اللباب في علوم الكتاب لابن عادل - ابن عادل  
{وَمَا عَلَى ٱلَّذِينَ يَتَّقُونَ مِنۡ حِسَابِهِم مِّن شَيۡءٖ وَلَٰكِن ذِكۡرَىٰ لَعَلَّهُمۡ يَتَّقُونَ} (69)

يجوز أن تقدر " ما " حجازية ، فيكون " مِنْ شيءٍ " اسمها ، و " من " مزيدة فيه لتأكيد الاستغراقِ ، و{ عَلَى الَّذِينَ يَتَّقُونَ } خبرها عند من يُجيزُ إعمالها مقدمة الخبر مطلقاً ، أو يرى ذلك في الظَّرْفِ وعديلِهِ .

و " مِنْ حِسَابِهِمْ " حالٌ من " شيء " لأنه لو تأخَّر لكان صِفَةً ، ويجوز أن تكون مُهْمَلةً إما على لُغَةِ " تميم " وإما على لغة " الحجاز " لِفَواتِ شرطٍ ، وهو تقديم خبرها وإن كان ظرفاً ، وتحقيق ذلك مما تقدَّم في قوله : { مَا عَلَيْكَ مِنْ حِسَابِهِم مِّن شَيْءٍ } [ الأنعام :52 ] .

قوله : " ولَكِنْ ذِكْرَى " فيه أربعة أوجه :

أحدها : أنها مَنْصُوبَةٌ على المَصْدَرِ بفعلٍ مُضْمَرٍ ، فَقَدَّرهُ بعضهم أمراً ؛ أي : ولكن ذكِّروهم ذِكْرَى ، وبعضهم قدَّرَهُ خبراً ؛ أي : ولكن يذكرونهم ذكرى .

الثاني : أنه مبتدأ خَبَرُهُ محذوف ؛ أي : ولكن عليهم ذكرى ؛ أو عليكم ذكرى ؛ أي : تذكيرهم .

الثالث : أنه خبر لمبتدأ محذوف ؛ أي هو ذكرى ؛ أي : النهي عن مُجَالَسَتِهِمْ والامتناع منها ذكرى .

الرابع : أنه عطفٌ على موضع " شيء " المجرور ب " مِنْ " ؛ أي : ما على المُتَّقين من حسابهم شيء ، ولكن عليهم ذكرى ، فيكون من عَطْفِ المفردات ، وأما على الأوجه السَّابقة فمن عطف الجُمَلِ .

وقد رَدَّ الزمخشري{[14179]} هذا الوَجْهَ الرابع ، ورَدَّهُ عليه أبو حيان .

فأما رَدّ الزمخشري{[14180]} فقال : " ولا يجوز أن يكون عَطْفاً على مَحَلِّ من شيء ؛ كقولك : " ما في الدار من أحد ولكن زيد " ؛ لأن قوله : " مِنْ حِسَابِهِمْ " يأبَى ذلك " .

قال أبو حيَّان{[14181]} : كأنه تَخَيَّلَ أن في العَطْفِ يلزم القَيْدُ الذي في المعطوف عليه ، وهو " مِنْ حِسَابِهِم " فهو قيد في " شيء " فلا يجوز عنده أن يكون من عَطْفِ المفردات عطفاً على " من شيء " على الموضع ؛ لأنه يصير التقدير عنده : ولكن ذكرى من حسابهم ، وليس المعنى على هذا ، وهذا الذي تَخَيَّلَهُ ليس بشيء ، ولا يلزم في العطف ب " لكن " ما ذكر ؛ تقول : ما عندنا رَجُلُ سُوءٍ ولكن رَجُلُ صِدْقٍ ، وما عندما رَجُلٌ من تميم ولكن رَجُلٌ من قريش ، وما قام من رَجُلٍ عالم ولكن رَجُل جاهل ، فعلى هذا الذي قَرَّرْناهُ يجوز أن يكون من عطف الجمل كما تقدم ، وأن يكون من عَطْفِ المفرادات والعطف بالواو ، ولكن جيء بها للاستدراك .

قال شهابُ الدِّين{[14182]} : قوله : " تقول : ما عندنا رجل سوء ولكن رجل صدق " إلى آخر الأمثلة التي ذكرها لا يَرُدُّ على الزمخشري{[14183]} ؛ لأن الزمخشري وغيره من أهْلِ اللِّسانِ والأصوليين يقولون : إنَّ العطف ظَاهِرٌ في التشريك ، فإن كان في المعطوف عليه قَيْدٌ ، فالظَّاهِرُ تقييد المعطوف بذلك القَيْد ؛ إلاَّ أن تجيء قرينَةٌ صارِفَةٌ ، فيُحَالٌ الأمر عليها .

فإذا قلت : ضربت زيداً يوم الجمعة وعمراً ، فالظاهر اشتراك عمرو مع زيد في الضَّربِ مقيداً بيوم الجمعة ، فإن قلت : وعمراً يوم السبت لم يشاركه في قَيْدِهِ ، والآية الكريمة من قَبِيلِ النوع الأول ؛ أي : لم يؤت مع المعطوف بقرينه تُخْرِجُهُ ، فالظاهر مُشَاركَتُهُ للأول في قيده ، ولو شاركه في قيده لزم منه ما ذكر الزمخشري ، وأما الأمثلة التي أوْرَدَهَا فالمعطوف مُقَيَّدٌ بغير القيد الذي قيد به الأوَّل ، وإنما كان نبغي أن يُمَثِّلَ بقوله : " ما عندنا رجل سوء ولكن امرأة وما عندنا رجل من تميم ولكن صبي " ، فالظاهر من هذا أن المعنى : ولكن امرأة سوء ، ولكن صبي من قريش .

وقول الزمخشري{[14184]} : " عَطْفاً على محل : من شيء " ولم يقل : عطفاً على لفظه لفائدة حَسَنَةٍ يَعْسُرُ مَعْرفَتُهَا ، وهو أن " لكن " حرف إيجاب ، فلو عطفت ما بعدها على المجرور ب " مِنْ " لَفْظاً لزم زيادة " من " في الواجب ، وجمهور البصريين على عدم زيادتها فيه ، ويَدُلُّ على اعتبار الإيجاب في " لكن " أنهم إذا عَطَفُوا بعد خبر " ما " الحجازية أبْطَلُوا النَّصْبَ ؛ لأنها لا تعمل في المنتقض النفي ، و " بل " ك " لكن " فيما ذكرنا .

فصل في النزول

روى عن ابن عبَّاسٍ أنه قال : لما نزلت هذه الآية { وَإِذَا رَأَيْتَ الَّذِينَ يَخُوضُونَ فِي آيَاتِنَا فَأَعْرِضْ عَنْهُمْ } قال المسلمون : لئن كُنَّا كلما استهزأ المشركون بالقرآن ، وخاضوا فيه قُمنا عَنْهُم لما قَدَرْنَا على أن نجلس في المسجد الحرامِ ، وأن نطوف بالبيت ، وهم يخوضون أبداً{[14185]} .

وفي رواية : قال المسلمون : فإنا نَخَافُ الإثم حين نتركهم ، ولا ننهاهم ، فأنزل الله { وَمَا عَلَى الَّذِينَ يَتَّقُونَ مِنْ حِسَابِهِم } أي : من آثَامِ الخائفين من شيء " ولَكِنْ ذِكُرَى " أي : ذكِّروهم وعِظُوهم بالقرآن ، والذِّكْرُ والذِّكْرَى واحد ، يريد ذكروهم ذكرى لَعَلَّهم يتقون الخوض إذا وعَظْتُمُوهُمْ ، فرخص في مجالستهم على الوَعْظِ لعلَّهم يمنعهم ذلك من الخوض .

وقيل : لعلَّهم يستحيون .


[14179]:ينظر: الكشاف 2/35.
[14180]:ينظر: المصدر السابق.
[14181]:ينظر: البحر المحيط 4/158.
[14182]:ينظر: الدر المصون 3/89.
[14183]:ينظر: الكشاف 2/35.
[14184]:ينظر: الكشاف 2/35.
[14185]:أخرجه الطبري في "تفسيره" (5/226) عن أبي مالك وذكره السيوطي في "الدر المنثور" (3/37) عن أبي مالك وسعيد بن جبير وزاد نسبته لعبد بن حميد وأبي داود في ناسخه وابن المنذر وابن أبي حاتم وأبي الشيخ.