اعلم أنه -تعالى- يَحْتَجُّ كثيراً على مشركي العرب بأحوال إبراهيم - عليه السلام - وذلك لأنه رَجُلٌ يَعْتَرفُ بِفَضْلِهِ جميع الطوائف والملل ، فالمشركون كانوا معترفين بفضله ، مُتَشَرِّفين بأنهم من أولاده ، وسائر الملل تعظمه ، فلهذا السبب ذكر الله حالهُ في معرض الاحتجاج ، والسبب في حصول هذه المرتبة العظيمة لإبراهيم عليه الصلاة والسلام أنّه سلَّمَ قلبه للعرفان ، ولسانهُ للبرهان ، وبَدنَهُ للنيران ، وولدَهُ للقربان ، ومَالهُ للضِّيفانِ .
أما تسليم قلبه للعرفان ، فهو قوله : { أَسْلَمْتُ لِرَبِّ الْعَالَمِينَ } [ البقرة :131 ] .
وأما تسليم لسانه للبرهان : فَمُنَاظَرتُهُ مع نمرود ، حيث قال :
{ رَبِّيَ الَّذِي يُحْيِي وَيُمِيتُ } [ البقرة :258 ] ومناظرته مع الكفار بالفعل حين كسَّر أصنامهم ، وجعلها جُذَاذاً ، وقوله بعد ذلك :
{ أَفَتَعْبُدُونَ مِن دُونِ اللَّهِ مَا لاَ يَنفَعُكُمْ شَيْئاً وَلاَ يَضُرُّكُمْ } [ الأنبياء :66 ] .
وأما تسليم بدنه للنيران : فحين ألْقِيَ فيها .
وأما تسليم ولده لِلْقُربانِ : فحين أمر بذبح ولده " فَتَلَّهُ للجَبِينِ " .
وأما تسليم ماله للضيفان : فمشهورة .
قوله : " وإذ قال " " إذ " منصوب بفعل محذوف ، أي : اذكر ، وهو معطوف على " أقيموا " : قاله أبو البقاء{[14275]} ، وقال : في محل خَفْضٍ بالظرف .
قوله : " آزَرَ " الجمهور{[14276]} على " آزرَ " بزنة " آدم " ، مفتوح الزاي والراء ، وإعرابه حينئذ على أوجه :
أحدها : أنه بدلٌ من أبيه ، أو عطف بيان له إن كان آزر لَقَباً له ، وإن كان صفة له بمعنى المخطئ [ كما قال الزجاج ]{[14277]} أو المعوج كما قاله الفراء{[14278]} ، وسليمان التيمي ، أو الشيخ الهرم كما قاله الضحاك فيكون نعتاً ل " أبيه " ، أو حالاً منه بمعنى : وهو في حال اعْوِجَاج أو خطأ ، وينسب للزجاج .
وإن قيل : إن " آزر " كان اسم صنم كان أبوه يعبده ، كما قاله سعيد بن المسيب ومجاهد ، فيكون إذ ذاك عطف بيان ل " أبيه " أو بدلاً منه ، ووجه ذلك أنه لما لازم عبادته نُبِزَ به وصار لقباً له كما قال بعض المحدثين : [ البسيط ]
أدْعَى بِأسْمَاءَ نَبْزاً فِي قَبَائِلِهَا *** كَأنَّ أسْمَاءَ أضْحتْ بَعْضَ أسمَائِي{[14279]}
كذا نَسَبَهُ الزمخشري{[14280]} إلى بعض المحدثين ، ونسبه أبو حيان لبعض النحويين .
قال الزمخشري : " كما نبز ابن قيس ب " الرقيات " [ اللاتي كان يُشبِّبُ بهن فقيل : ابن قيس الرُّقَيَّات " ]{[14281]} أو يكون على حذف مضاف ، أي ل " أبيه " عابد آزر ، ثم حذف المضاف ، وأقيم المضاف إليه مُقَامَهُ ، وعلى هذا فيكون عابد صفة ل " أبيه " أعْرِبَ هذا بإعرابه ، أو يكون منصوباً على الذَّمِّ .
و " آزر " ممنوع من الصرف ، واختلف في عِلَّةِ منعه ، فقال الزمخشري{[14282]} : والأقرب أن يكون وزن " آزر " " فاعل " ك " عابر " و " شالخ " و " فالغ " فعلى هذا هو ممنوع للعلميّة والعُجْمَةِ .
وقال أبو البقاء{[14283]} : ووزنه " أفعل " ولم ينصرف للعُجْمَةِ ، والتعريف على قول من لم يشتقه من الأزر أو الوزر ، ومن اشْتَقَّهُ من واحد منهما قال : هو عربي ، ولم يصرفه للتعريف ، ووزن الفعل ، وهذا الخلاف يشبه الخلاف في " آدم " وقد تقدَّم أن اختيار الزمخشري فيه أنه " فاعل " ك " عابر " ومن جرى على ذلك ، وإذا قلنا بكونه صِفَةً على ما قاله الزَّجَّاجُ بمعنى المخطئ ، أو بمعنى المعوج ، أو بمعنى الهرم ، كما قاله الفراء والضحاك ، فيشكل مَنْعُ صرفه ، وسيشكل أيضاً وقوعه صِفَةً للمعرفة . وقد يُجَابُ عن الأول بأن الإشكال قد يندفع بادِّعاءِ وزنه على " أفعل " ، فيمتنع حينئذ للوزن والصفة ك " أحمر " وبابه ، وأما على قول الزمخشري فلا يَتَمَشَّى ذلك .
وعن الثاني : بأنا لا نُسَلِّمُ أنه نَعْتٌ لأبيه ، حتى يلزم وصف المعارف بالنكرات ، بل هو منصوب على الذَّمِّ ، أو على أنه على نِيَّةِ الألف واللام قالهما الزجاج{[14284]} .
والثاني ضعيف ؛ لأنه حَذَفَ " أل " وأراد معناها ؛ إما أن يؤثّر منع الصرف كما في " سحر " ليوم بعينه ، ويسمى عدلاً ؛ وإما أن يؤثِّر بناءً ويسمى تَضَمناً ك " أمس " وفي " سحر " و " أمس " كلام طويل ، ولا يمكن أن يقال : إن " آزر " امتنع من الصرف كما امتنع " سحر " أي للعدل عن " أل " ؛ لأن العدلَ يمنع فيه مع التعريف ، فإنه لوقت بعينه ، بخلاف هذا فإنه وصف كما فرضتم . وقرا أبَيُّ بن كعب{[14285]} ، وعبد الله بن عباس ، والحسن ، ومجاهد ، ويعقوب في آخرين بضم الراء على أنه منادى حذف حرف ندائه كقوله تعالى : { يُوسُفُ أَعْرِضْ عَنْ هَذَا } [ يوسف :29 ] أو كقوله : [ الطويل ]
لِيُبْكَ يَزِيدُ ضَارعٌ لِخُصُومَةٍ *** . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . {[14286]}
في أحد الوجهين ، أي يا يزيد ، ويُؤيِّدُهُ ما في مصحف أبيّ : " يا آزر " بإثبات حرفه ، وهذا إنما يَتَمَشَّى على دعوى أنه عَلَمٌ ، وإما على دعوى وَصْفِيَّتِهِ فضعيف ؛ لأن حذف حرف النداء يقل فيها كقولهم : [ الخفيف ]
افْتَدِ مَعْتُوقُ وصَاحِ شَمِّرْ *** . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . {[14287]}
وقرأ ابن عباس{[14288]} في رواية " أأزْراً " بهمزتين مفتوحتين [ وزاي ساكنة ]{[14289]} وراء منونة منصوبة ، و " تتخذ " بدون همزة استفهام ، ولما حكى الزمخشري{[14290]} هذه القراءة لم يسقط همزة الاستفهام من " أتتخذ " فأما على القراءة الأولى ، فقال ابن عطية{[14291]} مُفَسِّراً لمعناها : " أعَضُداً وقُوَّةً ومُظَاهرةً على الله تتَّخذ " ، وهو من قوله : { اشْدُدْ بِهِ أَزْرِي } [ طه :31 ] انتهى .
وعلى هذا فيحتمل " آزراً " أن ينتصب من ثلاثة أوجه :
أحدها : أنه مَفْعُولٌ من أجله و " أصناماً آلهة " منصوب ب " تتخذ " على ما سيأتي بيانه ، والمعنى : أتتخذ أصْنَاماً آلهة لأجل القوة والمُظَاهرة .
والثاني : أنه ينتصب على الحال ؛ لأنها في الأصْلِ صفة ل " أصناماً " فلما قُدِّمَتْ عليها ، وعلى عاملها انتصبت على الحال .
والثالث : أن ينتصب على أنه مفعول ثانٍ قُدِّم على عامله ، والأصل : أتتخذ أصناماً آلهة آزراً ، أي قوة ومُظَاهرةٍ .
وأما القراءة الثَّانية فقال الزمخشري{[14292]} : وهو اسم صَنَمٍ ، ومعناه أتعبد آزراً على الإنكار ، ثم قال : تتخذ أصناماً آلهة تثبيتاً لذلك وتقريراً ، وهو داخل في حكم الإنكار ؛ لأنه كالبيانِ له ، فعلى هذا " آزراً " منصوب بفعل محذوف يَدُلُّ عليه المعنى ، ولكن قوله : " وهو داخل في حكم الإنكار " يقوي أنه لم يقرأ " أتتخذ " بهمزة الاستفهام ؛ لأنه لو كان معه همزة استفهام لكان مستقلاًّ بالإنكار ، ولم يحتج أن يقول : هو داخل في حكم الإنكار ، لأنه كالبيان له .
وقرأ ابن عبَّاسٍ أيضاً{[14293]} وأبو إسماعيل " أإزراً " بهمزة استفهام بعدها همزة مكسورة ، ونصب الراء منونة ، فجعلها ابن عطيَّة بدلاً من واو اشتقاقاً من الوزر ك " إسادة " و " إشاح " في : " وسادة " و " وشاح " .
وقال أبو البقاءِ{[14294]} : وفيه وجهان :
أحدهما : أنَّ الهمزة الثانية فاء الكلمة ، وليست بَدَلاً من شيء ، ومعناها الثقل وجعله الزمخشري اسم صَنَمٍ ، والكلام فيه كالكلام في " أزراً " المفتوح الهمزة وقد تقدم .
وقر الأعمش{[14295]} : " إزْراً تَتَّخِذُ " بدون همزة استفهام ، ولكن بكسر الهمزة وسكون الزاي ونصب الراء منونة ، ونصبه واضح مما تقدَّم ، و " تَتَّخِذُ " يحتمل أن تكون المتعدية لاثنين بمعنى التَّصْييريَّةِ ، وأن تكون المتعدية لواحد ؛ لأنها بمعنى " عمل " ، ويحكى في التفسير أنَّ أباه كان ينحتها ويصنعها ، والجملة الاستفهامية في مَحَلِّ نصب بالقول ، وكذلك قوله : " إنِّي أراك " و " أراك " يحتمل أن تكون العلمية ، وهو الظَّاهر فتتعدى لاثنين ، وأن تكون بَصَريَّة ، وليس بذاك ف " في ضلال " حالٌ ، وعلى كلا التقديرين يتعلق بمحذوف ، إلاَّ أنه في الأوَّل أحد جزئي الكلام ، وفي الثَّاني فَضْلَةٌ .
" مُبِين " اسم فاعل من " أبان " [ لازماً ]{[14296]} بمعنى ظَهَرَ ، ويجوز أن يكون من المُتَعدِّي ، والمفعول محذوف ، أي : مبين كفركم بخالقكم ، وعلى هذا فقول ابن عطية ليس بالفعل المُتعدِّي المنقول من بان يبين غير مسلم ، وجعل الضلال ظرفاً محيطاً بهم مبالغة في اتِّصِافِهِمْ به ، فهو أبلغ من قوله : " أرَاكُمْ ضَالِّينَ " .
فصل في اختلاف المفسرين حول " آزر "
قال محمد بن إسحاق ، والضحاك ، والكلبي{[14297]} : آزر اسم أبي إبراهيم عليه السلام وهو تارح أيضاً مثل إسرائيل ويعقوب ، وكان من " كوثى " {[14298]} قرية من سواد " الكوفة " وقال مقاتل بن حيان وغيره{[14299]} : آزر لقب لأبي إبراهيم واسمه تارح .
وقال سليمان التيمي{[14300]} هو سَبٌّ وعيب ، ومعناه في كلامهم المعوج .
وقيل : معناه الشيخ الهرم بالخوارزمية والفارسية أيضاً{[14301]} وهذان الوجهان مبنيان على من يقول : إن في القرآن ألفاظاً قليلة غير عربية .
وقال سعيد بن المسيب ، ومجاهد : آزر صنم ، وإنما سمي والد إبراهيم به لوجهين{[14302]} :
أحدهما : أنه جعل نفسه مُختَصاً بعبادته ، ومن بالغ في مَحَبَّةِ أحد ، فقد يُجْعَلُ اسم المحبوب اسماً للمحب ؛ قال تعالى : { يَوْمَ نَدْعُواْ كُلَّ أُنَاسٍ بِإِمَامِهِمْ } [ الإسراء :71 ] .
الثاني : أن يكون المراد عابد آزر ، فحذف المضاف ، وأضيف المضاف إليه مُقَامَهُ .
وقيل : إن والد إبراهيم - عليه الصلاة والسلام - كان اسمه تارح ، وكان آزر عمَّا له ، والعم قد يُطْلَقُ عليه لفظ الأب ، كما حكى الله تعالى عن أولاد يعقوب : { نَعْبُدُ إِلَهَكَ وَإِلَهَ آبَائِكَ إِبْرَاهِيمَ وَإِسْمَاعِيلَ وَإِسْحَاقَ } [ البقرة :133 ] .
ومعلوم أن إسماعيل كان عمَّا ليعقوب ، وقال عليه الصلاة والسلام " رُدُّوا عَلَيَّ أبي العبَّاسَ " فكذا هاهنا .
قال ابن الخطيب{[14303]} : وهذه التَّكالِيفُ إنما يجب المَصِيرُ إليها إذا دَلَّ قَاهِرٌ على أن والد إبراهيم ما كان اسمه آزر ، وهذا الدليل لم يوجد ألبتة ، فأي حاجة تحملنا على هذه التأويلات ؟ ومما يَدُلُّ على صِحَّةِ ما قلنا أن اليهود والنصارى والمشركين كانوا في غاية الحِرْصِ على تكذيب الرسول وإظهار النسب .
قالت الشيعة : إن أحَداً من آباء الرسول وأجْدَادِهِ ما كان كافراً ، وأنكروا كون والد إبراهيم كافراً ، وقالوا : إن آزر كان عَمَّ إبراهيم ، واحتجوا بوجوه :
الأوَّل : أن آباء الأنبياء - عليهم الصلاة والسلام - ما كانوا كُفَّاراً لوجوه :
أحدها : قوله تعالى : { وَتَقَلُّبَكَ فِي السَّاجِدِين } [ الشعراء :219 ] . قيل : معناه أنه كان ينتقل روحه من ساجد إلى ساجد فَدَلَّت الآية على أن آباء محمد - عليه السلام - كانوا مسلمين .
وحينئذ يجب القَطْعُ بأن والد إبراهيم كان مسلماً .
فإن قيل : قوله : { وَتَقَلُّبَكَ فِي السَّاجِدِين } يحتمل وجوهاً :
منها : أنه لما نُسِخَ فَرْضُ قيام الليل طَافَ الرسول تلك الليلة على بُيُوتِ أصحابه لينظر ماذا [ يصنعون لشدة ]{[14304]} حرصه على ما يظهر منهم من الطَّاعاتِ ، فوجدها كَبُيُوتِ الزَّنَابير لكثرة ما سمع من أصوات قراءتهم وتسبيحهم وتَهْليلهم ، فيحتمل أن يكون المراد من تقلبه في الساجدين طَوَافَهُ في تلك الليلة [ على الساجدين ]{[14305]} ويحتمل أن يكون المراد صلاته بالجماعة ، واختلاطه بهم حال الصَّلاةِ .
ويحتمل أن يكون المراد تَقَلُّبَ بَصَرِهِ فيمن يُصَلِّي خلفه لقوله عليه الصَّلاة والسَّلام " أتِمُّوا الرُّكُوعَ والسُّجود فَإنِّي أرَاكُمْ مِنْ وَرَاءِ ظَهْرِي " .
ويحتمل أن يكون المراد أنه لا يخفى حالك على الله -تعالى- كلما أقمت وتقلبت في الساجدين في الاشتغال بأمور الدين .
وإذا احتمل ظَاهِرُ الآية هذه الوجوه سقط ما ذكرتم .
فالجواب : لفظ الآية يحتمل الكُلِّ ، ويحصل المقصود حينئذ ، لأن حَمْلَ ظاهر الآية على البَعْضِ ليس بأوْلَى من البَعْضِ ومما يَدُلُّ على أن أحداً من آباء محمد عليه الصلاة والسلام ما كانوا مُشْرِكينَ قوله عليه الصلاة والسلام : " لَمْ أزَل أُنْقَلُ مِنْ أصْلابِ الطَّاهرينَ إلى أرْحَامِ الطَّاهِرَاتِ " وقال تعالى : { إِنَّمَا الْمُشْرِكُونَ نَجَسٌ } [ التوبة :28 ] فوجب القول بأن أحداً من أجداده ما كان مشركاً ، فوجب القَطْعُ بأن والد إبراهيم كان إنْساناً آخر غير آزر .
الحُجَّةُ الثانية : أن إبراهيم عليه الصلاة والسلام شَافَهَهُ بالغِلْظَةِ والجَفَاءِ ، ومُشَافَهَةُ الأب بذلك لا يجوز ، أما مشافهته بالجَفَاءِ والغِلْظَةِ فمن وجهين :
أحدهما : على قراءة الضم يكون محمولاً على النداء ، ونداء الأب بالاسم الأصْلِيّ من أعظم أنواع الإيذاء .
وثانيهما : إذا قلنا بأنه المعوج أو المخطئ أو اسم الصَّنم . فتسميته له بذلك من أعْظَمِ أنواع الإيذاء له ، وإنما قلنا : إن مشافهة الآباء بالجَفَاءِ والغِلْظَةِ لا تجوز لقوله تعالى : { وَقَضَى رَبُّكَ أَلاَّ تَعْبُدُواْ إِلاَّ إِيَّاهُ وَبِالْوَالِدَيْنِ إِحْسَاناً } [ الإسراء :23 ] وقال تعالى : { فَلاَ تَقُل لَّهُمَآ أُفٍّ } [ الإسراء :23 ] وهذا عام في حَقِّ الأب الكافر والمسلم .
وأيضاً فلأمره -تعالى- موسى عليه الصلاة والسلام حين بعثه إلى فرعون [ بالرِّفق مَعَهُ فقال تعالى : ]{[14306]} { فَقُولاَ لَهُ قَوْلاً لَّيِّناً } [ طه :44 ] وذلك لرعاية حَقِّ تَرْبِيَةِ فرعون لموسى فالوالد أوْلَى بالرِّفْقِ .
وأيضاً فالدعوة مع الرِّفْقِ أكثر تأثيراً في القَلْبِ ، وأما التغليظ فإنه يوجب التَّنْفيرَ والبُعْدَ عن القَبُولِ ؛ قال تعالى لمحمد عليه الصلاة والسلام { وَجَادِلْهُم بِالَّتِي هِيَ أَحْسَن } [ النحل :125 ] فكيف يليق بإبراهيم مثل هذه الخُشُونة مع أبيه . وأيضاً قال تعالى :
{ إِنَّ إِبْرَاهِيمَ لَحَلِيمٌ أَوَّاهٌ مُّنِيبٌ } [ هود :75 ] فكيف يليق بالرَّجُلِ الحليم مثل هذا الجفاءِ مع الأب .
الحجة الثالثة : قوله عليه الصلاة والسلام : " رُدُّوا عَلَيَّ أبِي العبَّاسَ " {[14307]} يعني عمه .
الحجة الرابعة : يحتمل أن آزر كان والدَ أم إبراهيم وقد يقال له : الأب ؛ قال تعالى : { وَمِن ذُرِّيَّتِهِ دَاوُدَ وَسُلَيْمَانَ } إلى قوله : { وَعِيسَى } [ الأنعام :85 ] فجعل عيسى من ذُرِّيَّةِ إبراهيم ، مع أن إبراهيم كان جَدَّ عيسى من قبل الأم .
وقال عليه الصلاة والسلام في حق الحسن " إنَّ ابْنِي هذا " {[14308]} فثبت بهذه الوجوه أن " آزر " ما كان والد إبراهيم .
والجواب عن الأوَّل أن نَصَّ الكتاب يَدُلُّ على أن آزر كان كافراً وأنه والد إبراهيم ، وقال تعالى : { وَمَا كَانَ اسْتِغْفَارُ إِبْرَاهِيمَ لأَبِيهِ إِلاَّ عَن مَّوْعِدَةٍ وَعَدَهَا إِيَّاهُ فَلَمَّا تَبَيَّنَ لَهُ أَنَّهُ عَدُوٌّ لِلَّهِ تَبَرَّأَ مِنْهُ } [ التوبة :114 ] .
وأما قوله : { وَتَقَلُّبَكَ فِي السَّاجِدِينَ } [ الشعراء :219 ] فقد تقدم أنه يحتمل وجوهاً .
وقولهم : " وتُحْمَلُ الآية على الكل " فنقول : هذا مُحَال ؛ لأن حَمْلَ اللفظ المشترك على جميع معانيه لا يجوز ، وأيضاً حمل اللفظ على حقيقته ومجازه معاً لا يجوز ، وأما قوله عليه الصلاة والسلام : " لَمْ أزَل أُنْقَل مِنْ أصْلابِ الطَّاهِرِينَ إلى أرحَامِ الطَّاهراتِ " .
فذلك مَحْمُولٌ عل أنه [ ما وقع في نَسَبِه ]{[14309]} ما كان سِفَاحاً ، كما وَرَد في حديث آخر " وُلِدْتُ مِنْ نكاحٍ لا مِنْ سفاحٍ " .
وأما قوله : التغليظ مع الأب لا يليق بإبراهيم قلت : إنما أغْلَظَ عليه لأجل إصْرَارِهِ على الكُفْرِ ، وإلاَّ فهو أول ما رفق به في المُخاطَبةِ ، كما ذكر في سورة " مَرْيَمَ " { يَا أَبَتِ إِنِّي قَدْ جَاءَنِي }
[ الآية :43 ] { يَا أَبَتِ لاَ تَعْبُدِ الشَّيْطَانَ } [ مريم :44 ] { يَا أَبَتِ إِنِّي أَخَافُ أَن يَمَسَّكَ عَذَابٌ مِّنَ الرحمان } [ مريم :45 ] وهذا غاية اللُّطْفِ والرِّفْقِ ، فحين أصرَّ على كُفْرِهِ اسْتَحقَّ التغليظ ، وقال :
{ يَا إِبْرَاهِيمُ لَئِن لَّمْ تَنتَهِ لأَرْجُمَنَّكَ } [ مريم :46 ] .
والصَّنَمُ لُغَةً : كل جُثَةٍ صُوِّرَتْ من نُحَاسٍ أو فضَّةٍ وعُبِدَتْ مُتقرَّباً بها إلى اللَّهِ وقيل : ما اتُّخِذَ من صُفْرٍ ورِمْث ونحاس وحجر ونحوها فَصَنَمٌ ، وما اتخذ من خَشبٍ فوثَنٌ وقيل بل هما بمعنى واحد .
وقيل : الصَّنَمُ معرب من شمن ، والصَّنم أيضاً العَبْدُ القوي ، وهو أيضاً خبيث الرائحة ، ويقال : صنم أي صور ، ويضرب به المَثَلُ في الحُسْنِ وقال : [ السريع ]
مَا دُمْيَةٌ مِنْ مَرْمَرٍ صُوِّرَتْ *** أوْ ظَبْيةٌ في خَمَرٍ عَاطِفُ
أحْسَنَ مِنْهَا يَوْمَ قَالَتْ لَنَا *** والدَّمْعُ مِنْ مُقْلَتِها وَاكِفُ
لأنْتَ أحْلَى مِنْ لَذيذِ الكَرَى *** ومِنْ أمَانٍ نَالَهُ خَائِفُ{[14310]}
وقال ابن الأثير{[14311]} : الصَّنَمُ كُلُّ معبود من دون الله تعالى .
وقيل : ما كان له جسم أو صورة فهو صنم ، وما لم يكن له جِسْمٌ أو صورة فهو وَثَنٌ وشمن .