإن كان التعليم من الملكين خاصّة ، والضمير في " منهما " راجع إليهما ، فإن قوله : " منهما " إنما جاء بعد تقدّم ذكر المَلَكَيْنِ .
وقد اعترض على قول الفراء من وجه آخر : وهو أنه يلزم منه الإضمار قبل الذكر ، وذلك أن الضمير في " منهما " عائد على الملكين ، وقد فرضتم أن " فيتعلمون منهما " عطف على " يعلمون " ، [ فيكون التقدير : " يُعَلِّمُونَ النَّاسَ السِّحْرَ فَيَتَعَلَّمُونَ مِنْهُمَا " ]{[1614]} فيلزم الإضمار في " منهما " قبل ذكر المَلَكَيْن ، وهو اعتراض وَاهٍ فإنهما متقدمان لفظاً ، وتقدير تأخرهما لا يضرّ ؛ إذ المحذور عَوْدُ الضمير على غير مذكور في اللفظ .
الثالث : وهو أحد قولي سيبويه أنه عطف على " كفروا " ، فعل في موضع رفع ، فلذلك عطف عليه فعل مرفوع .
قال سيبويه : [ وارتفع ]{[1615]} " فيتعلمون " ؛ لأنه لم يُخْبِرْ عن الملكين أنهما قالا : لا تكفر فيتعلموا ليَجْعَلا كفره سبباً لتعلم غيره ، ولكنه على : كفروا فيتعلمون ، وشَرْحُ ما قاله هو أنه يريد أن ليس " فيتعلمون " جواباً لقوله : فلا تكفر فينتصب في جواب النهي ، كما انتصب : { فَيُسْحِتَكُم } [ طه : 61 ] ، بعد قوله : " لاَ تَفْتَرُوا " لأن كُفْرَ من نهياه أن يكفر ليس سبباً لتعلّم من يتعلم . واعترض على هذا بما تقدّم من لزوم الإضمار قبل الذكر ، وتقدم جوابه .
الرابع : وهو القول الثاني ل " سيبويه " أنه خبر مبتدأ محذوف ، والتقدير : " فهم يتعلمون " ، فعطف جملة اسمية على فعلية .
الخامس : قال الزَّجَّاج أيضاً : والأجود أن يكون معطوفاً على " يعلّمان فيتعلّمون " فاستغني عن ذكر " يعلمون " على ما في الكلام من الدليل عليه [ واعترض أبو علي قول الزجاج ؛ فقال : " لا وجه لقوله : استغني عن ذكر " يعلمان " ؛ لأنه موجود في النص " . وهذا الاعتراض من أبي علي تحامل عليه لسبب وقع بينهما ؛ فإن الزجاج لم يرد أن " فيتعلمون " عطف على " يعلمان " المنفي ب " ما " في قوله : " وما يعلمان " حتى يكون مذكوراً في النص ، وإنما أراد أن ثم فعلاً مضمراً يدل عليه قوة الكلام وهو : " يعلمان فيتعلمون " ]{[1616]} .
السَّادس : أنه عطف على معنى ما دلّ عليه أول الكلام ، والتقدير : فيأتون فيتعلّمون ، ذكره الفراء والزجاج أيضاً .
السَّابع : قال أبو البقاء : وقيل : هو مستأنف ، وهذا يحتمل أن يريد أنه خبر مبتدأ مضمر كقول سيبويه رحمه الله وأن يكون مستقلاًّ بنفسه غير محمول على شيء قبله ، وهو ظاهر كلامه .
قوله : " مِنْهُمَا " متعلّق ب " يعلمون " .
و " من " لابتداء الغاية ، وفي الضمير ثلاثة أقوال : أظهرها : عوده إلى المَلَكين ، سواء قرئ بكسر اللام أو فتحها .
والثاني : يعود على السّحر وعلى المنزل على الملكين .
والثالث : أنه يعود على الفتنة ، وعلى الكفر المفهوم من قوله : " فلا تكفر " ، وهو قول أبي مسلم .
قوله : { مَا يُفَرِّقُونَ بِهِ } الظَّاهر في " ما " أنها موصولة اسمية .
وأجاز أبو البقاء أن تكون نكرة موصوفة ، وليس بواضح ، ولا يجوز أن تكون مصدرية لعود الضمير في " به " عليها ، والمصدرية حرف عند جمهور النحويين كما تقدم غير مَرّة .
و " بَيْنَ الْمَرْءِ " ظرف ل " يُفرّقُونَ " .
والجمهور على فتح ميم " المَرْءِ " مهموزاً ، وهي اللغة العالية .
وقرأ ابن{[1617]} أبي إسحاق : " المُرْء " بضم الميم مهموزاً .
وقرأ الأشهب العقيلي والحسن : " المِرْءُ " بكسر الميم مهموزاً .
وأما الكسر فيحتمل أن يكون لغة مطلقاً ، ويحتمل أن يكون ذلك للإتباع ، وذلك أن في " المرء " لغة وهي أن " فاءه " تَتْبَعُ " لامه " ، فإن ضم ضمت ، وإن فتح فتحت ، وإن كسر كسرت ، تقول : " ما قام المُرْءُ " بضم الميم و " رأيت المَرْءَ " بفتحها ، و " مررت بالمِرْءِ " بكسرها ، وقد يجمع بالواو والنون ، وهو شاذ .
قال الحسن في بعض مواعظه : " أحْسِنُوا مَلأَكُمْ أَيُّهَا المَرْؤون " أي : أخلاقكم .
وقرأ الحسن ، والزهري " المَرِ " بفتح الميم وكسر الراء خفيفة ، ووجهها أنه نقل حركة الهمزة على " الواو " وحذف الهمزة تخفيفاً وهو قياس مطّرد .
وقرأ الزهري أيضاً : " المَرِّ " بتشديد الرَّاء من غير همز ، ووجهها أنه نقل حركة الهمزة إلى الرَّاء ، ثم رأى الوقف عليها مشدّداً ، كما روي عن عاصم { مُّسْتَطَرٌّ } [ القمر : 53 ] بتشديد الراء ثم أجرى الوَصْل مجرى الوقف .
ذكروا في تفسير التفريق هاهنا وجهين :
الأول : أن هذا التفريق إنما يكون بأن يعتقد بأن ذلك السحر مؤثر في هذا التفريق ، فيصير كافراً ، وإذا صار كافراً بَانَتْ منه امرأته ، فيحصل تفريق{[1618]} بينهما .
الثاني : أنه يفرق بينهما بالتمويه والحِيَل ، والتَّضْريب وسائر الوجوه المذكورة . وذكره التفريق دون سائر الصُّور التي يتعلّمونها تنبيهاً على الباقي ، فإن ركون الإنسان إلى زوجته معروف زائد على مودّة قريبة ، فإذا وصل بالسحر إلى هذا الأمر مع شدّته فغيره أولى ، ويدلّ عليه قوله تعالى :
{ وَمَا هُمْ بِضَارِّينَ بِهِ مِنْ أَحَدٍ } فإنه أطلق الضرر ، ولم يقصره على التفريق ، فدلّ على أنه إنما ذكره ؛ لأنه من أعلى مراتبه .
قوله : { وَمَا هُمْ بِضَارِّينَ بِهِ مِنْ أَحَدٍ } يجوز في " ما " وجهان .
أحدهما : أن تكون الحجازية ، فيكون " هم " اسمها ، و " بِضارين " خبرها ، و " الباء " زائدة ، فهو في محل نصب .
والثاني : أن تكون التميمية ، فيكون " هم " مبتدأ ، و " بِضَارِّينَ " خبره ، و " الباء " زائدة أيضاً فهو في محل رفع .
أحدها : أنه عائد على السَّحرة العائد عليهم ضمير " فَيَتَعَلَّمُونَ " .
الثاني : يعود على اليهود العائد عليهم ضمير " واتبعوا " .
الثالث : يعود على الشياطين والضمير في " به " يعود على " ما " في قوله : { وَمَا يُفَرِّقُونَ بِهِ } .
والجمهور على " بَضَارِّينَ " بإثبات النون و " مِنْ أَحَدٍ " مفعول به ، وقرأ الأعمش{[1619]} : " بِضَارِّي " من غير نون ، وفي توجيه ذلك قولان :
أظهرهما : أنه أسقط النون تخفيفاً ، وإن لم يقع اسم الفاعل صلةً ل " أل " ؛ مثل قوله : [ الطويل ]
712- وَلَسْنَا إِذَا تَأْبَوْنَ سِلْماً بِمُذْعِنِي *** لَكُمْ غَيْرَ أَنَّا إِنْ نُسَالَمْ نُسَالمِ{[1620]}
أي : بمذعنين ونظيره في التَّثْنية : " قَطَا قَطَا بَيْضُك ثِنْتَا ، وَبِيْضِي مِائَتَا " يريدون ثِنْتَانِ وَمِائَتَانِ .
والثاني وبه قال الزَّمخشري ، وابن عطية أن النُّونَ حذفت للإضافة إلى " أحدٍ " ، وفصل بين المضاف والمضاف إليه بالجار والمجرور ، وهو " به " ؛ كما فصل به في قول الآخر : [ الطويل ]
713- هُمَا أَخَوَا فِي الْحَرْبِ مَنْ لاَ أَخَا لَهُ *** إِذَا خَافَ يَوْماً نَبْوةً فَدَعَاهُمَا{[1621]}
714- كَمَا خُطَّ الْكِتَابُ بِكَفِّ يَوْماً *** يَهُودِيِّ يُقارِبُ أَوْ يُزِيلُ{[1622]}
ثم استشكل الزمخشري ذلك فقال : فإن [ قلت ]{[1623]} كيف يضاف إلى " أحد " وهو مجرور ؟ قلت : جعل الجار جزءاً من المجرور .
قال أبو حيان : وهذا التخريج ليس يجوز ؛ لأن الفصل بين المتضايفين بالظَّرف والمجرور من ضَرَائر الشعر ، وأقبح من ذلك ألا يكون ثم مضاف إليه ؛ لأنه مشغول بعامل جَرّ ، فهو المؤثر فيه لا الإضافة .
وأما جعله حرف الجر جزءاً من المجرور فليس بشيء ؛ لأن هذا مؤثر فيه ، وجزء الشيء لا يؤثر فيه .
وأجيب بأن الفصل من ضرائر الشعر فليس كما قال ، لأنه قد فصل بالمفعول به في قراءة{[1624]} ابن عامر ، فبالظرف وشبهه أولى ، وسيأتي تحقيق ذلك في الأنعام . وأما قوله : لأن جزء الشيء لا يؤثر فيه .
فإنما ذلك في الجزء الحقيقي ، وهذا إنما قال : ننزله منزلة الجزء ، ويدلّ على ذلك قول [ النحاة ]{[1625]} الفعل كالجزء من الفاعل ، ولذلك أنّث لتأنيثه ، ومع ذلك فهو مؤثِّر فيه .
و " من " في " من أحد " زائدة لتأكيد الاستغراق كما تقدم في : { وَمَا يُعَلِّمَانِ مِنْ أَحَدٍ } .
وينبغي أن يجيء قول أبي البقاء : إن " أحداً " يجوز أن يكون بمعنى واحد ، والمعهود زيادة " من " في المفعول به المعمول لفعل منفي نحو : ما ضربت من أحد ، إلا أنه حملت الجملة الاسمية الدَّاخل عليها حرف النفي على الفعليّة المنفية في ذلك ؛ لأن المعنى : وما يضرون من أحد ، إلا أنه عدل إلى هذه الجملة المصدرة بالمبتدأ المخبر عنه باسم الفاعل الدّال على الثبوت ، والاستقرار المزيد فيه باء الجر للتوكيد المراد الذي لم تفده الجملة الفعلية{[1626]} .
قوله : { إِلاَّ بإِذْنِ اللهِ } هذا استثناء مفرّغ من الأحوال ، فهو في محل نَصْب على الحال ، فيتعلّق بمحذوف ، وفي صاحب هذه الحال أربعة أوجه :
أحدها : أنه الفاعل المستكن في " بضارين " .
الثاني : أنه المفعول وهو " أحد " وجاءت الحال من النكرة ؛ لاعتمادها على النفي .
والثالث : أن الهاء في " به " أي بالسحر ، والتقدير : وما يضرون أحداً بالسحر إلا ومعه علم الله ، أو مقروناً بإذن الله ونحو ذلك .
والرابع : أنه المصدر المعروف وهو الضرر ، إلا أنه حذف للدلالة عليه .
قال ابن الخطيب{[1627]} : الإذن حقيقة في الأمر والله لا يأمر بالسحر ، لأنه تعالى أراد عيبهم وذمهم عليه ، ولو كان قد أمرهم به لما جاز أن يذمهم عليه ، فلا بد من التأويل ، وفيه وجوه :
أحدها : قال الحسن : المراد منه التَّخْلية يعني الساحر إذا سحر إنساناً ، فإن شاء الله تعالى منعه منه ، وإن شاء خَلَّى بينه وبين ضرر السحر .
وثانيها : قال الأصم : المراد : " إِلاَّ بعلم الله " ، وإنما سمي الأذان أذاناً ، لأنه إعلام للناس بدخول وقت الصلاة ، وسمي الإيذان إيذاناً ؛ لأن بالحاسة به تدرك الإذن ، وكذلك قوله تعالى : { وَأَذَانٌ مِّنَ اللَّهِ وَرَسُولِهِ إِلَى النَّاسِ يَوْمَ الْحَجِّ } [ التوبة : 3 ] أي : إعلام ، وقوله تعالى { فَأْذَنُواْ بِحَرْبٍ مِّنَ اللَّهِ وَرَسُولِهِ } [ البقرة : 279 ] معناه : فاعلموا ، وقوله : { آذَنتُكُمْ عَلَى سَوَاءٍ } [ الأنبياء : 109 ] يعني : أعلمتكم .
وثالثها : أن الضرر الحاصل عند فعل السِّحر إنما يحصل بخلق الله ، وإيجاده وإبداعه ، وما كان كذلك فإنه يصح أن يضاف إلى إذن الله تعالى كما قال : { إِنَّمَا قَوْلُنَا لِشَيْءٍ إِذَآ أَرَدْنَاهُ أَن نَّقُولَ لَهُ كُن فَيَكُونُ }
ورابعها : أن يكون المراد بالإذن الأمر ، وهذا الوجه لا يليق إلاَّ بأن يُفَسّر التفريق بين المرء وزوجه بأن يصير كافراً ، والكفر يقتضي التفريق ، فإنَّ هذا حكم شرعي ، وذلك لا يكون إلا بأمر الله تعالى .
قوله : " وَلاَ يَنْفَعُهُمْ " في هذه الجملة وجهان .
أحدهما : وهو الظاهر أنها عطف على " يضرهم " فتكون صلة ل " ما " أيضاً ، فلا محلّ لها من الإعراب .
والثاني ، وأجازه أبو البقاء : أن تكون خبراً لمبتدأ مضمر تقديره : وهو لا ينفعهم ، وعلى هذا فتكون " الواو " للحال ، والحملة من المبتدأ والخبر في محلّ نصب على الحال ، وهذه الحال تكون مؤكّدة ؛ لأن قوله : " ما يضرهم " يفهم منه عدم النفع .
قال أبو البقاء : ولا يصح عطفه على " ما " ؛ لأن الفعل لا يعطف على الاسم .
وهذا من المواضع المستغنى عن النصّ على منعها لوضوحها ، وإنما ينص على منع شيء يتوهم جوازه .
وأتى هنا ب " لا " لأنها ينفى بها الحال والاستقبال ، وإن كان بعضهم خصّها بالاستقبال ، والضُّرُّ والنفع معروفان ، يقال ضَرَّهُ يَضُرُّهُ بضم الضاد ، وهو قياس المضاعف المتعدِّي ، والمصدر : الضُّر والضَّر بالضم والفتح ، والضَّرَر بالفك أيضاً ، ويقال : ضَارَةُ يَضِيرُهُ بمعناه ضَيراً ؛ قال الشاعر :
715- تَقُولُ أُنَاسٌ لاَ يَضِيرُكَ نَأْيُهَا *** بَلَى كُلُّ ما شَفَّ النُّفُوسَ يَضِيْرُهَا{[1628]}
وليس حرف العلة مبدلاً من التضعيف .
ونقل بعضهم : أنه لا يبنى من نفع اسم مفعول فيقال : منفوع ، والقياس لا يأباه .
قوله : " ولقد علموا " تقدم أن هذه اللاَّم جواب قسم محذوف .
و " علم " يجوز أن تكون متعدية إلى اثنين أو إلى واحد ، وعلى كلا التقديرين فهي مُعَلَّقة عن العمل فيما بعدها لأجل اللام ، فالجملة بعدها في محل نصب ؛ إما سادّة مسدَّ مفعولين ، أو مفعول واحد على حسب ما تقدم ، ويظهر أثر ذلك في العطف عليها ، فإن اعتقدنا تعديها لاثنين عطفنا على الجملة بعدها مفعولين ، وإلا عطفنا واحداً ، ونظيره في الكلام : علمت لزيد قائم وعمراً ذاهباً ، أو علمت لزيد قائم وذهاب عمرو .
والذي يدل على أن الجملة المعلقة بعد علم في محل نصب وعَطْفَ المنصوب على محلها قولُ الشاعر : [ الطويل ]
716- وَمَا كُنْتُ أَدْرِي قَبْلَ عَزَّةَ مَا الْهَوَى *** وَلاَ مُوجِعَاتِ القَلْبِ حَتَّى تَوَلَّتِ{[1629]}
روي بنصب " موجعاتِ " على أنه عطف على محل " ما الهَوَى " ، وفي البيت كلام إذ يحتمل أن تكون " ما " زائدة ، " والهوى " مفعول به ، فعطف " موجعاتِ " عليه ، ويحتمل أن تكون " لا " نافية للجنس و " موجعاتِ " اسمها ، والخبر محذوفٌ كأنه قال : ولا موجعاتِ القلبِ عنْدِي حتى تولَّتِ .
والضمير في " علموا " فيه خمسة أقوال :
أحدها : ضمير اليهود الذين بحضرة محمد عليه السلام ، أو ضمير من بحضرة سليمان ، أو ضمير جميع اليهود ، أو ضمير الشياطين أو ضمير الملكين عند من يرى أن الاثنين جمع .
قوله : " لَمَنِ اشْتَرَاهُ " في هذه اللام قولان :
أحدهما{[1630]} : وهو ظاهر{[1631]} قول النحاة أنها لام الابتداء المُعَلِّقة ل " عَلِمَ " عن العمل كما تقدم ، و " مَنْ " موصولة في محلّ رفع بالابتداء ، و " اشتراه " صلتها وعائدها .
و { مَا لَهُ فِي الآخِرَةِ مِنْ خَلاَقٍ } جملة من مبتدأ وخبر ، و " من " زائدة في المبتدأ ، والتقدير : ما له خلاق في الآخرة .
وهذه الجملة في محل رفع خبر ل " من " الموصولة ، فالجملة من قوله : " ولقد علموا " مقسم عليها كما تقدم ، و " لَمَن اشْتَرَاهُ " غير مقسم عليها ، هذا مذهب سيبويه رحمه الله تعالى والجمهور .
الثاني : وهو قول الفراء ، وتبعه أبو البقاء : أن تكون هذه اللام هي الموطّئة للقسم ، و " مَنْ " شرطية في محل رفع بالابتداء ، و { مَا لَهُ فِي الآخِرَةِ مِنْ خَلاَقٍ } جواب القسم ، ف " اشتراه " على القول الأول صلة ، وعلى الثاني خبر لاسم الشرط ، ويكون جواب الشرط محذوفاً ؛ لأنه إذا اجتمع شرط وقسم ، ولم يتقدمهما ذو خبر أجيب سابقهما غالباً ، وقد يجاب الشرط مطلقاً كقوله : [ الطويل ]
717- لَئِنْ كَانَ مَا حُدِّثْتُهُ الْيَوْمَ صَادِقاً *** أَصُمْ فِي نَهَارِ الْقَيْظِ لِلشَّمْسِ بَادِيَا{[1632]}
ولا يحذف جواب الشرط إلا وفعله ماض ، وقد يكون مضارعاً كقوله : [ الطويل ]
718- لَئِنْ تَكُ قَدْ ضَاقَتْ عَلَيْكُمْ بُيُوتُكُمْ *** لَيَعْلَمُ رَبِّي أَنَّ بَيْتِيَ وَاسِعُ{[1633]}
فعلى قول الفَرَّاء تكون الجملتان من قوله : " وَلَقَدْ عَلِمُوا " ، و " لَمَنِ اشْتَرَاهُ " مُقْسَماً عليهما ونقل عن الزجاج منع قول الفراء فإنه قال : هذا ليس موضع شرط ولم يوجه منع ذلك ، والذي يظهر في منعه ، أن الفعل بعد " مَنْ " وهو " اشْتَرَاهُ " ماض لفظاً ومعنى ، فإن الاشتراء قد وقع وانفصل ، فجعله شرطاً لا يصح ؛ لأن فعل الشرط وإن كان ماضياً لفظاً ، فلا بد أن يكون مستقبلاً معنى .
فصل في أوجه استعارة لفظ الشراء
أحدها : أنهم لما نبذوا كتاب الله وراء ظُهُورهم ، وأقبلوا على التمسُّك بما تتلو الشَّياطين ، فكأنهم قد اشتروا ذلك السحر بكتاب الله تعالى .
وثانيها : أن المَلَكين إنما قصدا بتعليم السحر الاحتراز عنه ليصل بذلك الاحتراز إلى منافع الآخرة ، فلما استعمل السحر ، فكأنه اشترى بمنافع الآخرة منافع الدنيا .
وثالثها : أنهم تحملوا مشقة تعليمه ليستعملوه ، فكأنهم أبدلوا الراحة في مقابلة التعليم لأجل الاستعمال . والخَلاَق : النصيب .
قال الزّجاج : أكثر استعماله في الخير .
فأما قول أميّة بن أبي الصلت : [ البسيط ]
719- يَدْعُونَ بالْوَيْلِ فِيهَا لاَ خَلاَقَ لَهُمْ *** إِلاَّ سَرَابِيلُ مِنْ قَطْرٍ وَأَغْلاَلُ{[1634]}
أحدها : أنه على سبيل التهكُّم بهم ؛ كقوله : [ الوافر ]
720- . . . *** تَحِيَّةُ بَيْنِهِمْ ضَرْبٌ وَجِيعُ{[1635]}
والثاني : أنه استثناء منقطع ، أي : لكن لهم السَّرَابيل من كذا .
الثالث : أنه استعمل في الشر على قلة .
والخلاق : القَدْر ؛ قال : [ المتقارب ]
721- فَمَا لَكَ بَيْتٌ لَدَى الشَّامِخَاتِ *** وَمَا لَكَ فِي غَالِبٍ مِنْ خَلاَقْ{[1636]}
أي : من قَدر ورتبة ، وهو قريب من الأول .
قال القَفَّال رحمه الله تعالى : يشبه أن يكون أصل الكلمة من الخلق ، ومعناه التقدير ، ومنه : خلق الأديم ، ومنه يقال : قدر للرجل كذا درهماً رزقاً على عمل كذا . والضمير المنصوب في " اشتراه " فيه أربعة أقوال :
يعود على السحر ، أو الكفر ، أو كَيْلهم الذي باعوا به السحر ، أو القرآن لتعويضهم كتب السحر عنه . وتقدم الكلام على قوله : " وَلَبِئْسَ مَا " وما ذكر الناس فيها ، واللام في " لبئسما " جواب قسم محذوف تقديره : والله لبئسما ، والمخصوص بالذّّم محذوف أي : السحر أو الكفر .
قوله : { لَوْ كَانُواْ يَعْلَمُونَ } جواب " لو " محذوف تقديره : لو كانوا يعلمون ذم ذلك لما باعوا به أنفسهم ، وهذا أحسن من تقدير أبي البقاء : لو كانوا ينتفعون بعلمهم لامتنعوا من شراء السحر ؛ لأن المقدر كلما كان مُتصَيَّداً من اللفظ كان أَوْلَى . والضمير في " به " يعود على السحر ، أو الكفر ، وفي " يعلمون " يعود على اليَهُودِ باتفاق .
قال الزمخشري{[1637]} : فإن قلت : كيف أثبت لهم العلم أولاً في : " وَلَقَدْ عَلِمُوا " على سبيل التوكيد القسمي ، ثم نفاه عنهم في قوله : { لَوْ كَانُواْ يَعْلَمُونَ } .
قلت : معناه : لو كانوا يعملون بعلمهم ، جعلهم حين لم يعملوا به كأنهم منسلخون عنه ، وهذا بناء منه على أن الضميرين في " عَلِمُوا " و " يَعْلَمُونَ " لشيء واحد .
وأجاب غيره على هذا التقدير بأن المراد بالعلم الثاني العَقْل ؛ لأن العلم من ثمرته ، فلما انتفى الأصل انتفى ثمرته ، فصار وجود العلم كالعدم حيث لم ينتفعوا به كما سمى الله تعالى الكفار " صُمّاً وبُكْماً وعُمْياً " إذ لم ينتفعوا [ بهذه الحواس ]{[1638]} أو يغاير بين متعلّق العلمين أي : علموا ضرره في الآخرة ، ولم يعلموا نفعه في الدنيا .
وأما إذا أعدت الضمير في " علموا " على الشياطين ، أو على مَنْ بحضرة سليمان ، أو على الملكين ، فلا إشكال لاختلاف المسند إليه العلم حينئذ .