اللباب في علوم الكتاب لابن عادل - ابن عادل  
{وَقَالَت طَّآئِفَةٞ مِّنۡ أَهۡلِ ٱلۡكِتَٰبِ ءَامِنُواْ بِٱلَّذِيٓ أُنزِلَ عَلَى ٱلَّذِينَ ءَامَنُواْ وَجۡهَ ٱلنَّهَارِ وَٱكۡفُرُوٓاْ ءَاخِرَهُۥ لَعَلَّهُمۡ يَرۡجِعُونَ} (72)

حكي عنهم التلبيسُ ، فذكر منه هذا النوع .

قوله : { وَجْهَ النَّهَارِ } منصوب على الظرف ؛ لأنه بمعنى : أول النهار ؛ لأن الوجه - في اللغة - مستقبل كل شيء ؛ لأنه أول ما يواجَه منه ، كما يقال - لأول الثوب - : وجه الثوب .

روى ثَعْلَبٌ عن ابن الأعرابي : أتيته بوجه نهارٍ ، وصدر نهار ، وشباب نهار ، أي : أوله وقال الربيع بن زياد العبسي : [ الكامل ]

مَنْ كَانَ مَسْرُوراً بِمَقْتَلِ مَالِكٍ *** فَلْيَأتِ نِسْوَتَنَا بِوَجْهِ نَهَارِ{[5607]}

أي : بأوله ، وفي ناصب هذا الظرف وجهان :

أظهرهما : أنه فعل المر من قوله { آمَنُواْ } أي : أوْقَعُوا إيمانَكم في أول النهار ، وأوقعوا كُفْرَكم في آخره .

والثاني : أنه { وَأَنْزَلَ } أي : آمنوا بالمُنَزَّل في أول النهار ، وليس ذلك بظاهر ، بدليل المقابلة في قوله : { وَاكْفُرُواْ آخِرَهُ } . فإن الضميرَ يعودُ على النهارِ ، ومن جوَّز الوجه الثاني جعل الضمير يعود على { الَّذِي أُنْزِلَ } ، أي : واكفروا آخر المنزَّل ، وأسباب النزول تُخالف هذا التأويل وفي هذا البيتِ الذي أنشدناه فائدةٌ ، وذلك أنه من قصيدة يرثي بها مالك بن زهير بن خُزَيْمَةَ العبسي ، وبعده : [ الكامل ]

يَجِدِ النِّسَاءَ حَوَاسِراً يَنْدُبْنَهُ *** يَبْكِينَ قَبْلَ تَبَلُّجِ الأسْحَارِ

قَدْ كُنَّ يَخْبَأنَ الْوُجُوهَ تَسَتُّراً *** فَالْيَوْمَ حِينَ بَدَوْنَ لِلنُّظَّارِ

يَخْمِشْنَ حرَّاتِ الْوُجُوهِ عَلَى امرئٍ *** سَهْلِ الْخَلِيقَةِ طَيِّبِ الأخْبَارِ{[5608]}

ومعنى الأبيات يحتاج إلى معرفةِ اصطلاح العربِ في ذلك ، وهو أنهم كانوا إذا قُتِلَ لهم قتيلٌ لا تقوم عليه نائحةٌ ولا تَنْدُبُه نادبةٌ ، حتى يؤخذَ بثأره ، فقال هذا : من سرَّه قَتْلُ مالك ، فليأتِ في أول النهارِ يجدنا قد أخذْنَا بثأره ، فذكر اللازم للشيء ، وهو من باب الكناية .

وحكي أن الشيباني سأل الأصمعي : كيف تنشد قول الربيع : . . . . . حين بدأنَ ، أو بدَيْنَ ؟ فقال الأصمعيّ : بَدأنَ ، فقال : أخطأت ، فقال : بَدَيْنَ ، فقال : أخطأتَ ، فغضب الأصمعيُّ ، وكان الصواب أن يقول : بدَوْنَ - بالواو - لأنه من باب : بدا يَبْدو ، أي : ظهر - فأتى الأصمعي يوماً للشيباني ، وقال له : كيف تُصَغِّر مُخْتَاراً ؟ فقال : مُخَيتير ، فضَحِك منه ، وصفَّق بيديه ، وشَنَّع عليه في حلقته ، وكان الصواب أن يقولَ : مُخَيِّر - بتشديد الياء - وذلك أنه اجتمع زائدان - ، الميم والتاء - والميم أولى بالبقاء ؛ لعلة ذكرها التصريفيُّون ، فأبقاها ، وحذف التاء ، وأتى بياء التصغير ، فقلب - لأجلها - الألف ياءً ، وأدْغمها فيها ، فصار : مُخَيِّراً - كما ترى - وهو يحتمل أن يكون اسمَ فاعل ، أو اسمَ مفعول - كما كان يحتملها مُكَبَّرهُ ، وهذا - أيضاً - يلبس باسم الفاعل خَيَّر فهو مُخَيِّر ، والقرائنُ تبينه .

ومفعول { يَرْجِعُونَ } محذوف - أيضاً - اقتصاراً - أي : لعلهم يكونون من أهل الرجوع ، أو اختصاراً أي : يرجعون إلى دينكم وما أنتم عليه .

فصل

قال القرطبيُّ : والطائفة : الجماعة - من طاف يطوفُ - وقد يُسْتَعْمَل للواحد على معنى : نفس طائفة ، ومعنى الآية يحتمل أن يكون المراد كلَّ ما أنزل ، وأن يكون بعضَ ما أنزل أما الأول ففيه وجوهٌ :

الأول : أن اليهودَ والنصارَى استخرجوا حيلةً في تشكيك ضَعَفَةِ المسلمين في صحة الإسلام ، وهي أن يظهروا تصديق ما ينزل على محمد صلى الله عليه وسلم من الشرائع في بعض الأوقات ، ثم يُظهروا بعد ذلك تكذيبه فإن الناس متى شاهدوا هذا التكذيب قالوا : هذا التكذيب ليس لأجل الحَسَدِ والعناد ، وإلا لَمَا آمَنُوا في أول الأمر ، فإذا لم يكن حَسَداً ، وجب أن يكون لأجل أنهم أهل الكتاب وقد تفكَّروا في أمره ، واستَقْصَوْا في البحث عن دلائل نبوتِهِ ، فلاح لهم - بعد ذلك التأمل التام ، والبحثَ الوافي - أنه كذاب ، فيصير هذا الطريق شبهة لضَعَفةِ المسلمين في صحة نبوته .

قال الحَسَنُ والسُّدِّيُّ : تواطأ اثنا عشر رجلاً من أحبار خيبر وقُرَى عُرَيْنَة ، وقال بَعْضُهُمْ ادخلوا في دين محمدٍ أولَ النهار باللسان دون الاعتقاد ، ثم اكفروا آخِرَ النهار ، وقولوا : إنّا نظرنا في كتابنا ، وشاوَرْنا علماءَنا ، فوجدنا محمداً ليس بذلك ، وظهر لنا كذبُه ، فإذا فعلتم ذلك شَكَّ أصحابُه في دينهم ، واتهموه ، وقالوا : إنهم أهْلُ الكتاب ، وهم أعلم منا ، فيرجعون عن دينهم ، وهذا قول أبي مُسْلِمِ الأصبهانيِّ {[5609]} .

قال الأصمُّ : قال بعضهم لبعض : إن كذبتموه في جميع ما جاء به فإن عوامكم يعلمون كذبكم ؛ لأن كثيراً يعلمون ما جاء به حقٌّ ، ولكن صَدِّقُوه في بعض ، وكَذِّبوه في بعض ، حتى يحمل الناسُ تكذيبَكم على الإنصاف ، لا على العِناد ، فيقبلوا قولكم .

وأما الاحتمال الثاني - وهو الإيمان بالبعض - ففيه وجهان :

أحدهما : قال ابنُ عباسٍ : " وَجْهَ النَّهارِ " : أوله ، وهو صلاة الصبح ، { وَاكْفُرُواْ آخِرَهُ } يعني : صلاة الظهر{[5610]} ، وتقديره : أنه صلى الله عليه وسلم كان يصلي إلى بيت المقدس - بعد أن قدم المدينة - ففرح اليهود بذلك ، وطمعوا أن يكون منهم ، فلمَّا حوله الله إلى الكعبة - وكان ذلك عند صلاة الظهر - قال كعبُ بن الأشرفِ وغيره : " ءامنوا بالذي أنزل على الذين ءامنوا وجه النهار " يعني آمنوا بالْقِبْلَةِ التي صلى إليها صلاةَ الصبح ، فهي الحق ، { وَاكْفُرُواْ } بالقبلة إلى الكعبة { لَعَلَّهُمْ } يقولون : إن هؤلاء أهل كتاب ، وهم أعلم ، فيرجعون إلى قبلتنا .

الثاني : قال بعضُهُمْ لبعض : صَلُّوا إلى الكعبة أولَ النهار ثم اكفروا بهذه القبلةِ في آخر النهار ؛ وصلوا إلى الصخرة لعلهم يقولون : إن أهل الكتاب أصحابُ العلم ، فلولا أنهم عَرفوا بُطْلانَ هذه الْقِبْلَة لَمَا تركوها ، فحينئذٍ يرجعون عن هذه القبلة .

فصل في فوائد كشف حيلتهم

إخبار الله - تعالى - عن تواطُئِهم على هذه الحيلة فيه فائدةٌ من وُجُوهٍ :

الأول : أن ذلك إخبار عن الغيب ، فَيَكون مُعْجِزاً ؛ لأنها كانت مخفيَّةً فيما بينهم ، وما أطْلعوا عليه أحداً من الأجانب .

الثاني : أنه - تعالى - لما أطْلع المؤمنين على هذه الحيلةِ لم يَبْقَ لها أثرٌ في قلوبِ المؤمنين ، ولولا هذا الإعلام لكان رُبَّما أثّرت في قلوب بعضِ

[ المؤمنين الذين ] {[5611]} في إيمانهم ضعف .

الثالث : [ أن القومَ ] {[5612]} لما افتضحوا في هذه الحيلةِ صار ذلك رادِعاً لهم عن الإقدام على أمْثَالِها من الحِيل والتلبيس .


[5607]:ينظر البيت في ديوان الحماسة 1/494 واللسان (وجه) ومجاز القرآن 1/97 وأمالي المرتضى 1/211 والكشاف 1/436 والأشباه والنظائر 2/82 وتذكرة النحاة ص 139 والاستغناء في أحكام الاستثناء ص 632 والبحر المحيط 2/517 والدر المصون 2/134.
[5608]:ينظر: الدر المصون 2/134.
[5609]:أخرجه الطبري في "تفسيره" (6/507) وذكره السيوطي في "الدر المنثور" (2/75) وزاد نسبته لابن أبي حاتم عن السدي.
[5610]:أخرجه الطبري في "تفسيره" (6/509) عن قتادة والربيع.
[5611]:في أ: من كان.
[5612]:في أ: أنهم.