اللباب في علوم الكتاب لابن عادل - ابن عادل  
{وَهُوَ ٱلَّذِي يَتَوَفَّىٰكُم بِٱلَّيۡلِ وَيَعۡلَمُ مَا جَرَحۡتُم بِٱلنَّهَارِ ثُمَّ يَبۡعَثُكُمۡ فِيهِ لِيُقۡضَىٰٓ أَجَلٞ مُّسَمّٗىۖ ثُمَّ إِلَيۡهِ مَرۡجِعُكُمۡ ثُمَّ يُنَبِّئُكُم بِمَا كُنتُمۡ تَعۡمَلُونَ} (60)

لمَّا بيَّن تعالى كمالَ علمهِ في الآية الأولى - بيَّنَ كمالَ قُدْرتِهِ بهذه الآية ، وهو كونه قَادراً على نَقْلِ الذَّواتِ من المَوْتِ إلى الحياة ، ومن النَّومِ إلى اليَقَظَةِ ، واسْتِقْلاله بحفظها في جميع الأحوال ، وتدبيرها على أحْسَنِ الوجوه في حَالِ النوم واليقظة .

قوله : " باللَّيْلِ " متعلّق بما قبله على أنه ظَرْفٌ له ، و " الباءُ " تأتي بمعنى " في " ، وقَدْ تقدَّم منه جملة صالحة .

وقال أبو البقاء{[14099]} هنا : وجاز ذلك ؛ لأن " الباء " للإلْصَاقِ والمُلاصِقُ للزمان والمكان حَاصِلٌ فيهما ، يعني في هذه العلاقةِ المجوزة للتَّجَوُّز ، وعلى هذا فلا حَاجَةَ إلى أن يَنُوب حَرْفٌ مكان آخر ، بل نقول : هي هنا للإلْصَاقِ مَجَازاً ، نحو ما قالوه في " مررتُ بزيد " ، وأسند التَّوَفِّي هنا إلى ذاتِهِ المُقَدَّسَةِ ، لأنه لا ينفر منه هنا ، إذ المُرَادُ به الدّعَةُ والرَّاحَةُ ، وأسند إلى غيره في قوله : { تَوَفَّتْهُ رُسُلُنَا } [ الأنعام :61 ] { يَتَوَفَّاكُم مَّلَكُ الْمَوْتِ } [ السجدة :11 ] لأنه ينفر منه ، إذا المُرَادُ به المَوْتُ .

وهاهنا بَحْثٌ ، وهو أن النائم لا شكَّ أنَّهُ حيُّ ، ومتى كان حَيَّاً لم تكن رُوحُهُ مَقْبُوَضَةً ألْبَتَّةَ ، فلا بُدَّ ها هنا من تأويلٍ ، وهو أنه حالَ النوم تَغُورُ الأرواح الحسَّاسَةُ من الظاهر في الباطن ، فصارت الحواسُّ الظاهِرَةُ مُعَطَّلَةً عن أعمالها ، فعند النوم صار ظَاهِرُ الجَسَدِ مُعَط‍َّلاً عن كُلِّ الأعمال ، فحصل بين النَّوْم وبين الموت مُشَابَهَةٌ من هذه الحَيْثِيَّةِ ، فلذلك صَحَّ إطلاق لفظ المَوْتِ والوفَاةِ على النوم{[14100]} .

قوله : " مَا جَرَحْتُمْ " الظاهر أنها مَصْدَرِيَّةٌ ، وإن كان كونها موصولة اسميةً أكثر ويجوز أن تكون نَكِرَةً مَوْصُوفَةً بما بعدها ، والعَائِدُ على كلا التقديرين الآخرين مَحْذُوفٌ ، وكذا عند الأخْفَشِ وابن السّراجِ{[14101]} على القول الأول .

و " بالنَّهَارِ " كقوله : " باللَّيْلِ " والضميرُ في " فيه " عائد على " النهار " وهذا هو الظاهر .

قال أبو حيَّان{[14102]} : " عاد عليه لَفْظاً ، والمعنى : في يوم آخر ، كما تقول : عندي دِرْهَمٌ ونِصْفهُ " .

قال شهابُ الدين{[14103]} : ولا حَاجَة في الظَّاهِرِ على عَوْدِهِ على نظير المذكور ، إذ عَوْدُهُ على المذكور لا مَحْذُورَ فيه .

وأمَّا ما ذكره من نحو " درهم ونِصْفهُ " فلضرورة انْتِفَاءِ العِيِّ من الكلامِ ، قالوا : لأنك إذا قلت : " عندي درهمٌ " أنَّ عندك نصفه ضرورة .

فقولك بعد ذلك : " ونصفه " تضطَرُّ إلى عَوْدِهِ إلى نظير ما عندك ، بخلاف ما نَحْنُ فيه .

وقيل : يعود على اللَّيل .

وقيل : يعود على التَّوَفِّي ، وهو النوم أي : يوقظكم في خلالِ النوم .

وقال الزمخشري{[14104]} : " ثم يَبْعَثكُمْ من القبور في شَأنِ الذي قطعتم به أعْمَارَكُمْ من النوم باللَّيْلِ ، وكَسْب الآثام بالنهار " انتهى .

وهو حَسَنٌ .

وخَصَّ اللَّيْلَ بالتَّوَفِّي ، والنَّهَارَ بالكَسْبِ وإن كان قد يُنَامُ في هذا ويُكْسَبُ في الآخر اعتباراً بالحَالِ الأغلب .

وقدَّم التَّوَفِّي بالليل ؛ لأنه أبْلغُ في المِنَّةِ عليهم ، ولاسيَّما عند مَنْ يَخُصُّ الجَرْحَ بكسْبِ الشَّرِّ دُون الخَيْرِ ، ومعنى " جرحتم " أي : كَسَبْتُمْ من العملِ بالنهار .

قال تعالى : { وَمَا عَلَّمْتُمْ مِّنَ الْجَوَارِحِ } [ المائدة :4 ] أي : الكَواسِب من الطير والسِّبَاع ، واحدتها " جارحة " .

قال تعالى : { الَّذِينَ اجْتَرَحُوا السَّيِّئَاتِ } [ الجاثية :21 ] أي :اكْتَسَبُوا .

وبالجملة فالمُرَادُ منه أعمال الجَوَارِح .

قوله : " ليُقْضَى أجَلٌ " الجمهور على " لِيُقْضَى " {[14105]} مبنيّاً للمفعولِ ، و " أجَلٌ " رفع به ، وفي الفاعل المَحْذُوفِ احتمالان :

أحدهما : أنه ضمير البَارِئ تعالى .

والثاني : أنه ضمير المخاطبين أي : لتقضوا آجالكم .

وقرأ أبو رجاءٍ{[14106]} ، وطلحة : " ليَقْضِي " مَبْنياً للفاعل ، وهو الله تعالى ، و " أجَلاً " مفعول به ، و " مُسَمى " صفة ، فهو مرفوع على الأوَّل ، ومنصوب على الثاني ويترتَّبُ على ذلك خلافٌ للقُرَّاءِ في إمالَةِ ألفِهِ ، و " اللام " في " ليقضي " متعلّقة بما قبلها من مجموع الفِعْلَيْن ، أي : يتوفاكم ثُمَّ يبعثكم لأجْلِ ذلك .

والمرادُ : الأجَلُ المسمَّى ، أي : عمركم المكتوب .

والمعنى : يبعثكم من نومكم إلى أن تَبْلُغُوا آجَالَكُمْ .

واعلم أنه -تعالى- لمَّا ذكر أنَّهُ يُنيمُهمْ أولاً ، ثم يوقظهم ثانياً كان ذلك جَارياً مُجْرَى الإحْيَاءِ بعد الإمَاتَةِ ، فلذلك اسْتَدلَّ به على صِحَّةِ البَعْثِ والقِيَامَةِ ، فقال : { ثُمَّ إِلَى رَبِّكُمْ مَّرْجِعُكُمْ فَيُنَبِّئُكُمْ بِمَا كُنتُمْ تَعْمَلُونَ } في ليلكم ونهاركم في جميع أحوالكم .


[14099]:ينظر: الإملاء 1/245.
[14100]:ينظر: الرازي 13/11.
[14101]:ينظر: الأصول 1/161.
[14102]:ينظر: البحر المحيط 4/151.
[14103]:ينظر: الدر المصون 3/80.
[14104]:ينظر: الكشاف 2/32.
[14105]:ينظر: الدر المصون 3/81، البحر المحيط 4/151.
[14106]:ينظر: الدر المصون 3/81، البحر المحيط 4/151.