اللباب في علوم الكتاب لابن عادل - ابن عادل  
{إِنَّ ٱلَّذِينَ يَشۡتَرُونَ بِعَهۡدِ ٱللَّهِ وَأَيۡمَٰنِهِمۡ ثَمَنٗا قَلِيلًا أُوْلَـٰٓئِكَ لَا خَلَٰقَ لَهُمۡ فِي ٱلۡأٓخِرَةِ وَلَا يُكَلِّمُهُمُ ٱللَّهُ وَلَا يَنظُرُ إِلَيۡهِمۡ يَوۡمَ ٱلۡقِيَٰمَةِ وَلَا يُزَكِّيهِمۡ وَلَهُمۡ عَذَابٌ أَلِيمٞ} (77)

مما جاء في تعلق هذه الآية بما قبلها وجوهٌ :

أحدها : أنه - تعالى - لما وصف اليهودَ بالخيانة في أموال النّاس ، فمعلوم أن الخيانَة في الأموال ، لا تكون بالأيمان الكاذبةِ .

وثانيها : أنه - تعالى - حَكَى عنهم أنهم يقولون على الله الكذب ، وهم يعلمون ، ولا شك أن عهد الله - تعالى - على كل مكلَّفٍ أن لا يكذبَ على الله .

وثالثها : أنه - تعالى - ذكر في الآية الأولى خيانَتهم في أموال الناس ، وذكر في هذه الآية خيانتهم في عهد الله وفي تعظيم أسمائِهِ ؛ حيث يَحْلِفون بها كاذبين .

وقال بعضهم : إن هذه الآية ابتداء كلام مستقلٍّ في المنع من الأيمان الكاذبةِ ؛ لأن اللفظَ عامٌّ ، والروايات الكثيرة دلَّت على أنها نزلت في أقوامٍ أقدموا على الأيمان الكاذبة .

فصل

قال عكرمةُ : نزلت في أحبار اليهود ، كتموا ما عهد الله إليهم في التوراة من أمر محمد صلى الله عليه وسلم وكتبوا بأيديهم غيرَها ، وحلفوا أنها من عند الله ؛ لئلا تفوتَهم الرِّشاء التي كانت من أبناء عمهم{[5653]} .

وقيل : نزلت في ادِّعائهم أنه { لَيْسَ عَلَيْنَا فِي الأُمِّيِّينَ سَبِيلٌ } [ آل عمران : 75 ] كتبوا ذلك بأيديهم ، وحَلَفُوا أنه من عند الله قاله الحسنُ .

وقال ابن جُرَيْجٍ : نزلت في الأشعث بن قيس وخَصْمٍ له ، اختصما في أرض إلى رسول اللهِ صلى الله عليه وسلم فقال : أقم بيِّنتك ، فقال : ليس لي بينة ، فقال لليهودي : احلِفْ ، قال : إذاً يحلف ، فيذهب بمالي ، فأنزل الله عز وجل : { إِنَّ الَّذِينَ يَشْتَرُونَ بِعَهْدِ اللَّهِ وَأَيْمَانِهِمْ } فنكل الأشعث{[5654]} .

قال مجاهدٌ : نزلت في رجل حلف يميناً فاجرةً في تنفيق سلعته{[5655]} ، عن أبي ذر - رضي الله عنه - عن النبي صلى الله عليه وسلم قال :

" ثَلاَثَةٌ لاَ يُكَلِّمُهُمُ اللهُ يَوْمَ القِيَامَةِ ، وَلاَ يَنْظُرُ إِلَيْهِمْ ، وَلاَ يُزَكِّيهِمْ ، وَلَهُمْ عَذَابٌ ألِيمٌ . قَالَ : وقرأها رسولُ الله صلى الله عليه وسلم ثلاث مرات ، فقال أبو ذر : خابوا ، وخسروا مَنْ هم يا رسولَ اللهِ ؟ قال : المُسْبِلُ إزَارَهُ ، والمَنَّانُ ، والمُنْفِقُ سلعَتَهُ بالحَلِف الْكَاذِبِ{[5656]} " .

وروى أبو هريرة عن النبي : " ثَلاَثَةٌ لاَ يُكَلِّمُهُمُ اللهُ يَوْمَ القِيَامَةِ ، وَلاَ يَنْظُرُ إِلَيْهِمْ ، وَلَهُمْ عَذَابٌ ألِيمٌ : رَجُلٌ حَلَفَ يَمِيناً عَلَى مَالِ مُسْلِمٍ ، فاقتطعه ، وَرَجُلٌ حَلَفَ عَلَى يَمِينٍ بَعْدَ صَلاَةِ الْعَصْرِ أنَّهُ أعْطِي بِسِلْعَتِهِ أكْثَرَ مِمَّا أعْطي وَهُوَ كَاذِبٌ - وَرَجُلٌ مَنَعَ فَضْلَ ماءٍ ، فَإن اللهَ - تَعَالَى - يَقولُ : الْيَوم أمْنَعُكَ فَضْلِي كَمَا مَنَعْتَ فَضْلَ مَا لَمْ تَعْمَلْ يَدَاك{[5657]} " .

وقيل : " جاء رجل من حضرموت ورجل من كِنْدةَ إلى النبي صلى الله عليه وسلم فقال الحضرميُّ : يا رسولَ اللهِ ، إن هذا قد غلبني على أرض لي - كانت لأبي - فقال الكنديّ : هي أرضي في يدي ، أزرعها ، ليس له فيها حق فقال النبي صلى الله عليه وسلم للحَضْرَمِيّ : ألك بيِّنةٌ ؟ قال لا ، قَالَ : فَلَكَ يمينُهُ قال : يا رسولَ اللهِ ، إن الرجل فاجِرٌ لا يبالي على ما حلف عليه ، قال ليس لك منه إلا ذلك ، فانطلق ليحلف ، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم لما أدبر " أما لئن حَلَفَ علَى ما لَيْسَ لَهُ لِيَأكُلَهُ ظُلماً لَيَلْقَيَنَّ اللهَ وَهُوَ عَنْهُ مُعْرِضٌ " . {[5658]}

قال علقمة : أما الكنديّ فهو عمرو بن القيس بن عابس الكنديّ ، وخصمه ربيعة بن عبدان الحضرميّ ، روى أبو أمامة أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال : " مَن اقْتَطَعَ حَقَّ امْرِئٍ مُسْلِم - بِيَمِينِهِ - حَرَّم اللهُ عَلَيْه الْجَنَّة وَأوْجَبَ لَهُ النَّارَ ، قَالُوا : وإن كان شيئاً يسيراً يا رسولَ الله ؟ قَالَ : وَإنْ كَانَ قَضِيباً مِنْ أرَاكٍ " قالها ثلاث مراتٍ{[5659]} .

قوله : { أُوْلَئِكَ لاَ خَلاَقَ لَهُمْ فِي الآخِرَةِ } أي : لا نصيبَ لهم في الآخرةِ ونعيمها ، وهذا مشروطٌ بالإجماع بعد التوبة ، فإذا تاب عنها سقط الوعيدُ - بالإجماع - وشرط بعضهم عدم العفو ؛ لقوله تعالى : { إِنَّ اللَّهَ لاَ يَغْفِرُ أَن يُشْرَكَ بِهِ وَيَغْفِرُ مَا دُونَ ذَلِكَ لِمَن يَشَآءُ } [ النساء : 48 ] ،

{ وَلاَ يُكَلِّمُهُمُ } أي : كلاماً ينفعهم ، ويسرهم .

وقيل : لمعنى الغضب ، كما يقول الرجل : إني لا أكلم فلاناً - إذا كان قد غضب عليه - قاله القفالُ .

ثم قال : { وَلاَ يَنظُرُ إِلَيْهِمْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ } أي : لا يرحمهم ، ولا يُحْسِن إليهم ، ولا يُنِيلُهم خيراً ، وليس المقصود منه النظر بتقليب الحَدَقَةِ إلى المَرْئِيّ - تعالى الله عن ذلك علواً كبيراً - { وَلاَ يُزَكِّيهِمْ } أي : لا يطهرهم من دنس الذنوب بالمغفرة .

وقيل : لا يُثْنِي عليهم كما يُثْنِي على أوليائه - كثناء المزكِّي للشاهد والتزكية من الله قد تكون على ألسنة الملائكة ، كقوله تعالى : { وَالمَلاَئِكَةُ يَدْخُلُونَ عَلَيْهِمْ مِّن كُلِّ بَابٍ سَلاَمٌ عَلَيْكُم } [ الرعد : 23-24 ] وقد تكون من غير واسطة ، أما في الدنيا فكقوله : { التَّائِبُونَ الْعَابِدُونَ }

[ التوبة : 112 ] . وأما في الآخرة فكقوله : { سَلاَمٌ قَوْلاً مِّن رَّبٍّ رَّحِيمٍ } [ يس : 58 ] . ثم قال : { وَلَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ } لما بين حرمانهم من الثواب ، بيَّن كونهم في العقاب الشديد المُؤلم .

فصل

قال القرطبيُّ : " دلَّت هذه الآية والأحاديث على أن حُكْمَ الحاكم لا يُحِلُّ المالَ في الباطن بقضاء الظاهرِ إذا علم المحكوم له بطلانَه ، وروت أم سلمة قالت : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : " إنكم تختصمون إليَّ ، وإنما أنا بَشَرٌ ، ولَعَلَّ بعضَكم أن يكونَ ألْحَنَ بحُجَّته من بَعْضٍ ، وإنما أقضِي بينَكُم على نحو ما أسمع ، فمن قَضَيْتُ له من حَقِّ أخيه شيئاً ، فلا يأخذه ؛ فإنما أقطع له قطعة من النار يأتي بها يوم القيامة " .

قوله : { وَلَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ } في هذه اللام قولان :

أحدهما : أنها بمعنى الاستحقاق ، أي : يستحقُّون العذاب الأليم .

الثاني : كما تقول : المال لزيد ، فتكون لام التمليك ، فذكر ملك العذاب لهم ، تهكُّماً بهم .


[5653]:أخرجه الطبري في "تفسيره" (6/528) عن عكرمة.
[5654]:أخرجه الطبري في "تفسيره" (6/531) عن ابن جريج وأخرجه البخاري (5/53، 206) ومسلم (1/49- 50) وأحمد (5/211- 212) والطبري (6/529) عن عبد الله بن مسعود... فذكر الحديث.
[5655]:أخرجه الطبري في "تفسيره" (6/533).
[5656]:أخرجه مسلم (1/102) كتاب الإيمان: باب غلظ تحريم إسبال الإزار (171- 106) وأبو داود (4/57) كتاب اللباس باب ما جاء في إسبال الإزار (4078) والترمذي (3/516) كتاب البيوع: باب ما جاء فيمن حلف على سلعة كاذبا (1211) والنسائي (5/81) كتاب الزكاة: باب المنان بما أعطى، (7/245) وأحمد (2/480، 5/158، 162، 168) والبيهقي (4/191- 5/330- 6/152- 8/161- 177) والبغوي في "شرح السنة" (4/226- 227) عن أبي ذر مرفوعا. وقال الترمذي: حديث أبي ذر حديث حسن صحيح.
[5657]:أخرجه البخاري (13/433) كتاب التوحيد باب قول الله تعالى "وجوه يومئذ ناضرة إلى ربها ناظرة" (7446) ومسلم (1/103) كتاب الإيمان: باب بيان غلظ تحريم إسبال الإزار... الخ (173-108) والبغوي في "شرح السنة" (3/422) عن أبي هريرة مرفوعا.
[5658]:أخرجه مسلم كتاب الأيمان رقم (223) وأبو داود كتاب الأيمان والنذور باب التغليظ في الأيمان الفاجرة رقم (3245) والترمذي (3/625) كتاب الأحكام: باب ما جاء في أن البينة على المدعي واليمين على المدعى عليه. رقم (1340).
[5659]:أخرجه مسلم كتاب الأيمان رقم (218) والنسائي (8/246): وأبو عوانة (1/32) وأحمد (5/260) والبيهقي (10/171) والطحاوي في "مشكل الآثار" (1/86).