ثُمَّ أتبعه بتحصيل النَّفْعِ ، وهو قوله { واكتب لَنَا فِي هذه الدنيا حَسَنَةً وفي الآخرة } والمُرادُ بالحسنة في الدُّنْيَا ، النَّعمةُ والعافيةُ ، والحسنةُ في الآخرة : المغفرة والجنة .
قوله : { إِنَّا هُدْنَا إِلَيْكَ } العامَّةُ على ضم الهاءِ ، من هاد يَهُود بمعنى : مال ؛ قال : [ السريع ]
قَدْ عَلِمَتْ سَلْمَى وجَارَاتُهَا *** أنِّي مِنَ اللَّهِ لَهَا هَائِدُ{[16865]}
أو " تَابَ " من قوله : [ الرجز ]
إنِّي امْرؤ مِمَّا جَنَيْتُ هَائِدُ {[16866]}*** . . .
يَا رَاكِبَ الذَّنْبِ هُدْهُدْ *** واسْجُدَ كأنَّكَ هُدْهُدْ{[16867]}
وقرأ{[16868]} زيد بنُ علي ، وأبو وجزة " هِدْنَا " بكسر الهاء مِنْ " هَادَ يَهِيدُ " أي : حَرَّكَ . أجاز الزمخشريُّ في " هُدْنا " ، و " هِدْنا " - بالضمِّ والكسر - أن يكون الفعلُ مبنياً للفاعل أو للمفعول في كُلٍّ منهما بمعنى : مِلْتَا ، أو أمَالَنَا غَيْرُنَا ، أو حَرَّكْنَا نَحْنُ أنفسنَا ، أو حَرَّكَنَا غَيْرُنَا ، وفيه نظر ؛ لأنَّ بعض النَّحويين قد نصَّ على أنَّهُ متى ألْبِسَ ، وجبَ أن يُؤتَى بحركةٍ تزيل اللبس .
فيقال في " عقتُ " من العوق إذَا عاقك غَيْرُكَ : " عِقْت " بالكَسْرِ فقط ، أو الإشمام ، وفي : " بعت يا عبد " إذا قصد أن غيره باعه " بُعْت " بالضم فقط أو الإشمام ، ولكن سيبويه جوَّز في " قيل وبيع " ونحوهما الأوجه الثلاثة من غير احتراز .
و " هِيَ " ضميرٌ يُفَسِّره سياقٌ الكلام إذ التقديرُ : إنْ فَتنتُهُمْ إلاَّ فِتنَتُكَ . وقيل يعودُ على مسألة الإرادة من قوله : { أَرِنَا الله جَهْرَةً } [ النساء : 153 ] أي : إنَّهُ من مسألة الرُّؤيةِ .
قوله : { عذابي أُصِيبُ بِهِ } مبتدأ وخبر . والعامَّةُ على " مَنْ أشَاءُ " بالشِّينِ المعجمةِ .
وقرأ زيدُ{[16869]} بن علي ، وطاووس ، وعمرو بن فائد " أسَاءُ " بالمهملة .
قال الدَّانِي : لا تصحُّ هذه القراءة عن الحسن ، ولا عن طاووس ، وعمرو بن فائد رجل سَوْءَ واختار الشَّافعيُّ هذه القراءة ، وقرأها سفيان بْنُ عيينة ، واستحسنها فقام عبد الرَّحْمنِ المقرئ فصاح به وأسمعه .
فقال سفيانُ : " لَمْ أفطِنْ لِمَا يقولُ أهل البدع " . يعني عبد الرحمن أنَّ المعتزلة تعلَّقُوا بهذه القراءة في أنَّ فعل العَبْدِ مَخْلُوقٌ لهُ ، فاعتذرَ سفيان عن ذلك .
ومعنى الآية : إنِّي أعذبُ مَنْ من أشَاءُ ، وليس لأحدٍ عليَّ اعتراض { وَرَحْمَتِي وَسِعَتْ كُلَّ شَيْءٍ } أي : أنَّ رحمته في الدُّنيا تعُمُّ الكل ، وأمَّا في الآخرةِ فهي مختصة بالمؤمنين لقوله هنا { فَسَأَكْتُبُهَا لِلَّذِينَ يَتَّقُونَ } وهذا من العام الذي أريد به الخاص كقوله { وَأُوتِيَتْ مِن كُلِّ شَيْءٍ } .
قال عطيَّةُ العوفي : " وَسِعَتُ كُلَّ شيءٍ " ولكن لا تَجِب إلاَّ للمُتَّقينَ ، وذلك أنَّ الكافر يرزق ويدفع عنه ببركة المؤمن ، لسعة رحمةِ الله للمؤمن ، فإذا صار للآخرة وجبت للمؤمن خاصة كالمستضيء بنار غيره إذا ذهب صاحب السِّراج بسراجه .
قال ابنُ عباس وقتادة وابن جريج : لما نزلت : { وَرَحْمَتِي وَسِعَتْ كُلَّ شَيْءٍ } قال إبليس أنا من ذلك الشيء فقال الله : { فَسَأَكْتُبُهَا لِلَّذِينَ يَتَّقُونَ وَيُؤْتُونَ الزكاة والذين هُم بِآيَاتِنَا يُؤْمِنُونَ } فتمنَّاها اليهودُ والنصارى . وقالوا : نحن نتقي ونؤتي الزكاة ونؤمن فجعلها اللَّهُ لهذه الأمَّة بقوله { الذين يَتَّبِعُونَ الرسول النبي الأمي }{[16870]} .
واعلم أنَّ جميع التَّكاليف محصورة في نوعين :
الأول : المتروك وهي الأشياء التي يجب على الإنسان تركها ، وهو المُرادُ بقوله : " للَّذينَ يتَّقُونَ " .
والثاني : الأفعال ، وهي إمَّا أن تكون في مال الإنسان أو في نفسه ، فالأول : هو الزكاة وهو المراد بقوله " ويُؤتُونَ الزَّكاةِ " والثاني يدخل فيه ما يجب على الإنسان علماً وعملاً أمَّا العلمُ فالمعرفةُ ، وأمَّا العملُ فالإقرارُ باللسان والعمل بالأركان ، فيدخل فيه الصَّلاة وإلى هذا المجموع أشار بقوله : { والذين هُم بِآيَاتِنَا يُؤْمِنُونَ } ونظيره قوله تعالى في أوَّل سورة البقرةِ { هُدًى لِّلْمُتَّقِينَ الذين يُؤْمِنُونَ بالغيب وَيُقِيمُونَ الصلاة وَممَّا رَزَقْنَاهُمْ يُنْفِقُونَ } [ البقرة : 2 ، 3 ] .
مشروع تقني يهدف لتوفير قالب تقني أنيق وحديث يليق بالمحتوى الثري لمشروع الجامع التاريخي لتفسير القرآن الكريم الصادر عن مؤسسة البحوث والدراسات العلمية (مبدع)، وقد تم التركيز على توفير تصفح سلس وسهل للمحتوى ومتوافق تماما مع أجهزة الجوال، كما تم عمل بعض المميزات الفريدة كميزة التلوين التلقائي للنصوص والتي تم بناء خوارزمية برمجية مخصصة لهذا الغرض.
تم الحصول على المحتوى من برنامج الجامع التاريخي لتفسير القرآن الكريم.
المشروع لا يتبع أي جهة رسمية أو غير رسمية، إنما هي جهود فردية ومبادرات شخصية لبعض الخبراء في مجال البرمجيات.
المشروع لازال في بداياته وننوي إن شاء الله العمل على تطويره بشكل مستمر وسنضع خطة تطوير توضح المميزات التي يجري العمل عليها إن شاء الله.
الدعاء للقائمين عليه، نشر الموقع والتعريف به، إرسال الملاحظات والمقترحات.