اللباب في علوم الكتاب لابن عادل - ابن عادل  
{وَإِنَّ مِنۡهُمۡ لَفَرِيقٗا يَلۡوُۥنَ أَلۡسِنَتَهُم بِٱلۡكِتَٰبِ لِتَحۡسَبُوهُ مِنَ ٱلۡكِتَٰبِ وَمَا هُوَ مِنَ ٱلۡكِتَٰبِ وَيَقُولُونَ هُوَ مِنۡ عِندِ ٱللَّهِ وَمَا هُوَ مِنۡ عِندِ ٱللَّهِۖ وَيَقُولُونَ عَلَى ٱللَّهِ ٱلۡكَذِبَ وَهُمۡ يَعۡلَمُونَ} (78)

هذه الآية تدل على أن التي قبلها نزلت في اليهود .

وقوله : يَلْوُونَ " صفة ل " فريقاً " فهي في محل نصبٍ ، وجمع الضمير اعتباراً بالمعنى ؛ لأنه اسم جمع - كالقوم والرهط- .

قال أبو البقاء{[5660]} : " ولو أفرد على اللفظ لجاز " وفيه نظرٌ ؛ إذ لا يجوز : القوم جاءني ، والعامة على { يَلْوُونَ } بفتح الياء ، وسكون اللام ، وبعدها واو مضمومة ، ثم أخْرَى ساكنة مضارع لوى أي : فتل .

وقرأ أبو جعفر وشيبة بن نِصاح وأبو حاتم - عن نافع - " يُلَوُّون " بضم الياء ، وفتح اللام ، وتشديد الأولى{[5661]} - من " لَوَّى " مضعَّفاً ، والتضعيف فيه للتكثير والمبالغة ، لا للتعدية ؛ إذ لو كان لها لتعدى لآخرَ ؛ لأنه مُتَعَدٍّ لواحد قبل ذلك ، ونسبها الزمخشريُّ لأهل المدينةِ ، وهو كما قال ، فإن هؤلاء رؤساء قُرَّاء المدينة .

وقرأ حُمَيْد " يَلُون " - بفتح الياء ، وضم اللام ، بعدها واو مفردة ساكنة{[5662]} - ونسبها الزمخشريُّ لمجاهدٍ وابنِ كثيرٍ ، ووجَّهَهَا هو بأن الأصل { يَلْوُونَ } - كقراءة العامة - ثم أبدِلَت الواو المضمومة همزة ، وهو بدلٌ قباسيٌّ - كأجوه وأقِّتَتْ . ثم خُفِّفَت الهمزةُ بإلقاء حركتها على الساكن قبلها وهو اللام - وحُذِفَت الهمزةُ ، فبقي وزن " يَلُون " يَفُون - بحذْف اللام والعين - وذلك لأن اللام - وهي الياء - حُذِفت لالتقاء الساكنين ؛ لأن الأصل " يلويون " كيضربون ، فاستُثْقِلَت الضمة على الياء فحذفت ، فالتقى ساكنان - الياء وواو الضمير - فحُذِفت الياء لالتقائهما ، ثم حُذِفت الواو التي هي عين الكلمة .

و { أَلْسِنَتَهُمْ } جمع لسانٍ ، وهذا على لغة من ذكَّره ، وأما على لغة من يُؤنثه - فيقول : هذه لسانٌ - فإنه يجمع على " ألْسُن " - نحو ذِراع وأذرُع وكراع وأكرِع .

وقال الفرّاء : لم نسمعْه من العرب إلا مذكَّراً . ويُعَبَّر باللسان عن الكلام ؛ لأنه ينشأ منه ، وفيه - والمراد به ذلك - التذكير والتأنيث - ، والليّ : الفتل ، يقال : لَويْت الثوب ، ولويت عنقه - أي فتلته - والليُّ : المطل ، لواه دَيْنَه ، يلويه لَيًّا ، وليَّاناً : مطله . والمصدر : اللَّيّ واللّيان .

قال الشاعرُ : [ الرجز ]

قَدْ كُنْتُ دَايَنْتُ بِهَا حَسَّانا *** مَخَافَةَ الإفْلاسِ وَاللَّيانا{[5663]}

والأصل لوْيٌ ، ولَوْيَان ، فأعِلَّ بما تقدم في " مَيِّت " وبابه ثم يُطْلَق اللَّيُّ على الإراغة والمراوغة في الحجج والخصومة ؛ تشبيهاً للمعاني بالأجرام . وفي الحديث : " لَيُّ الْوَاجِدِ ظُلْمٌ " {[5664]} .

وقال بعضهم : اللَّيّ عبارة عن عَطْف الشيء ، وردّه عن الاستقامة إلى الاعوجاج يقال : لَوَيْت يده والتوى الشيءُ - إذا انحرف - والتوى فلان عليَّ إذا غيَّر أخلاقه عن الاستواء إلى ضده . ولوى لسانه عن كذا - إذا غيره - ولوى فلانٌ فلاناً عن رأيه - إذا أماله عنه - و { بِالْكِتَابِ } متعلق ب { يَلْوُونَ } ، وجعله أبو البقاء حالاً من الألسنة ، قال : وتقديره : ملتبسة بالكتاب ، أو ناطقة بالكتاب .

والضمير في { لِتَحْسَبُوهُ } يجوز أن يعود على ما تقدَّم مما دل عليه ذِكْر اللَّيّ والتحريف ، أي : لتحسبوا المحرف من التوراة . ويجوز أن يعود على مضاف محذوفٍ ، دل عليه المعنى ، والأصل : يلوون ألسنتهم بشِبْهِ الكتاب ؛ لتحسبوا شِبْهَ الكتاب الذي حرفوه من الكتاب ، ويكون كقوله :

{ أَوْ كَظُلُمَاتٍ فِي بَحْرٍ } [ النور : 40 ] ثم قال : { يَغْشَاهُ } [ النور : 40 ] والأصل أو كذي ظلمات ، فالضمير في { يَغْشَاهُ } [ النور : 40 ] يعود على

" ذِي " المحذوفة . و " من الكتاب " هو المفعول الثاني للحُسْبان . وقُرئ " ليحسبوه " - بياء الغيبة{[5665]} - والمراد بهم المسلمون - أيضاً - كما أريد بالمخاطبين في قراءة العامة ، والمعنى : ليحسب المسلمون أن المحرَّف من التوراة .

قال ابن الخطيبِ : " لَيُّ اللسان شبيه بالتشدُّقِ والتنطُّع والتكلُّف - وذلك مذموم - فعبَّر الله عن قراءتهم لذلك الكتاب الباطل بلَيِّ اللسان ؛ ذمًّا لهم ، ولم يُعَبِّر عنها بالقراءة . والعرب تفرِّق بين ألفاظ المدح والذم في الشيء الواحد ، فيقولون - في المدح - : خطيب مِصْقَع ، وفي الذم : مِكْثَارٌ ، ثَرْثَارٌ فالمراد بقوله : { يَلْوُونَ أَلْسِنَتَهُمْ بِالْكِتَابِ } أي : بقراءة ذلك الكتاب الباطل " .

فصل

قال القفَّالُ : معنى قوله : { يَلْوُونَ أَلْسِنَتَهُمْ } أن يعمدوا إلى اللفظة ، فيحرفونها عن حركات الإعراب تحريفاً يتغيَّر به المعنى ، وهذا كثيرٌ في لسان العرب ، فلا يبعد مثله في العبرانية ، فكانوا يفعلون ذلك في الآياتِ الدالة على نبوة محمد صلى الله عليه وسلم في التوراة .

وروي عن ابنِ عباسٍ قال : إن النفر الذين لا يكلمهم الله يوم القيامة ، ولا ينظر إليهم ، كتبوا كتاباً شوَّشوا فيه نعتَ محمد صلى الله عليه وسلم وخلطوه بالكتاب الذي كان فيه نعت محمد صلى الله عليه وسلم ثم قالوا : هذا من عند الله .

فصل

قال جمهور المفسّرين : هذا النفر هم : كعب بن الأشرف ، ومالك بن الصيف ، وحيي بن أخطب ، وأبو ياسر ، وشعبة بن عمرو الشاعر . { يَلْوُونَ أَلْسِنَتَهُمْ } يعطفونها بالتحريف والتغيير ، وهو ما غيّروا من صفة النبي صلى الله عليه وسلم وآية الرجم ، وغير ذلك . { لِتَحْسَبُوهُ } أي : لتظنوا ما حرفوا { مِنَ الْكِتَابِ } الذي أنزله الله - عز وجل - { وَمَا هُوَ مِنَ الْكِتَابِ وَيَقُولُونَ هُوَ مِنْ عِنْدِ اللًّهِ وَمَا هُوَ مِنْ عِندِ اللَّهِ وَيَقُولُونَ عَلَى اللَّهِ الْكَذِبَ وَهُمْ يَعْلَمُونَ } أنَّهم الكاذبون .

وروى الضحاكُ عن ابن عباسٍ أن الآية نزلت في اليهود والنصارى جميعاً ، وذلك أنهم حرَّفوا التوراة والإنجيلَ ، وألحقوا بكتاب الله ما ليس منه .

فإن قيل : كيف يمكن إدخالُ التحريف في التوراة ، مع شُهْرتها العظيمة ؟

فالجوابُ : لعله صدر هذا العمل عن نفر قليلٍ ، يجوز تواطؤهم على التحريف ، ثم إنهم عرضوا ذلك المحرَّف على بعض العوامِّ ، وعلى هذا التقدير يكون هذا التحريف ممكناً .

قال ابن الخطيب : " والأصوب - عندي - في الآية أن الآياتِ الدَّالَّةِ على نبوة محمد صلى الله عليه وسلم كان يُحتاج فيها إلى تدقيق النظرِ والتأمُّل ، والقوم كانوا يُورِدون عليها الأسئلة المشوشة ، والاعتراضات المظلمة ، فكانت تصير تلك الدلائل مشتبهةً على السَّامِعِينَ ، واليهود كانو يقولون : مراد اللهِ من هذه الآياتِ ما ذكرناهُ - لا ما ذكرتم - فكان هذا هو المراد بالتحريف وَلَيِّ الألسنةِ ، كما أن المُحِقَّ - في زمننا - إذا استدل بآيةٍ فالمُبْطِل يورد عليه الأسئلةَ والشبهاتِ ، ويقول : لَيْسَ مُرَادُ اللهِ - تعالى - ما ذكرت ، بل ما ذكرناه ، فكذا هنا ، والله أعلمُ " .

فإن قيل : ما الفرق بين قوله : { لِتَحْسَبُوهُ مِنَ الْكِتَابِ وَمَا هُوَ مِنَ الْكِتَابِ } وبين قوله : { وَيَقُولُونَ هُوَ مِنْ عِنْدِ اللًّهِ وَمَا هُوَ مِنْ عِندِ اللَّهِ } ؟

فالجوابُ : أن المغايرة حاصلة ؛ لأنه ليس كل ما لم يكن في الكتاب لم يكن من عند الله تعالى ؛ فإن الحكم الشرعيَّ قد ثبت تارةً بالكتاب ، وتارةً بالسنَّةِ ، وتارة بالإجماع ، وثارةً بالقياس ، والكل من عند الله تعالى - فقوله : { لِتَحْسَبُوهُ مِنَ الْكِتَابِ وَمَا هُوَ مِنَ الْكِتَابِ } هذا نفيٌ خاصٌّ ، ثم عطف النفي العام فقال : { وَيَقُولُونَ هُوَ مِنْ عِنْدِ اللًّهِ وَمَا هُوَ مِنْ عِندِ اللَّهِ } فلا يكون تكراراً .

وأيضاً يجوز أن يكون المراد من الكتاب التوراة ، ويكون المراد من قولهم : { هُوَ مِنْ عِنْدِ اللًّهِ } أنه موجود في كتاب سائر الأنبياء عليهم السلام مثل شعيب وأرميا ؛ وذلك لأن القومَ في نسبة ذلك التحريفِ إلى الله تعالى كانوا متحيرين فإن وجدوا قوماً من الأغمار والبُلْه الجاهلين بالتوراة نسبوا ذلك المحرَّف إلى أنه من عنده ، وإن من وجدوا قوماً عُقَلاَء أذكياء زعموا أنه موجودٌ في كتب سائر الأنبياءِ ، الذين جاءوا بعد موسى عليه السَّلاَمُ .


[5660]:ينظر: الإملاء 1/140.
[5661]:انظر: المحرر الوجيز 1/460، والبحر المحيط 527، والدر المصون 2/144.
[5662]:انظر: المحرر الوجيز 1/460، والبحر المحيط 2/527، والدر المصون 2/145.
[5663]:البيت لرؤبة ينظر ديوانه ص 187 والكتاب 1/98 وشرح ابن عقيل 2/105 والدرر 2/203 وابن الشجري 1/228 وابن يعيش 6/65 وشرح الجمل 1/54 والهمع 2/145 وأوضح المسالك 3/215 والمغني 2/96 والدر المصون 2/145.
[5664]:أخرجه النسائي (7/316- 317) كتاب البيوع وابن ماجه (2427) وأحمد (4/389) وابن حبان (1164- موارد) من حديث الشريد.
[5665]:ينظر: الشواذ 21، والبحر المحيط 2/528، والدر المصون 2/145.