اللباب في علوم الكتاب لابن عادل - ابن عادل  
{۞وَٱكۡتُبۡ لَنَا فِي هَٰذِهِ ٱلدُّنۡيَا حَسَنَةٗ وَفِي ٱلۡأٓخِرَةِ إِنَّا هُدۡنَآ إِلَيۡكَۚ قَالَ عَذَابِيٓ أُصِيبُ بِهِۦ مَنۡ أَشَآءُۖ وَرَحۡمَتِي وَسِعَتۡ كُلَّ شَيۡءٖۚ فَسَأَكۡتُبُهَا لِلَّذِينَ يَتَّقُونَ وَيُؤۡتُونَ ٱلزَّكَوٰةَ وَٱلَّذِينَ هُم بِـَٔايَٰتِنَا يُؤۡمِنُونَ} (156)

ثُمَّ أتبعه بتحصيل النَّفْعِ ، وهو قوله { واكتب لَنَا فِي هذه الدنيا حَسَنَةً وفي الآخرة } والمُرادُ بالحسنة في الدُّنْيَا ، النَّعمةُ والعافيةُ ، والحسنةُ في الآخرة : المغفرة والجنة .

قوله : { إِنَّا هُدْنَا إِلَيْكَ } العامَّةُ على ضم الهاءِ ، من هاد يَهُود بمعنى : مال ؛ قال : [ السريع ]

قَدْ عَلِمَتْ سَلْمَى وجَارَاتُهَا *** أنِّي مِنَ اللَّهِ لَهَا هَائِدُ{[16865]}

أو " تَابَ " من قوله : [ الرجز ]

إنِّي امْرؤ مِمَّا جَنَيْتُ هَائِدُ {[16866]}*** . . .

ومن كلام بعضهم : { المجتث ]

يَا رَاكِبَ الذَّنْبِ هُدْهُدْ *** واسْجُدَ كأنَّكَ هُدْهُدْ{[16867]}

وقرأ{[16868]} زيد بنُ علي ، وأبو وجزة " هِدْنَا " بكسر الهاء مِنْ " هَادَ يَهِيدُ " أي : حَرَّكَ . أجاز الزمخشريُّ في " هُدْنا " ، و " هِدْنا " - بالضمِّ والكسر - أن يكون الفعلُ مبنياً للفاعل أو للمفعول في كُلٍّ منهما بمعنى : مِلْتَا ، أو أمَالَنَا غَيْرُنَا ، أو حَرَّكْنَا نَحْنُ أنفسنَا ، أو حَرَّكَنَا غَيْرُنَا ، وفيه نظر ؛ لأنَّ بعض النَّحويين قد نصَّ على أنَّهُ متى ألْبِسَ ، وجبَ أن يُؤتَى بحركةٍ تزيل اللبس .

فيقال في " عقتُ " من العوق إذَا عاقك غَيْرُكَ : " عِقْت " بالكَسْرِ فقط ، أو الإشمام ، وفي : " بعت يا عبد " إذا قصد أن غيره باعه " بُعْت " بالضم فقط أو الإشمام ، ولكن سيبويه جوَّز في " قيل وبيع " ونحوهما الأوجه الثلاثة من غير احتراز .

و " هِيَ " ضميرٌ يُفَسِّره سياقٌ الكلام إذ التقديرُ : إنْ فَتنتُهُمْ إلاَّ فِتنَتُكَ . وقيل يعودُ على مسألة الإرادة من قوله : { أَرِنَا الله جَهْرَةً } [ النساء : 153 ] أي : إنَّهُ من مسألة الرُّؤيةِ .

قوله : { عذابي أُصِيبُ بِهِ } مبتدأ وخبر . والعامَّةُ على " مَنْ أشَاءُ " بالشِّينِ المعجمةِ .

وقرأ زيدُ{[16869]} بن علي ، وطاووس ، وعمرو بن فائد " أسَاءُ " بالمهملة .

قال الدَّانِي : لا تصحُّ هذه القراءة عن الحسن ، ولا عن طاووس ، وعمرو بن فائد رجل سَوْءَ واختار الشَّافعيُّ هذه القراءة ، وقرأها سفيان بْنُ عيينة ، واستحسنها فقام عبد الرَّحْمنِ المقرئ فصاح به وأسمعه .

فقال سفيانُ : " لَمْ أفطِنْ لِمَا يقولُ أهل البدع " . يعني عبد الرحمن أنَّ المعتزلة تعلَّقُوا بهذه القراءة في أنَّ فعل العَبْدِ مَخْلُوقٌ لهُ ، فاعتذرَ سفيان عن ذلك .

ومعنى الآية : إنِّي أعذبُ مَنْ من أشَاءُ ، وليس لأحدٍ عليَّ اعتراض { وَرَحْمَتِي وَسِعَتْ كُلَّ شَيْءٍ } أي : أنَّ رحمته في الدُّنيا تعُمُّ الكل ، وأمَّا في الآخرةِ فهي مختصة بالمؤمنين لقوله هنا { فَسَأَكْتُبُهَا لِلَّذِينَ يَتَّقُونَ } وهذا من العام الذي أريد به الخاص كقوله { وَأُوتِيَتْ مِن كُلِّ شَيْءٍ } .

قال عطيَّةُ العوفي : " وَسِعَتُ كُلَّ شيءٍ " ولكن لا تَجِب إلاَّ للمُتَّقينَ ، وذلك أنَّ الكافر يرزق ويدفع عنه ببركة المؤمن ، لسعة رحمةِ الله للمؤمن ، فإذا صار للآخرة وجبت للمؤمن خاصة كالمستضيء بنار غيره إذا ذهب صاحب السِّراج بسراجه .

قال ابنُ عباس وقتادة وابن جريج : لما نزلت : { وَرَحْمَتِي وَسِعَتْ كُلَّ شَيْءٍ } قال إبليس أنا من ذلك الشيء فقال الله : { فَسَأَكْتُبُهَا لِلَّذِينَ يَتَّقُونَ وَيُؤْتُونَ الزكاة والذين هُم بِآيَاتِنَا يُؤْمِنُونَ } فتمنَّاها اليهودُ والنصارى . وقالوا : نحن نتقي ونؤتي الزكاة ونؤمن فجعلها اللَّهُ لهذه الأمَّة بقوله { الذين يَتَّبِعُونَ الرسول النبي الأمي }{[16870]} .

واعلم أنَّ جميع التَّكاليف محصورة في نوعين :

الأول : المتروك وهي الأشياء التي يجب على الإنسان تركها ، وهو المُرادُ بقوله : " للَّذينَ يتَّقُونَ " .

والثاني : الأفعال ، وهي إمَّا أن تكون في مال الإنسان أو في نفسه ، فالأول : هو الزكاة وهو المراد بقوله " ويُؤتُونَ الزَّكاةِ " والثاني يدخل فيه ما يجب على الإنسان علماً وعملاً أمَّا العلمُ فالمعرفةُ ، وأمَّا العملُ فالإقرارُ باللسان والعمل بالأركان ، فيدخل فيه الصَّلاة وإلى هذا المجموع أشار بقوله : { والذين هُم بِآيَاتِنَا يُؤْمِنُونَ } ونظيره قوله تعالى في أوَّل سورة البقرةِ { هُدًى لِّلْمُتَّقِينَ الذين يُؤْمِنُونَ بالغيب وَيُقِيمُونَ الصلاة وَممَّا رَزَقْنَاهُمْ يُنْفِقُونَ } [ البقرة : 2 ، 3 ] .


[16865]:ينظر: البحر المحيط 4/400، والدر المصون 3/352.
[16866]:تقدم.
[16867]:البيت للزمخشري ينظر: الكشاف 2/129، وروح المعاني 9/76، وحاشية الشهاب 3/224، والدر المصون 3/352.
[16868]:ينظر: الكشاف 2/165، والمحرر الوجيز 2/460، والبحر المحيط 4/400، والدر المصون 3/353.
[16869]:وقرأ بها الحسن كما في الكشاف 2/165، والمحرر الوجيز 2/461، والبحر المحيط 4/400، والدر المصون 3/353.
[16870]:أخرجه الطبري في تفسيره (6/80-81) عن ابن عباس وقتادة وابن جريح. وذكره السيوطي في الدر المنثور (3/241) عن ابن جريج وعزاه لابن المنذر وأبي الشيخ.