أحدهما : أنها مُتَعَدِّيَةٌ لواحد ، على أنها بمعنى " اكتسبوا " و " عملوا " ، و " لهواً ولعباً " على هذا مفعول من أجله ؛ أي : اكتسبوه لأجل اللهو واللعب .
والثاني : أنها المُتَعَدِّية إلى اثنين : أولهما " دينهم " وثانيهما " لعباً ولهواً " .
قال أبو حيَّان{[14186]} : ويظهر من بعض كلام الزمخشري{[14187]} ، وكلام ابن عطية{[14188]} أنَّ " لعباً ولهواً " هو المفعول الأوَّل ، و " دينهم " هو المفعول الثاني .
قال الزمخشري{[14189]} : أي دينهم الذي كان يجب أن يأخذوا به لَعِباً ولهواً ، وذلك أن عبادتهم وما كانوا عليه من تَبْحِير البَحَائِرِ وتسييب السَّوائبِ من باب اللَّهْوِ واللعب ، واتِّباعِ هوى النفس ، وما هو من جِنْسِ الهَزْلِ لا الجدِّ ، أو اتخذوا ما هو لَعِبٌ ولهو من عبادة الأصنام دِيناً لهم ، أو اتخذوا دينهم الذي كُلِّفُوهُ ، وهو دين الإسلام لعباً ولهواً حيث سخروا به ؛ قال : " فظاهر تقديره الثاني يدلّ على ما ذكرنا " .
وقال ابن عطيَّة{[14190]} : " وأضاف الدّينَ إليهم على مَعْنَى أنهم جعلوا اللَّعِبَ واللهو ديناً ، ويحتمل أن يكون المعنى : اتخذوا دِينَهُمُ الذي كان يَنْبَغِي لهم لعباً ولهواً ، فتفسيره الأوَّلُ هو ما ذكرناه عنه " . انتهى .
قال شهاب الدين{[14191]} : وهذا الذي ذَكَرَاهُ إنما ذَكَرَاهُ تفسير معنى لا تفسير إعراب ، وكيف يجعلان النكرة مَفْعُولاً أوَّل ، والمعرفة مفعولاً ثانياً من غير داعية إلى ذلك ، مع أنهما من أكابر أهْلِ هذا اللسان ، وانظر كيف أبرزا ما جَعَلاَهُ مفعولاً أول معرفة ، وما جعلاه ثانياً نكرة في تركيب كلامها [ يخرج ] على كلام العرب ، فكيف يظن بهما أن يجعلا النكرة محدثاً عنها ، والمعرفة حديثاً في كلام الله تعالى ؟
قوله تعالى : و{ وَغَرَّتْهُمُ الْحَيَاةُ الدُّنْيَا } تحتمل وجهين :
والثاني : أنها عطف على صلة " الَّذين " ، أي : الذين اتَّخّذُوا وغرَّتْهُم ، وقد تقدم معنى " الغُرُور " في آخر آل عمران .
وقيل : هنا : غَرَّتْهُمْ من " الغَرّ " بفتح الغين ، أي : ملأت أفواههم وأشبعتهم ، وعليه قول الشاعر : [ الطويل ]
وَلَمَّا الْتَقَيْنَا بِالحُلَيْبَةِ غَرَّنِي *** بِمَعْرُوفِهِ حَتَّى خَرَجْتُ أفُوقُ{[14192]}
المُرَادُ من هؤلاء الذي اتخذوا دينهُمْ لعباً ولهواً ، يعني الكفار الذين إذا سَمِعُوا آيات الله استهزءوا بها وتلاعبوا .
وقيل : إن الله -تعالى- جعل لكل قوم عِيداً واتَّخَذَ كل قوم دينهم ؛ أي عيدهم لعباً ولهواً ، وعيد المسلمين الصلاة والتكبير ، وفعل الخير مثل الجُمُعَةِ والفِطْرِ والنَّحْر .
وقيل : إن الكُفَّارَ كانوا يحكمون في دين الله بمجرَّدِ [ التشهِّي والتمني مثل تحريم ]{[14193]} السَّوائبِ والبَحَائِرِ .
وقيل : اتخاذهم الأصنام وغيرها ديناً لهم .
وقيل : هم الذين ينصرون الدين ليتوسَّلُوا به إلى أخْذِ المناصِبِ والرِّيَاسَةِ ، وغلبة الخَصْمِ ، وجمع الأموال ، فهؤلاء الذين [ نصروا الدِّين ]{[14194]} لأجل الدنيا ، وقد حكم الله على الدنيا في سائر الآيات بأنها لَعِبٌ ولَهْوٌ .
ويؤكِّدُ هذا الوَجْهَ قوله تعالى : { وَغَرَّتْهُمُ الْحَيَاةُ الدُّنْيَا } .
قوله : " وذكِّر بِهِ " أي : بالقرآن ، يَدُلُّ له قوله : { فَذَكِّرْ بِالْقُرْآنِ مَن يَخَافُ وَعِيدِ } [ ق :45 ] وقيل : يعود على " حِسَابِهِمْ " .
وقيل : على " الدّين " أي : الذي يجب عليهم أن يَتَداينُوا ، ويعتقدوا بصحته .
وقيل : هذا ضمير يفسره ما بعده ، وسيأتي إيضاحه .
قوله : " أنْ تُبْسَلَ " في هذا وجهان :
المشهور - بل الإجماع - على أنه مفعول من أجْلِهِ ، وتقديره : مَخَافَة أن تُبْسَلَ ، أو كراهة أن تُبْسَلَ أو ألاَّ تبسل .
والثاني : قال أبو حيَّان{[14195]} بعد أن نقل الاتِّفاقَ على المفعول من أجله : " ويجوز عندي أن يكون في موضع جرِّ على البدلِ من الضمير ، والضمير مفسّر بالبَدَلِ ، ويضمر الإبْسَالُ لما في الإضمار من التَّفْخيمِ ، كما أضمروا ضمير الأمْرِ والشَّأنِ ، والتقدير : وذكِّرْ بارتهان النفوسن وحبسها بما كسبت ، كما قالوا : " اللهم صَلِّ عليه الرءوف الرحيم " ، وقد أجاز ذلك سيبويه{[14196]} ؛ قال : فإن قلت : ضربت وضربوني قومك ، نَصَبْتَ إلا في قول من قال : " أكلوني البراغيث " أو تحمله على البَدَل من المضمر .
وقال أيضاً : فإن قلت : " ضربني وضربتهم قومك ، رفعت على التقديم والتأخير إلا أن تجعل هاهنا البدل ، كما جعلته في الرفع " . انتهى .
. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . *** . . . . . . فاسْتَاكَتْ بِهِ عُودِ إسْحِلِ{[14197]}
بجر " عُود " على البدل من الضمير .
قال شهاب الدين{[14198]} : أما تفسير الضمير غير المرفوع بالبدل ، فهو قول الأخفش ، وأنشد عليه هذا العَجُزَ وأوله : [ الطويل ]
إذَا هِيَ لَمْ تَسْتَك بِعُودِ أرَاكَةٍ *** تُنُخِّلَ فَاسْتاكَتْ بِهِ عُودِ إسْحِلِ{[14199]}
والبيت لطُفَيْلٍ الغَنَوِيّ ، يروى برفع " عُود " ، وهذا هو المشهور عند النُّحَاةِ ، ورفعه على إعمال الأول ، وهو " تُنُخِّلَ " ، وإهمال الثاني وهو " فَاسْتَاكَتْ " ، فأعطاه ضميره ، ولو أعمله لقال : " فاستاكت بعود إسحل " ، ولا يكن لانكسار البيت ، والرواية الأخرى التي استشهد بها ضعيفة جدّاً لا يعرفها أكثر المُعْرِبينَ ، ولو استشهد بما لا خلاف عليه فيه كقوله : [ الطويل ]
عَلَى حَالَةٍ لَوْ أنَّ فِي القَوْمِ حَاتِماً *** عَلَى جُودِهِ لَضَنَّ بالمَاءِ حَاتِمِ{[14200]}
بجر " حاتم " بدلاً من الهاء في " جوده " ، والقوافي مجرور لكان أوْلَى .
والإبْسَالُ : الارتهان ، ويقال : أبْسَلْتُ ولدي وأهلي ، أي ارْتَهَنْتُهُمْ ؛ قال : [ الوافر ]
وإبْسِالِي بَنِيَّ بِغَيْرِ جُرْمٍ *** بَعَوْنَاهُ ولا بِدَمٍ مُرَاقِ{[14201]}
بَعَوْنَا : جَنَيْنَا والبَعْوُ : الجِنَاية .
وقيل : الإبْسَالُ أن يُسْلِمَ الرجل نفسه للهَلَكَةِ وقال الراغب{[14202]} : " البَسْلُ : ضَمُّ الشيء ومنعه ، ولتَضَمُّنِهِ معنى الضَّمِّ استعير لتَقَطُّبِ الوَجْهِ ، فقيل : هو باسل ومُبْتسلٌ الوجه ، ولتضمينه معنى المنع قيل للمُحَرَّم والمرتهن : بَسْلٌ " ، ثم قال : والفرقُ بين الحرام والبَسْل أنَّ الحرام عام فيما كان ممنوعاً منه بالقَهْرِ والحكم ، والبَسْلُ هو الممنوع بالقَهْرِ ، وقيل للشجاعة : بَسَالَة ؛ إما لما يوصف به الشجاع من عُبُوس وَجْهِهِ ، ولأنه شديد البُسُورَةِ يقال بسر الرجل إذا اشتد عبوسه ، وقال تعالى : { ثُمَّ عَبَسَ وَبَسَرَ } [ المدثر :22 ] فإذا زاد قالوا بَسَلَ ، أو لكونه محرماً على أقرانه ، أو لأنه يَمْنع ما في حَوْزتِهِ ، وما تحت يده من أعدائه والبُسْلَةُ ، أجْرَةُ الرَّاقِي مأخوذة من قول الرَّاقي : أبْسَلْتُ زيداً ؛ أي : جَعَلْتُهُ مُحَرَّماً على الشيطان ، أو جعلته شجاعاً قويَّا على مُدافعتِهِ ، و " بَسَل " في معنى " أجَلْ " و " بَسْ " . أي : فيكون حَرْفَ جواب ك " أجل " ، واسم فعل بمعنى اكتف ك " بس " .
وقوله " بما " متعلّق ب " تُبْسَلَ " ، أي بسبب ، و " ما " مصدرية ، أو بمعنى " الذي " ، أو نكرة وأمرها واضح .
قال مجاهد وعكرمة والسدي : قال ابن عبَّاس : " تُبْسَل " : تَهْلِكُ{[14203]} ، وروي عن ابن عباس تُرتهنُ في جَهنَّم بما كسبت في الدنيا ، وهو قول الفراء{[14204]} .
وقال قتادة : تُحْبَسُ في جهنم{[14205]} .
وروي عن ابن عباس : تُفضحُ{[14206]} وقال ابن زيد : تُؤخَذُ{[14207]} .
قوله : " لَيْسَ لَهَا " هذه الجملة فيها ثلاثة أوجه :
أحدها : أنها مُسْتأنَفَةٌ سِيقَتْ للإخبار بذلك .
والثاني : أنها في مَحَلِّ رفع صفة ل " نفس " .
والثالث : أنها في مَحَلِّ نَصْب حالاً من الضمير في " كسبت " .
قوله : " مِنْ دُون " في " مِنْ " وجهان :
أظهرهما : أنها لابْتِدَاءِ الغاية .
والثاني : أنها زَائِدَةٌ نقله ابن عطية{[14208]} ، وليس بشيء ، وإذا كانت لابتداء الغايةِ ، ففيما يتعلَّق به وجهان :
أحدهما : أنها حالٌ من " وليّ " ؛ لأنها لو تأخَّرَتْ لكانت صِفَةً له فتتعلَّقُ بمحذوف هو حال .
الثاني : أنها خبر " ليس " فتتعلَّق بمحذوف أيضاً وهو خبر ل " ليس " ، وعلى هذا فيكون " لها " متعلقاً بمحذوف على البيان ، كما تقدم نظيره ، و " من دون الله " فيه حذف مُضَاف أي : من دون عذابه وجزائه وَليّ ولا شفيع يشفع لها في الآخرة .
قوله : " وإن تَعْدِل " أي : تَفْتَدِي " كُلَّ عَدْلٍ " : كُلّ فداء ، و " كل " منصوب على المصدرية ؛ لأن " كل " بحسب ما تضاف إليه هذا هو المشهور ، ويجوز نَصْبُهُ على المفعول به ؛ أي : وإن تَفدِ يَداهَا كُلَّ ما تَفْدِي به لا يُؤخَذُ ، فالضمير في " لا يؤخَذُ " على الأوَّل ، قال أبو حيَّان : " عائد على المَعْدُولِ به المفهوم من سياق الكلام ، ولا يعود إلى المصدر ؛ لأنه لا يُسْنَدُ إليه الأخْذُ ، وأما في
{ وَلاَ يُؤْخَذُ مِنْهَا عَدْلٌ } [ البقرة :48 ] فبمعنى المَفْدِيَّ به فيصح " انتهى . أي : إنه إنما أسند الأخْذَ إلى العَدْلِ صريحاً في " البقرة " ؛ لأنه ليس المراد المصدر ، بل الشيء المَفْدِيَّ به ، وعلى الثَّاني يعود على " كل عدل " ؛ لأنه ليس مصدراً فهو كآية البقرة .
وقال ابن الخطيب{[14209]} : ويكن حَمْلُ الأخذ هنا بمعنى القَبُولِ ؛ قال تعالى { وَيَأْخُذُ الصَّدَقَاتِ } [ التوبة :104 ] أي : يقبلها وإذا [ ثبت هذا فيُحْمَلُ ]{[14210]} الأخذ هاهنا على القبول ويزول المحذور ، وفي إسناد الأخْذِ إلى المصدر عبارة عن الفعل يعني يؤخذ مسنداً " إلى " منها لا إلى ضميره أي : لأن العدل بالمعنى المصدري لا يؤخذ ، بخلاف قوله : { وَلاَ يُؤْخَذُ مِنْهَا عَدْل } فإنه المَفْدِيُّ به .
قوله : { أُوْلَئِكَ الَّذِينَ أُبْسِلُواْ } يجوز أن يكون " الَّذينَ " خبراً ، و " لهم شراب " خبراً ثانياً ، وأن يكون " لهم شراب " حالاً ؛ إما من الضمير في " أبْسِلوا " وإمَّا من الموصول نفسه ، و " شراب " فاعلٌ لاعتماد الجار قبله على ذِي الحالِ ، ويجوز أن يكون " لهم شراب " مُسْتَأنفاً ، فهذه ثلاثة أوجه ، ويجوز أن يكون " الذين " بدلاً من " أولئك " أو نعتاً فيتعين أن يكون الجملة من " لهم شراب " خبراً للمبتدأ ، فيحصل في الموصُولِ أيضاً ثلاثة أوجه ؛ كونه خبراً ، أو بدلاً ، أو نعتاً فجاءت مع ما قبلها ستة أوجه في هذه الآية ، و " شراب " يجوز رَفْعُهُ من وجهين ؛ الابتدائية والفاعلية عند الأخفش ، وعند سيبويه أيضاً على أن يكون " لهم " هو خبر المبتدأ أو حالاً ، حيث جعلناه حالاً ، و " شراب " مُرتفعٌ به لاعتماده على ما تقدَّم ، و " من حميم " صفة ل " شراب " فهو في مَحَلِّ رفع ، ويتعلق بمحذوف .
و " شراب " فعال بمعنى مفعول ك " طعام " بمعنى " مطعوم " ، و " شراب " بمعنى " مشروب " لا يَنْقَاسُ ولا يقال : " أكال " بمعنى " مأكول " ولا " ضراب " بمعنى " مضروب " .
والإشارة بذلك إلى الَّذين اتخذوا في قول الزمخشري{[14211]} والحوفي ، فلذلك أتى بصيغة الجمع ، وفي قول ابن عطية{[14212]} وأبي البقاء{[14213]} إلى الجنْسِ المفهوم من قوله { أن تُبْسَلَ نَفْسٌ } إذ المرادُ به عُمومُ الأنْفُسِ ، فلذلك أشير إليه بالجمع ، ومعنى الآية : أولئك الذين أبسلوا أسلمُوا للهلاكِ بما كسبوا " لهم شراب من حميم وعذاب أليم بما كانوا يكفرون " .