قوله تعالى : { وإن يروا آية يعرضوا ويقولوا سحر مستمر } تقديره : وبعد هذا إن يروا آية يقولوا سحر ، فإنهم رأوا آيات أرضية ، وآيات سماوية ، ولم يؤمنوا ، ولم يتركوا عنادهم ، فإن يروا ما يرون بعد هذا لا يؤمنون ، وفيه وجه آخر وهو أن يقال : المعنى أن عادتهم أنهم إن يروا آية يعرضوا ، فلما رأوا انشقاق القمر أعرضوا لتلك العادة ، وفيه مسائل :
الأولى : قوله : { آية } ماذا ؟ نقول آية اقتراب الساعة ، فإن انشقاق القمر من آياته ، وقد ردوا وكذبوا ، فإن يروا غيرها أيضا يعرضوا ، أو آية الانشقاق فإنها معجزة ، أما كونها معجزة ففي غاية الظهور ، وأما كونها آية الساعة ، فلأن منكر خراب العالم ينكر انشقاق السماء وانفطارها وكذلك قوله : في كل جسم سماوي من الكواكب ، فإذا انشق بعضها ثبت خلاف ما يقول به ، وبان جواز خراب العالم ، وقال أكثر المفسرين : معناه أن من علامات قيام الساعة انشقاق القمر عن قريب ، وهذا ضعيف حملهم على هذا القول ضيق المكان ، وخفاء الأمر على الأذهان ، وبيان ضعفه هو أن الله تعالى لو أخبر في كتابه أن القمر ينشق ، وهو علامة قيام الساعة ، لكان ذلك أمرا لا بد من وقوعه مثل خروج دابة الأرض ، وطلوع الشمس من المغرب ، فلا يكون معجزة النبي صلى الله عليه وسلم ، كما أن هذه الأشياء عجائب ، وليست بمعجزة للنبي ، لا يقال : الإخبار عنها قبل وقوعها معجزة ، لأنا نقول : فحينئذ يكون هذا من قبيل الإخبار عن الغيوب ، فلا يكون هو معجزة برأسه وذلك فاسد ، ولا يقال : بأن ذلك كان معجزة وعلامة ، فأخبر الله في الصحف والكتب السالفة أن ذلك يكون معجزة للنبي صلى الله عليه وسلم وتكون الساعة قريبة حينئذ ، وذلك لأن بعثة النبي صلى الله عليه وسلم علامة كائنة حيث قال : « بعثت أنا والساعة كهاتين » ولهذا يحكى عن سطيح أنه لما أخبر بوجود النبي صلى الله عليه وسلم قال عن أمور تكون ، فكان وجوده دليل أمور ، وأيضا القمر لما انشق كان انشقاقه عند استدلال النبي صلى الله عليه وسلم على المشركين ، وهم كانوا غافلين عما في الكتب ، وأما أصحاب الكتب فلم يفتقروا إلى بيان علامة الساعة ، لأنهم كانوا يقولون بها وبقربها ، فهي إذن آية دالة على جواز تخريب السماوات وهو العمدة الكبرى ، لأن السماوات إذا طويت وجوز ذلك ، فالأرض ومن عليها لا يستبعد فناؤهما ، إذا ثبت هذا فنقول : معنى { اقتربت الساعة } يحتمل أن يكون في العقول والأذهان ، يقول : من يسمع أمرا لا يقع هذا بعيد مستبعد ، وهذا وجه حسن ، وإن كان بعض ضعفاء الأذهان ينكره ، وذلك لأن حمله على قرب الوقوع زمانا لا إمكانا يمكن الكافر من مجادلة فاسدة ، فيقول : قال الله تعالى في زمان النبي صلى الله عليه وسلم : { اقتربت } ويقولون بأن من قبل أيضا في الكتب [ السابقة ] كان يقول : ( اقترب الوعد ) ثم مضى مائة سنة ولم يقع ، ولا يبعد أن يمضي ألف آخر ولا يقع ، ولو صح إطلاق لفظ القرب زمانا على مثل هذا لا يبقى وثوق بالإخبارات ، وأيضا قوله : { اقتربت } لانتهاز الفرصة ، والإيمان قبل أن لا يصح الإيمان ، فللكافر أن يقول ، إذا كان القرب بهذا المعنى فلا خوف منها ، لأنها لا تدركني ، ولا تدرك أولادي ، ولا أولاد أولادي ، وإذا كان إمكانها قريبا في العقول يكون ذلك ردا بالغا على المشركين والفلاسفة ، والله سبحانه وتعالى أول ما كلف الاعتراف بالوحدانية واليوم الآخر ، وقال : اعلموا أن الحشر كائن فخالف المشرك والفلسفي ، ولم يقنع بمجرد إنكار ما ورد الشرع ببيانه ، ولم يقل لا يقع أو ليس بكائن ، بل قال ذلك بعيد ، ولم يقنع بهذا أيضا ، بل قال ذلك غير ممكن ، ولم يقنع به أيضا ، بل قال فإن امتناعه ضروري ، فإن مذهبهم أن إعادة المعدوم وإحياء الموتى محال بالضرورة ، ولهذا قالوا : { أئذا متنا ، أئذا كنا عظاما ، أئذا ضللنا في الأرض } بلفظ الاستفهام بمعنى الإنكار مع ظهور الأمر ، فلما استبعدوا لم يكتف الله ورسوله ببيان وقوعه ، بل قال : { إن الساعة ءاتية لا ريب فيها } ولم يقتصر عليه بل قال : { وما يدريك لعل الساعة تكون قريبا } ولم يتركها حتى قال ( اقتربت الساعة ، واقترب الوعد الحق ، اقترب للناس حسابهم ) اقترابا عقليا لا يجوز أن ينكر ما يقع في زمان طرفة عين ، لأنه على الله يسير ، كما أن تقليب الحدقة علينا يسير ، بل هو أقرب منه بكثير ، والذي يقويه قول العامة : إن زمان وجود العالم زمان مديد ، والباقي بالنسبة إلى الماضي شيء يسير ، فلهذا قال : { اقتربت الساعة } .
وأما قوله صلى الله عليه وسلم : « بعثت أنا والساعة كهاتين » فمعناه لا نبي بعدي فإن زماني يمتد إلى قيام الساعة ، فزماني والساعة متلاصقان كهاتين ، ولا شك أن الزمان زمان النبي صلى الله عليه وسلم ، وما دامت أوامره نافذة فالزمان زمانه وإن كان ليس هو فيه ، كما أن المكان الذي تنفذ فيه أوامر الملك مكان الملك يقال له بلاد فلان ، فإن قيل : كيف يصح حمله على القرب بالمعقول مع أنه مقطوع به ؟ قلت : كما صح قوله تعالى : { لعل الساعة تكون قريبا } فإن لعل للترجي والأمر عند الله معلوم ، وفائدته أن قيام الساعة ممكن لا إمكانا بعيدا عن العادات كحمل الآدمي في زماننا حملا في غاية الثقل أو قطعة مسافة بعيدة في زمان يسير ، فإن ذلك ممكن إمكانا بعيدا ، وأما تقليب الحدقة فممكن إمكانا في غاية القرب .
المسألة الثانية : الجمع الذين تكون الواو ضميرهم في قوله { يروا } و{ يعرضوا } غير مذكور فمن هم ؟ نقول : هم معلومون وهم الكفار تقديره : وهؤلاء الكفار إن يروا آية يعرضوا .
المسألة الثالثة : التنكير في الآية للتعظيم أي إن يروا آية قوية أو عظيمة يعرضوا .
المسألة الرابعة : قوله تعالى : { ويقولوا سحر مستمر } ما الفائدة فيه ؟ نقول : فائدته بيان كون الآية خالية عن شوائب الشبه ، وأن الاعتراف لزمهم لأنهم لم يقدروا أن يقولوا : نحن نأتي بمثلها وبيان كونهم معرضين لا إعراض معذور ، فإن من يعرض إعراض مشغول بأمر مهم فلم ينظر في الآية لا يستقبح منه الإعراض مثل ما يستقبح لمن ينظر فيها إلى آخرها ويعجز عن نسبتها إلى أحد ودعوى الإتيان بمثلها ، ثم يقول : هذا ليس بشيء هذا سحر لأن ما من آية إلا ويمكن المعاند أن يقول فيها هذا القول .
المسألة الخامسة : ما المستمر ؟ نقول : فيه وجوه ( أحدها ) : دائم فإن محمدا صلى الله عليه وسلم كان يأتي كل زمان بمعجزة قولية أو فعلية أرضية أو سماوية ، فقالوا : هذا سحر مستمر دائم لا يختلف بالنسبة إلى النبي عليه السلام بخلاف سحر السحرة ، فإن بعضهم يقدر على أمر وأمرين وثلاثة ويعجز عن غيرها وهو قادر على الكل و( ثانيها ) : مستمر أي قوى من حبل مرير الفتل من المرة وهي الشدة و( ثالثها ) : من المرارة أي سحر مر مستبشع ( ورابعها ) : مستمر أي مار ذاهب ، فإن السحر لا بقاء له .
اقتربت الساعة وانشق القمر . وإن يروا آية يعرضوا ويقولوا : سحر مستمر . وكذبوا واتبعوا أهواءهم وكل أمر مستقر . ولقد جاءهم من الأنباء ما فيه مزدجر . حكمة بالغة فما تغني النذر . فتول عنهم يوم يدعو الداعي إلى شيء نكر . خشعا أبصارهم يخرجون من الأجداث كأنهم جراد منتشر . مهطعين إلى الداعي يقول الكافرون : هذا يوم عسر . .
مطلع باهر مثير ، على حادث كوني كبير ، وإرهاص بحادث أكبر . لا يقاس إليه ذلك الحدث الكوني الكبير :
( اقتربت الساعة وانشق القمر ) . .
فيا له من إرهاص ! ويا له من خبر . ولقد رأوا الحدث الأول فلم يبق إلا أن ينتظروا الحدث الأكبر .
والروايات عن انشقاق القمر ورؤية العرب له في حالة انشقاقه أخبار متواترة . تتفق كلها في إثبات وقوع الحادث ، وتختلف في رواية هيئته تفصيلا وإجمالا :
من رواية أنس بن مالك - رضي الله عنه - . . قال الإمام أحمد : حدثنا معمر ، عن قتادة ، عن أنس ابن مالك قال : سأل أهل مكة النبي [ صلى الله عليه وسلم ] آية . فانشق القمر بمكة مرتين فقال : ( اقتربت الساعة وانشق القمر ) . . وقال البخاري : حدثني عبد الله بن عبدالوهاب . حدثنا بشر بن المفضل ، حدثنا سعيد بن أبي عروة ، عن قتادة ، عن أنس بن مالك . أن أهل مكة سألوا رسول الله [ صلى الله عليه وسلم ] أن يريهم آية . فأراهم القمر شقين حتى رأو حراء بينهما . وأخرجه الشيخان من طرق أخرى عن قتادة عن أنس . .
ومن رواية جبير بن مطعم - رضي الله عنه - . . قال الإمام أحمد : حدثنا محمد بن كثير ، حدثنا سليمان ابن كثير ، عن حصين بن عبدالرحمن ، عن محمد بن جبير بن مطعم ، عن أبيه قال : انشق القمر على عهد رسول الله [ صلى الله عليه وسلم ] فصار فلقتين . فلقة على هذا الجبل وفلقة على هذا الجبل ، فقالوا : سحرنا محمد ، فقالوا : إن كان سحرنا فإنه لا يستطيع أن يسحر الناس كلهم . . تفرد به أحمد من هذا الوجه . . وأسنده البيهقي في الدلائل من طريق محمد بن كثير عن أخيه سليمان بن كثير ، عن حصين بن عبدالرحمن . . ورواه ابن جرير والبيهقي من طرق أخرى عن جبير بن مطعم كذلك . .
ومن رواية عبد الله بن عباس - رضي الله عنه - . . قال البخاري : حدثنا يحيى بن كثير ، حدثنا بكر ، عن جعفر ، عن عراك بن مالك ، عن عبيدالله بن عبد الله بن عتبة ، عن ابن عباس ، قال : انشق القمر في زمان النبي [ صلى الله عليه وسلم ] . . ورواه البخاري أيضا ومسلم من طريق آخر عن عراك بسنده السابق إلى ابن عباس . . وروى ابن جرير من طريق أخرى إلى علي بن أبي طلحة عن ابن عباس قال : قد مضى ذلك ، كان قبل الهجرة ، انشق القمر حتى رأوا شقيه . . وروى العوفي عن ابن عباس نحو هذا . . وقال الطبراني بسند آخر عن عكرمة عن ابن عباس قال : كسف القمر على عهد رسول الله [ صلى الله عليه وسلم ] فقالوا : سحر القمر ، فنزلت : ( اقتربت الساعة وانشق القمر )- إلى قوله : ( مستمر ) .
ومن رواية عبد الله بن عمر - رضي الله عنهما - : قال الحافظ أبو بكر البيهقي : أخبرنا أبو عبد الله الحافظ ، وأبو بكر أحمد بن الحسن القاضي ، قالا : حدثنا أبو العباس الأصم ، حدثنا العباس بن محمد الدوري ، حدثنا وهب بن جرير ، عن شعبة ، عن الأعمش ، عن مجاهد ، عن عبد الله بن عمر في قوله تعالى : ( اقتربت الساعة وانشق القمر )قال : وقد كان ذلك على عهد رسول الله [ صلى الله عليه وسلم ] انشق فلقتين فلقة من دون الجبل وفلقة خلف الجبل . فقال النبي [ صلى الله عليه وسلم ] : " اللهم اشهد " . . وهكذا رواه مسلم والترمذي من طرق عن شعبة عن الأعمش عن مجاهد . .
ومن رواية عبد الله بن مسعود - رضي الله عنه - : قال الإمام أحمد : حدثنا سفيان عن ابن أبي نجيح عن مجاهد ، عن أبي معمر ، عن ابن مسعود قال : انشق القمر على عهد رسول الله [ صلى الله عليه وسلم ] شقتين حتى نظروا إليه ، فقال رسول الله [ صلى الله عليه وسلم ] : " اشهدوا " . وهكذا رواه البخاري ومسلم من حديث سفيان بن عيينة . وأخرجاه كذلك من حديث الأعمش عن إبراهيم عن أبي معمر عبد الله بن سخبرة ، عن ابن مسعود . وقال البخاري : قال أبو داود الطيالسي : حدثنا أبو عوانة ، عن المغيرة ، عن أبي الضحى ، عن مسروق ، عن عبد الله بن مسعود ، قال : انشق القمر على عهد رسول الله [ صلى الله عليه وسلم ] فقالت قريش : هذا سحر ابن أبي كبشة . قال : فقالوا : انظروا ما يأتيكم من السفار ، فإن محمدا لا يستطيع أن يسحر الناس كلهم قال : فجاء السفار فقالوا ذلك . . وروى البيهقي من طريق أخرى عن مسروق عن عبد الله بن مسعود ، بما يقرب من هذا .
فهذه روايات متواترة من طرق شتى عن وقوع هذا الحادث ، وتحديد مكانه في مكة - باستثناء رواية لم نذكرها عن عبد الله بن مسعود رضي الله عنه ، أنه كان في منى - وتحديد زمانه في عهد النبي [ صلى الله عليه وسلم ] قبل الهجرة . وتحديد هيئته - في معظم الروايات أنه انشق فلقتين ، وفي رواية واحدة أنه كسف " أي خسف " . . فالحادث ثابت من هذه الروايات المتواترة المحددة للمكان والزمان والهيئة .
وهو حادث واجه به القرآن المشركين في حينه ؛ ولم يرو عنهم تكذيب لوقوعه ؛ فلا بد أن يكون قد وقع فعلا بصورة يتعذر معها التكذيب ، ولو على سبيل المراء الذي كانوا يمارونه في الآيات ، لو وجدوا منفذا للتكذيب . وكل ما روي عنهم أنهم قالوا : سحرنا ! ولكنهم هم أنفسهم اختبروا الأمر ، فعرفوا أنه ليس بسحر ؛ فلئن كان قد سحرهم فإنه لا يسحر المسافرين خارج مكة الذين رأوا الحادث وشهدوا به حين سئلوا عنه .
بقيت لنا كلمة في الرواية التي تقول : إن المشركين سألوا النبي [ صلى الله عليه وسلم ] آية . فانشق القمر . فإن هذه الرواية تصطدم مع مفهوم نص قرآني مدلوله أن الرسول [ صلى الله عليه وسلم ] لم يرسل بخوارق من نوع الخوارق التي جاءت مع الرسل قبله ، لسبب معين : وما منعنا أن نرسل بالآيات إلا أن كذب بها الأولون . فمفهوم هذه الآية أن حكمة الله اقتضت منع الآيات - أي الخوارق - لما كان من تكذيب الأولين بها .
وفي كل مناسبة طلب المشركون آية من الرسول [ صلى الله عليه وسلم ] كان الرد يفيد أن هذا الأمر خارج عن حدود وظيفته ، وأنه ليس إلا بشرا رسولا . وكان يردهم إلى القرآن يتحداهم به بوصفه معجزة هذا الدين الوحيدة : ( قل : لئن اجتمعت الإنس والجن على أن يأتوا بمثل هذا القرآن لا يأتون بمثله ، ولو كان بعضهم لبعض ظهيرا . ولقد صرفنا للناس في هذا القرآن من كل مثل ، فأبى أكثر الناس إلا كفورا . وقالوا : لن نؤمن لك حتى تفجر لنا من الأرض ينبوعا أو تكون لك جنة من نخيل وعنب فتفجر الأنهار خلالها تفجيرا . أو تسقط السماء - كما زعمت - علينا كسفا ، أو تأتي بالله والملائكة قبيلا . أو يكون لك بيت من زخرف أو ترقى في السماء ، ولن نؤمن لرقيك حتى تنزل علينا كتابا نقرؤه . قل : سبحان ربي ! هل كنت إلا بشرا رسولا ? ) .
فالقول بأن انشقاق القمر كان استجابة لطلب المشركين آية - أي خارقة - يبدو بعيدا عن مفهوم النصوص القرآنية ؛ وعن اتجاه هذه الرسالة الأخيرة إلى مخاطبة القلب البشري بالقرآن وحده ، وما فيه من إعجاز ظاهر ؛ ثم توجيه هذا القلب - عن طريق القرآن - إلى آيات الله القائمة في الأنفس والآفاق ، وفي أحداث التاريخ سواء . . فأما ما وقع فعلا للرسول [ صلى الله عليه وسلم ] من خوارق شهدت بها روايات صحيحة فكان إكراما من الله لعبده ، لا دليلا لإثبات رسالته . .
ومن ثم نثبت الحادث - حادث انشقاق القمر - بالنص القرآني وبالروايات المتواترة التي تحدد مكان الحادث وزمانه وهيئته . ونتوقف في تعليله الذي ذكرته بعض الروايات . ونكتفي بإشارة القرآن إليه مع الإشارة إلى اقتراب الساعة . باعتبار هذه الإشارة لمسة للقلب البشري ليستيقظ ويستجيب . .
وانشقاق القمر إذن كان آية كونية يوجه القرآن القلوب والأنظار إليها ، كما يوجهها دائما إلى الآيات الكونية الأخرى ؛ ويعجب من أمرهم وموقفهم إزاءها ، كما يعجب من مواقفهم تجاه آيات الله الكونية الأخرى .
إن الخوارق الحسية قد تدهش القلب البشري في طفولته ، قبل أن يتهيأ لإدراك الآيات الكونية القائمة الدائمة ، والتأثر بإيقاعها الثابت الهادئ . وكل الخوارق التي ظهرت على أيدي الرسل - صلوات الله عليهم - قبل أن تبلغ البشرية الرشد والنضوج يوجد في الكون ما هو أكبر منها وأضخم ، وإن كان لا يستثير الحس البدائي كما تستثيره تلك الخوارق !
ولنفرض أن انشقاق القمر جاء آية خارقة . . فإن القمر في ذاته آية أكبر ! هذا الكوكب بحجمه ، ووضعه ، وشكله ، وطبيعته ، ومنازله ، ودورته ، وآثاره في حياة الأرض ، وقيامه هكذا في الفضاء بغير عمد . هذه هي الآية الكبرى القائمة الدائمة حيال الأبصار وحيال القلوب ، توقع إيقاعها وتلقي ظلالها ، وتقوم أمام الحس شاهدا على القدرة المبدعة التي يصعب إنكارها إلا عنادا أو مراء !
وقد جاء القرآن ليقف بالقلب البشري في مواجهة الكون كله ؛ وما فيه من آيات الله القائمة الثابتة ؛ ويصله بهذا الكون وآيات الله فيه في كل لحظة ؛ لا مرة عارضة في زمان محدود ، يشهدها جيل من الناس في مكان محدود .
إن الكون كله هو مجال النظر والتأمل في آيات الله التي لا تنفد ، ولا تذهب ، ولا تغيب . وهو بجملته آية . وكل صغيرة فيه وكبيرة آية . والقلب البشري مدعو في كل لحظة لمشاهدة الخوارق القائمة الدائمة ، والاستماع إلى شهادتها الفاصلة الحاسمة ؛ والاستمتاع كذلك بعجائب الإبداع الممتعة ، التي يلتقي فيها الجمال بالكمال ، والتي تستجيش انفعال الدهش والحيرة مع وجدان الإيمان والاقتناع الهادئ العميق .
وفي مطلع هذه السورة تجيء تلك الإشارة إلى اقتراب الساعة وانشقاق القمر إيقاعا يهز القلب البشري هزا . وهو يتوقع الساعة التي اقتربت ، ويتأمل الآية التي وقعت ، ويتصور أحداث الساعة في ظل هذا الحدث الكوني الذي رآه المخاطبون بهذا الإيقاع المثير .
وفي موضوع اقتراب الساعة روى الإمام أحمد . قال : حدثنا حسين ، حدثنا محمد بن مطوف ، عن أبي حازم ، عن سهل بن سعد ، قال : سمعت رسول الله - صلى الله عليه وعلى آله وسلم - يقول : " بعثت أنا والساعة هكذا " وأشار بأصبعيه السبابة والوسطى .
ومع اقتراب الموعد المرهوب ، ووقوع الحادث الكوني المثير ، وقيام الآيات التي يرونها في صور شتى . . فإن تلك القلوب كانت تلج في العناد ، وتصر على الضلال ، ولا تتأثر بالوعيد كما لا تتأثر بإيقاع الآيات الكثيرة الكافية للعظة والكف عن التكذيب :
( وإن يروا آية يعرضوا ويقولوا : سحر مستمر . وكذبوا واتبعوا أهواءهم وكل أمر مستقر . ولقد جاءهم من الأنباء ما فيه مزدجر . حكمة بالغة فما تغني النذر ) .
ولقد أعرضوا وقالوا : سحرنا ، وهم يرون آية الله في انشقاق القمر . وكان هذا رأيهم مع آية القرآن . فقالوا : سحر يؤثر . فهذا قولهم كلما رأوا آية . ولما كانت الآيات متوالية متواصلة ، فقد قالوا : إنه سحر مستمر لا ينقطع ، معرضين عن تدبر طبيعة الآيات وحقيقتها ، معرضين كذلك عن دلالتها وشهادتها .
قوله جلّ ذكره : { وَإِن يَرَوْا آيَةً يُعْرِضُوا وَيَقُولُوا سِحْرٌ مُّسْتَمِرٌّ وَكَذَّبُوا وَاتَّبَعُوا أَهْوَاءَهُمْ وَكُلُّ أَمْرٍ مُّسْتَقِرٌ } .
يعني أن أهل مكة إذا رأوا آية من الآيات أعرضوا عن النظر فيها ، ولو نظروا لحصل لهم العلمُ واجباً .
{ سِحْرٌ مُّسْتَمِرٌّ } : أي دائمٌ قويٌّ شديد . . . ويقال إنهم قالوا : هذا ذاهب لا تبقى مدته فاستمر : أي ذهب .
2- { وَإِنْ يَرَوْا آَيَةً يُعْرِضُوا وَيَقُولُوا سِحْرٌ مُسْتَمِرٌّ } .
إذا رأى كفار مكة آية معجزة تؤيد النبي صلى الله عليه وسلم وصدقه ، مثل انشقاق القمر ، أعرضوا عن الإيمان ، وأحجموا عن الدخول في الإسلام ، وقالوا : هذا سحر متتابع ، أو مُسْتَمِرٌّ ، بمعنى : باطل مضمحل زائل ، لا دوام له ، أو مُسْتَمِرٌّ . بمعنى : مرير على ألسنتنا لا تطيقه لهواتنا ، أو مُسْتَمِرٌّ . بمعنى : محكم قوي ، من المِرَّة بمعنى القوة .
فشاهدوا أمرا ما رأوا مثله ، بل ولم يسمعوا أنه جرى لأحد من المرسلين قبله نظيره ، فانبهروا لذلك ، ولم يدخل الإيمان في قلوبهم ، ولم يرد الله بهم خيرا ، ففزعوا إلى بهتهم وطغيانهم ، وقالوا : سحرنا محمد ، ولكن علامة ذلك أنكم تسألون من قدم{[922]} إليكم من السفر ، فإنه وإن قدر على سحركم ، لا{[923]} يقدر أن يسحر من ليس مشاهدا مثلكم ، فسألوا كل من قدم ، فأخبرهم بوقوع ذلك ، فقالوا : { سِحْرٌ مُسْتَمِرٌّ } سحرنا محمد وسحر غيرنا .