لما حكى خيانَتَهم في باب الدِّين ذكرها - أيضاً - في الأموال .
قوله : " مَنْ " مبتدأ ، و { وَمِّنْ أَهْلِ } خَبَرُه ، قُدِّمَ عليه ، و " مَنْ " إما موصولة ، وإما نكرة . و " إن تأمنه بقنطار يؤده " هذه الجملة الشرطية ، إما صلة ، فلا محل لها ، وإما صفة فمحلّها الرفع .
وقرأ بعضهم : { تِئْمنه } ، و { مَا لَكَ لاَ تِئْمَنَّا } [ يوسف : 11 ] . بكسر حرف المضارعة ، وكذلك ابن مسعود والأشهب والعقيلي ، إلا أنهما أبْدَلاَ الهمزة ياءً .
وجعل ابن عطية ذلك لغة قُرَيْشٍ ، وغلَّطه أبو حيّان وقد تقدّمَ الْكَلاَمُ في كسر حرف المضارعةِ ، وشرطه في الفاتحة{[5632]} يقال : أمنته بكذا ، وعلى كذا ، فالباءُ للإلصاق بالأمانة ، و " على " بمعنى استيلاء المودع على الأمانة .
وقيل : معنى : أمنته بكذا ، وثقت به فيه ، وأمنته عليه : جعلته أميناً عليه .
والقنطارُ والدينار : المراد بهما العددُ الكثيرُ ، والعدد القليل ، يعني : أن فيهم مَنْ هو في غاية الأمانة ، حتى أنه لو ائتمِن على الأموال الكثيرة أدَّى الأمانة فيها ، ومنهم من هو في غاية الخيانة ، حتى لو ائتُمِن على الشيء القليل فإنه يخون فيه .
واختلف في القنطار ، فقيل : ألف ومائتان أوقية ؛ لأن الآية نزلت في عبد الله بن سلام ، حين استودعه رجل من قريش ألفاً ومائتي أوقية من الذهب ، فردَّه ، ولم يَخُنْ فيه {[5633]} .
ورُوِي عن ابن عباس أنه مِلْءُ جلد ثور من المال .
وقيل : ألف ألف دينار ، أو ألف ألف درهم - وقد تقدم- .
والدينار : أصله : دِنَّار - بنونين - فاستثقل توالي مثلَيْن ، فأبدلوا أولهما حرفَ علة ، تخفيفاً ؛ لكثرة دوره في لسانهم ، ويدل على ذلك رَدُّه إلى النونين - تكسيراً وتصغيراً - في قولهم : دَنَانير ودُنَيْنِير .
ومثله قيراط ، أصله : قِرَّاط ، بدليل قراريط وقُرَيْرِيط ، كما قالوا : تَظَنَّيْتُ ، وقصَّصْتُ أظفاري ، يريدون : تظنّنت وقصّصت - بثلاث نونات وثلاث صاداتٍ - والدِّينار مُعرَّب ، قالوا : ولم يختلف وزنه أصْلاً وهو أربعة وعشرون قيراطاً ، كل قِيراطٍ ثلاث شعيرات معتدلاتٍ ، فالمجموع اثنان وسبعون شعيرةً .
وقرأ أبو عمرو وحمزة وأبو بكر عن عاصم " يُؤَدِّهْ " بسكون الهاء في الحرفين .
وقرأ قالون " يُؤَدِّهِ " بكسر الهاء من دون صلة ، والباقون بكسرها موصولة بياء{[5634]} ، وعن هشام وجهان :
أحدهما : كقالون ، والآخر كالجماعة .
أما قراءة أبي عمرو ومن معه فقد خرَّجوها على أوجه ، أحسنها أنه سكنت هاء الضمير ، إجراءً للوصْل مجرى الوقف وهو باب واسع مضى منه شيء - نحو : { يَتَسَنَّهْ } [ البقرة : 259 ] و{ أَنَا أُحْيِي وَأُمِيتُ } [ البقرة : 258 ] وسيأتي منه أشياء إن شاء الله تعالى .
وأنشد ابنُ مجاهد على ذلك : [ البسيط ]
أشْرَبُ الْمَاءَ مَا بِي نَحْوَهُ عَطَشٌ *** إلاَّ لأنَّ عُيُونَهْ سَيْلُ وَادِيهَا{[5635]}
فَبتُّ لَدَى الْبَيْتِ الْعَتِيقِ أخِيلُهُ *** وَمِطْوايَ مُشْتَاقَانِ لَهْ أرقَان{[5636]}
إلا أن هذا يخصُّه بعضهم بضرورة الشعر ، وليس كما قال ، لما سيأتي .
وقد طعن بعضهم على هذه القراءةِ ، فقال الزَّجَّاجُ : هذا الإسكان الذي رُوِيَ عن هؤلاء غلط بَيِّنٌ ؛ وأن الفاء لا ينبغي أن تُجْزَم ، وإذا لم تُجْزَم فلا تسكن في الوصل ، وأما أبو عمرو فأُراه كان يختلس الكسرة ، فغلط عليه كما غلط عليه في " باريكم " . وقد حكى عنه سيبويه - وهو ضابط لمثل هذا - أنه كان يكسر كسراً خفياً ، يعني يكسر في { بَارِئِكُمْ } [ البقرة : 54 ] كسراً خفيًّا ، فظنه الراوي سكوناً .
قال شهابُ الدينِ : وهذا الرد من الزجَّاج ليس بشيءٍ لوجوه :
منها : أنه فَرَّ من السكون إلى الاختلاس ، والذي نصَّ على أن السكون لا يجوز نص على أنَّ الاختلاس - أيضاً - لا يجوز إلا في ضرورة ، بل جعل الإسكان في الضرورة أحسن منه في الاختلاس ، قال : ليُجْرَى الوصلُ مجرى الوقف إجراء كاملاً ، وجعل قوله : [ البسيط ]
. . . *** إلاَّ لأن عُيُونَهْ سَيْلُ وَادِيهَا{[5637]}
. . . *** مَا حَجَّ رَبَّهُ في الدُّنْيَا ولا اعْتَمَرَا{[5638]}
حيث سكن الأول ، واختلس الثاني .
ومنها أن هذه لغة ثابتة عن العرب حفظها الأئمة الأعلام كالكسائي والفراء - حكى الكسائيُّ عن بني عقيل وبني كلابٍ { إِنَّ الإِنسَانَ لِرَبِّهِ لَكَنُود } [ العاديات : 6 ] - بسكون الهاء وكسرها من غير إشباع- .
ويقولون : لَهُ مال ، ولَهْ مالٌ - بالإسكان والاختلاس .
قال الفراء : من العرب مَنْ يجزم الهاء - إذا تحرَّك ما قبلَها - نحو ضَرَبْتُهْ ضرباً شديداً ، فيسكنون الهاء كما يسكنون ميم " أنتم " و " قمتم " وأصلها الرفع .
لمَّا رَأى أن لا دَعَهْ ولا شِبَعْ *** مَالَ إلَى أرْطَاةِ حِقف فالطَجَعْ{[5639]}
قال شهاب الدينِ : وهذا عجيب من الفرَّاء ؛ كيف يُنْشِد هذا البيت في هذا المَعْرِض ؛ لأن هذه الفاء مبدلة من تاء التأنيث التي كانت ثابتةً في الوصل ، فقلبها هاءً ساكنة في الوصل ؛ إجراءً له مُجْرَى الوقف وكلامنا إنما هو في هاء الضمير لا في هاء التأنيثِ ؛ لأن هاء التانيثِ لا حَظَّ لها في الحركة ألبتة ، ولذلك امتنع رومها وإشمامُها في الوقف ، نَصُّوا على ذلك ، وكان الزجاج يُضَعَّف في اللغة ، ولذلك رد على ثعلب - في فصيحه - أشياء أنكرها عن العرب ، فردَّ الناسُ عليه رَدَّه ، وقالوا : قالتها العربُ ، فحفظها ثعلب ولم يحفظْها الزجَّاج . فليكن هذا منها .
وزعم بعضهم أن الفعلَ لما كان مجزوماً ، وحلت الهاءُ محلّ لامِهِ جرى عليها ما يَجْرِي على لام الفعل - من السكون للجزم - وهو غير سديدٍ .
وأما قراءة قالون فأنشدوا عليها قول الشاعر : [ الوافر ]
لَهُ زَجَلٌ كأنَّهُ صَوْتُ حَادٍ *** إذَا طَلَبَ الْوَسِيقَةَ أوْ زَمِيرُ{[5640]}
أنَا ابْنُ كِلابٍ وابْنُ أوْسٍ فَمَنْ يَكُنْ *** قِنَاعُهُ مغْطِيًّا فَإنِّي لَمُجْتَلى{[5641]}
أوْ مَعْبَرُ الظَّهْرِ يُنْبي عَنْ وَلِيَّتِهِ *** مَا حَجَّ رَبَّهُ فِي الدُّنْيَا وَلا اعْتَمَرَا{[5642]}
وقد تقدم أنها لغة عقيل ، وكلاب أيضاً ، وأما قراءة الباقين فواضحة وقرأ الزهريُّ " يُؤَدِّهو " بضم الهاء بعدها واو ، وهذا هو الأصل في هاء الكتابة ، وقرأ سَلاَّم{[5643]} كذلك إلا أنه ترك الواوَ فاختلس ، وهما نظيرتا قراءتي " يؤدهي " و { يُؤَدِّهِ } - بالإشباع والاختلاس مع الكسرِ واعلم أن هذه الهاء متى جاءت بعد فعل مجزوم ، أو أمر معتلِّ الآخر ، جَرَى فيها هذه الأوجُه الثلاثة أعني السكون والإشباع والاختلاس - كقوله : { نُؤْتِهِ مِنْهَا } [ آل عمران : 145 ] وقوله : { يَرْضَهُ لَكُم } [ الزمر : 7 ] وقوله : { مَا تَوَلَّى وَنُصْلِهِ جَهَنَّم } [ النساء : 115 ] ، وقوله : { فَأَلْقِهْ إِلَيْهِم } [ النمل : 28 ] وقد جاء ذلك في قراءة السبعة - أعني : الأوجه الثلاثة - في بعض هذه الكلمات وبعضها لم يأت فيه إلا وجه - وسيأتي مفصَّلاً في مواضعه إنْ شاء الله . وليس فيه أن الهاء التي للكناية متى سبقها متحرَّك فالفصيح فيها الإشباع ، نحو " إنَّهُ ، لَهُ ، بِهِ " ، وإن سبقها ساكن ، فالأشهر الاختلاس - سواء كان ذلك الساكن صحيحاً أو معتلاً - نحو فيه ، منه وبعضهم يفرق بين المعتلْ والصحيح وقد تقدم ذلك أول الكتاب .
إذا علم ذلك فنقول : هذه الكلمات - المشار إليها - إن نظرنا إلى اللفظ فقد وقعت بعد متحرِّك ، فحقها أن تشبع حركتها موصولةً بالياء ، أو الواو ، وإن سكنت فلما تقدم من إجراء الوصل مُجرى الوقف . وإن نظرنا إلى الأصل فقد سبقها ساكن - وهو حَرْفُ العلة المحذوف للجزم - فلذلك جاز الاختلاسُ ، وهذا أصل نافع مطرد في جميع هذه الكلمات .
قوله { بِدِينَارٍ } في هذه الباء ثلاثة أوجهٍ :
أحدها : أنها للإلصاق ، وفيه قَلَقٌ .
الثاني : أنها بمعنى " في " ولا بد من حذف مضاف ، أي : في حفظ قنطار ، وفي حفظ دينار .
الثالث : أنها بمعنى " على " وقد عُدِّيَ بها كثيراً ، كقوله : { مَا لَكَ لاَ تَأْمَنَّا عَلَى يُوسُفَ } [ يوسف : 11 ] وقوله : { هَلْ آمَنُكُمْ عَلَيْهِ إِلاَّ كَمَآ أَمِنتُكُمْ عَلَى أَخِيهِ مِن قَبْلُ } [ يوسف : 64 ] وكذلك هي في { بِقِنطَارٍ } .
قوله : { إِلاَّ مَا دُمْتَ عَلَيْهِ قَآئِماً } استثناء مفرَّغ من الظرف العام ؛ إذ التقدير : لا يؤده إليك في جميع المُددِ والأزمنة إلا في مدة دوامك قائماً عليه ، متوكِّلاً به و " دُمْتَ " هذه هي الناقصةُ ، ترفع وتنصب ، وشرط إعمالها أن يتقدمها ما الظرفية كهذه الآية إذ التقدير إلا مدة دوامك [ ولا ينصرف ، فأما قولهم : " يدوم " فمضارع " دام " التامة بمعنى بقي ، ولكونها صلة ل " ما " الظرفية ] لزم أن يكون بحاجة إلى كلام آخر ، ليعمل في الظرف نحو أصحبك ما دمت باكياً ولو قلت ما دام زيد قائماً من غير شيء لم يكن كلاماً .
وجوز أبو البقاء في " ما " هذه أن تكون مصدرية فقط ، وذلك المصدر - المنسبك منها ومن دام - في محل نصب على الحال ، وهو استثناءٌ مفرَّغ - أيضاً - من الأحوال المقدَّرة العامة ، والتقدير : إلا في حال ملازمتك له ، وعلى هذا ، فيكون " دَامَ " هنا تامة ؛ لما تقدم من أن تقدُّم الظرفية شرط في إعمالها ، فإذا كانت تامة انتصب " قَائماً " على الحال ، يقال : دام يدُوم - كقام يقوم - و " دُمت قائماً " بضم الفاء وهذه لغة الحجاز ، وتميم يقولون : دِمْت - بكسرها - وبها قرأ أبو عبد الرحمن وابن وثّابٍ والأعمشُ وطلحة والفياضُ بن غزوان{[5644]} وهذه لغة تميم ، ويجتمعون في المضارع ، فيقولون : يدوم يعني : أن الحجازيين والتميميين اتفقوا على أن المضارع مضمومُ الْعَيْنِ ، وكان قياسُ تميم أن تقول يُدام كخاف يخاف - فيكون وزنها عند الحجازيين فعَل - بفتح العين - وعند التميمين فِعل بكسرها هذا نقل الفراء .
وأما غيره فنقل عن تميم أنهم يقولون : دِمْتُ أدام - كخِفت أخاف - نقل ذلك أبو إسحاق وغيره كالراغب الأصبهاني والزمخشري .
وأصل هذه المادة : الدلالة على الثبوت والسكون ، يقل : دام الماء ، أي سكن . وفي الحديث : " لا يبولن أحدكم في الماء الدائم " وفي بعضه بزيادة : الذي لا يجري ، وهو تفسير له ، وأدَمْت القِدْرَ ، ودومتها سكنت غليانها بالماء ، ومنه : دامَ الشيء ، إذا امتدَّ عليه الزمان ، ودوَّمت الشمس : إذا وقعت في كبد السماء .
. . . *** وَالشَّمْسُ حيْرَى لَهَا في الْجَوِّ تَدْوِيمُ{[5645]}
هكذا أنشد الراغبُ هذا الشطر على هذا المعنى ، وغيره ينشده على معنى أن الدوام يُعَبَّر به عن الاستدارة حول الشيء ، ومنه الدوام ، وهو الدُّوَار الذي يأخذ الإنسان في دماغه ، فيرَى الأشياء دائرة . وأنشد معه - أيضاً - قول علقمة به عَبدَة : [ البسيط ]
تَشْفِي الصُّدَاعَ وَلاَ يُؤْذِيكَ سَالِيهَا *** وَلاَ يُخَالِطُهَا فِي الرَّأْسِ تَدْوِيمُ{[5646]}
ومنها : دوَّم الطائر ، إذا حَلَّق ودار .
قوله : " عَلَيْهِ " متعلق ب " قائِماً " وفي المراد بالقيام - هنا - وجهان :
الأول : الحقيقة ، وهو أن يقوم على رأس غريمه ، ويلازمه بالمطالبة ، وإن أخَّره أنكر .
قال القرطبيُّ : استدل أبو حنيفةَ على مذهبه في ملازمة الغريمِ بقوله تعالى : { إِلاَّ مَا دُمْتَ عَلَيْهِ قَآئِماً } وأباه سائر العلماء واستدلَّ بعضهم على حَبْس المِدْيان بقوله تعالى : { وَمِنْهُمْ مَّنْ إِن تَأْمَنْهُ بِدِينَارٍ لاَّ يُؤَدِّهِ إِلَيْكَ إِلاَّ مَا دُمْتَ عَلَيْهِ قَآئِماً } فإذا كان له ملازمته ، ومنعه من التصرف ، جاز حبسه .
وقيل معنى : إلا ما دمت عليه قائماً أي : بوجهك ، فيهابك ، ويستحيي منك ، فإن الحياء في العينين ألا ترى قول ابن عباس رضي الله عنه : لا تطلبوا من الأعمى حاجة فإن الحياء في العينين وإذا طلبتَ من أخيك حاجة فانظر إليه بوجهك ، حتى يستحيي فيقضيها .
قال ابن عباس : المرادَ من هذا القيام ، الإلحاح ، والخصومة ، والتقاضي ، والمطالبة ، قال ابن قُتَيْبَة : أصله أن المطالبَ للشيء يقوم فيه ، والتارك له يَبْعُد عنه ، بدليل قوله تعالى : { مِّنْ أَهْلِ الْكِتَابِ أُمَّةٌ قَآئِمَةٌ } [ آل عمران : 113 ] أي : عاملة بأمر الله ، غير تاركة .
ثم قيل لكل مَنْ واظب على مطالبة أمر : قام به - وإن لم يكن ثَمَّ قيام - وقال : أبو علي الفارسي : القيام - في اللغة - بمعنى الدوام والثبات ، كما ذكرناه في قوله تعالى : { الَّذِينَ يُقِيمُونَ الصَّلاَةَ } [ النمل : 3 ] ومنه قوله :
{ دِينًا قَِيِّمًا } [ الأنعام : 161 ] ، أي : دائماً ثابتاً لا ينسخ فمعنى الآية : دائماً ، ثابتاً في مطالبتك .
دلَّت الآية على انقسام أهل الكتاب إلى قسمين : أهل أمانة ، وأهل خيانة .
فقيل : أهل الأمانة هم الذين أسلموا ، وأهل الخيانة : هم الذين لم يُسْلِموا .
وقيل : أهل الأمانة هم النصارى وأهل الخيانة : هم اليهود .
وروى الضحاك عن ابن عباس - في هذه الآية { وَمِنْ أَهْلِ الْكِتَابِ مَنْ إِن تَأْمَنْهُ بِقِنْطَارٍ يُؤَدِّهِ إِلَيْكَ وَمِنْهُمْ مَّنْ إِن تَأْمَنْهُ بِدِينَارٍ لاَّ يُؤَدِّهِ إِلَيْكَ } يعني عبد الله بن سلام ، [ أودعه رجل ألفاً ومائتي أوقية من ذهب ، فأداه . { وَمِنْهُمْ مَّنْ إِن تَأْمَنْهُ بِدِينَارٍ لاَّ يُؤَدِّهِ إِلَيْكَ } يعني : فنحاص بن عازوراء{[5647]} ]{[5648]} ، استودعه رجل من قريش ديناراً ، فخانه .
يدخل تحت هذه الآية العَيْنُ والدَّيْنُ ؛ لأن الإنسانَ قد يأتمن غيره على الوديعة ، وعلى المبايعة ، وعلى المقارضة ، وليس في الآية ما يدل على التعيين ، ونُقِل عن ابنِ عباس أنه حمله على المبايعة ، فقال ومنهم من تبايعه بثمن القنطار ، فيؤديه إليك ، ومنهم من تبايعه بثمنِ الدينارِ ، فلا يؤديه إليك ونقلنا - أيضاً - أن الآية نزلت في رجل أودعَ مالاً كثيراً عبد الله بن سلام فأدَّاه ، ومالاً قليلاً عند فنحاص بن عازوراء فلم يؤده ، فثبت أن اللفظ محتمل لجميع الأقسام .
قوله : { ذلِكَ بِأَنَّهُمْ قَالُواْ لَيْسَ عَلَيْنَا فِي الأُمِّيِّينَ سَبِيلٌ } ذكروا في السبب الذي لأجله اعتقد اليهود هذا الاستحلال وجوهاً :
أحدها : أنهم يبالغون في التعصُّب لدينهم ، فلذلك يقولون : يحل لنا قتل المخالف ، وأخذ ماله بأي طريق كان ، وروي أنه لما نزلت هذه الآية قال صلى الله عليه وسلم : " كَذَبَ أعْدَاءُ اللهِ ، مَا مِنْ شَيْءٍ كَانَ فِي الْجَاهِلِيّةِ إلا وهُو تَحْتَ قدَميَّ ، إلاَّ الأمَانَةَ ، فإنَّهَا مُؤدَّاة إلى البَرِّ والْفَاجِرِ " {[5649]} .
الثاني : أن اليهود قالوا : { نَحْنُ أَبْنَاءُ اللَّهِ وَأَحِبَّاؤُهُ } [ المائدة : 18 ] والخلق لنا عبيد ، فلا سبيل لأحد علينا ، إذا أكلنا أموال عبيدنا .
الثالث : قال القرطبيُّ : قالت اليهود : إن الأموال كانت كلُّها لنا ، فما في أيدي العرب منها ، فهو لنا ؛ ظلمونا وغصبونا ، فلا سبيل علينا في أخذنا إياه منهم .
الرابع : قال الحسنُ وابنُ جريجٍ ومقاتلٍ : إن اليهودَ إنما ذكروا هذا الكلامَ لمن خالفهم من العرب الذين آمنوا بالرسول خاصَّةً ، وليس لكل من خالفهم .
ورُوي أنهم بايعوا رجالاً في الجاهلية ، فلما أسلموا طالبوهم بالأموال ، فقالوا : ليس علينا حَقٌّ ؛ لأنكم تركتم دينكم . وادَّعَوْا أنهم وجدوا ذلك في كتابهم{[5650]} .
قال ابن الخطيبِ : " ومن المحتملِ أنه كان من مذهب اليهود ، أن مَن انتقل من دين باطلٍ إلى دين آخرَ باطلٍ كان في حكم المرتدِّ ، فهم - وإن اعتقدوا أن العرب كُفار ، إلا أنهم لما اعتقدوا في الإسلام أنه كُفر - حكموا على العرب الذي أسلموا بالرِّدَّةِ .
قوله : { لَيْسَ عَلَيْنَا } يجوز أن يكون في " ليس " ضمير الشأنِ - وهو اسمها - وحينئذ يجوز أن يكون " سبيل " مبتدأ ، و " عَلَيْنَا " الخبر ، والجملة خبر ليس . ويجوز أن يكون " عَلَيْنَا " وحده هو الخبر ، و { سَبِيل } مرتفع به على الفاعلية . ويجوز أن يكون { سَبِيل } اسم " ليس " والخبر أحد الجارين أعني : { عَلَيْنَا } أو { فِي الأُمِّيِّينَ } .
ويجوز أن يتعلق { فِي الأُمِّيِّينَ } بالاستقرار الذي تعلق به " عَلَيْنَا " وجوّز بعضهم أن يتعلق بنفس " ليس " نقله أبو البقاء ، وغيرُه ، وفي هذا النقل نظر ؛ وذلك أن هذه الأفعال النواقص في عملها في الظروف خلاف ، وَبَنَوُا الخلافَ على الخلاف في دلالتها على الحدث ، فمن قال : تدل على الحدث جوز إعمالها في الظرف وشبهه ، ومن قال : لا تدل على الحدث منعوا إعمالها . واتفقوا على أن " ليس " لا يدل على حدث ألبتة ، فكيف تعمل ؟ هذا ما لا يُعْقَل .
ويجوز أن يتعلق { فِي الأُمِّيِّينَ } ب " سَبيلٌ " ، لأنه استعمل بمعنى الحرجِ ، والضمانِ ، ونحوها . ويجوز أن يكون حالاً منه فيتعلق بمحذوف .
قال : فالأمي منسوب إلى الأم ، وسُمِّي النبي صلى الله عليه وسلم أمياً ؛ قيل : لأنه كان لا يكتب ، وذلك لأن الأمَّ : أصل الشيء فمن لا يكتب فقد بَقِي على أصله في أن لا يكتب .
وقيل : نسبة إلى مكة ، وهي أمُّ القُرَى .
قوله : { وَيَقُولُونَ عَلَى اللَّهِ الْكَذِبَ } فيه وجوهٌ :
أحدها : هو قولهم : أن جواز الخيانةِ مع المخالف مذكور في التوراة ، وكانوا كاذبين في ذلك ، وعالمين بكونهم كاذبين . [ ومن كان كذلك كانت خيانته أعظمَ ، وجرمُه أفحش ] {[5651]} فيه .
وثانيها : أنهم يعلمون كون الخيانة مُحَرَّمَةٌ .
وثالثها : أنهم يعلمون ما على الخائن من الإثم .
قال القرطبيُّ : " دلَّت هذه الآيةُ على أنَّ الكافرَ لا يُجعل أهلاً لقبول{[5652]} شهادته ؛ لأن الله تعالى وصفه بالكذب ، وفي الآية رَدٌّ على الكَفَرَةِ الذين يُحَلِّلُون ويُحَرِّمون من غير تحليل الله وتحريمه ويجعلون ذلك من الشرع ، قال ابن العربيّ : ومِنْ هذا يخرج الرَّدُّ على مَنْ يحكم بالاستحسان مِن غير دليل ، ولست أعلم أحداً من أهل القبلةِ قاله " .
قوله : { عَلَى اللَّهِ } يجوز أن يتعلق بالكذب - وإن كان مصدراً - لأنه يُتَّسَع في الظرف وعديله ما لا يُتَّسَع في غيرهما ومَنْ منع علَّقه ب " يَقُولُونَ " متضمِّناً معنى يفترون ، فعُدِّي تعديته . ويجوز أن يتعلق بمحذوف على أنه حال من " الْكَذِب " ، وقوله : { وَهُمْ يَعْلَمُونَ } جملة حالية ، ومفعول العلم محذوف اقتصاراً ، أي : وهم من ذوي العلم ، أو اختصاراً ، أي : وهم يعلمون كذبهم وافتراءهم ، وهو أقبح لهم .