وأما قوله : { والنجم والشجر يسجدان } ففيه أيضا مباحث :
الأول : ما الحكمة في ذكر الجمل السابقة من غير واو عاطفة ، ومن هنا ذكرها بالواو العاطفة ؟ نقول ليتنوع الكلام نوعين ، وذلك لأن من بعد النعم على غيره تارة يذكر نسقا من غير حرف ، فيقول : فلان أنعم عليك كثيرا ، أغناك بعد فقر ، أعزك بعد ذل ، قواك بعد ضعف ، وأخرى يذكرها بحرف عاطف وذلك العاطف قد يكون واوا وقد يكون فاء وقد يكون ثم ، فيقول : فلان أكرمك وأنعم عليك وأحسن إليك ، ويقول : رباك فعلمك فأغناك ، ويقول : أعطاك ثم أغناك ثم أحوج الناس إليك ، فكذلك هنا ذكر التعديد بالنوعين جميعا ، فإن قيل : زده بيانا وبين الفرق بين النوعين في المعنى ، قلنا : الذي يقول بغير حرف كأنه يقصد به بيان النعم الكثيرة فيترك الحرف ليستوعب الكل من غير تطويل كلام ، ولهذا يكون ذلك النوع في أغلب الأمر عند مجاوزة النعم ثلاثا أو عندما تكون أكثر من نعمتين فإن ذكر ذلك عند نعمتين فيقول : فلان أعطاك المال وزوجك البنت ، فيكون في كلامه إشارة إلى نعم كثيرة وإنما اقتصر على النعمتين للأنموذج ، والذي يقول بحرف فكأنه يريد التنبيه على استقلال كل نعمة بنفسها ، وإذهاب توهم البدل والتفسير ، فإن قول القائل : أنعم عليك أعطاك المال هو تفسير للأول فليس في كلامه ذكر نعمتين معا بخلاف ما إذا ذكر بحرف ، فإن قيل : إن كان الأمر على ما ذكرت فلو ذكر النعم الأول بالواو ثم عند تطويل الكلام في الآخر سردها سردا ، هل كان أقرب إلى البلاغة ؟ وورود كلامه تعالى عليه كفاه دليلا على أن ما ذكره الله تعالى أبلغ ، وله دليل تفصيلي ظاهر يبين ببحث وهو أن الكلام قد يشرع فيه المتكلم أولا على قصد الاختصار فيقتضي الحال التطويل ، إما لسائل يكثر السؤال ، وإما لطالب يطلب الزيادة للطف كلام المتكلم ، وإما لغيرهما من الأسباب وقد يشرع على قصد الإطناب والتفصيل ، فيعرض ما يقتضي الاقتصار على المقصود من شغل السامع أو المتكلم وغير ذلك مما جاء في كلام الآدميين ، نقول : كلام الله تعالى فوائده لعباده لا له ففي هذه السورة ابتدأ الأمر بالإشارة إلى بيان أتم النعم إذ هو المقصود ، فأتى بما يختص بالكثرة ، ثم إن الإنسان ليس بكامل العلم يعلم مراد المتكلم إذا كان الكلام من أبناء جنسه ، فكيف إذا كان الكلام كلام الله تعالى ، فبدأ الله به على الفائدة الأخرى وإذهاب توهم البدل والتفسير والنعي على أن كل واحد منها نعمة كاملة ، فإن قيل : إذا كان كذلك فما الحكمة في تخصيص العطف بهذا الكلام والابتداء به لا بما قبله ولا بما بعده ؟ قلنا : ليكون النوعان على السواء فذكر الثمانية من النعم كتعليم القرآن وخلق الإنسان وغير ذلك أربعا منها بغير واو وأربعا بواو ، وأما قوله تعالى : { فيها فاكهة والنخل } وقوله : { والحب ذو العصف } فلبيان نعمة الأرض على التفصيل ثم في اختيار الثمانية لطيفة ، وهي أن السبعة عدد كامل والثمانية هي السبعة مع الزيادة فيكون فيه إشارة إلى أن نعم الله خارجة عن حد التعديد لما أن الزائد على الكمال لا يكون معينا مبينا ، فذكر الثمانية منها إشارة إلى بيان الزيادة على حد العدد لا لبيان الانحصار فيه .
المسألة الثانية : النجم ماذا ؟ نقول : فيه وجهان : ( أحدهما ) النبات الذي لا ساق له والثاني نجم السماء والأول أظهر لأنه ذكره مع الشجر في مقابلة الشمس والقمر ذكر أرضين في مقابلة سماوين ، ولأن قوله : { يسجدان } يدل على أن المراد ليس نجم السماء لأن من فسر به قال : يسجد بالغروب ، وعلى هذا فالشمس والقمر أيضا كذلك يغربان ، فلا يبقى للاختصاص فائدة ، وأما إذا قلنا : هما أرضان فنقول : { يسجدان } بمعنى ظلالهما تسجد فيختص السجود بهما دون الشمس والقمر ، وفي سجودهما وجوه : ( أحدها ) ما ذكرنا من سجود الظلال ( ثانيها ) خضوعهما لله تعالى وخروجهما من الأرض ودوامهما وثباتهما عليها بإذن الله تعالى ، فسخر الشمس والقمر بحركة مستديرة والنجم بحركة مستقيمة إلى فوق ، فشبه النبات في مكانها بالسجود لأن الساجد يثبت . ( ثالثها ) حقيقة السجود توجد منهما وإن لم تكن مرئية كما يسمح كل منهما وإن لم يفقه كما قال تعالى : { ولكن لا تفقهون تسبيحهم } ، ( رابعها ) السجود وضع الجبهة أو مقاديم الرأس على الأرض والنجم والشجر في الحقيقة رؤوسهما على الأرض وأرجلهما في الهواء ، لأن الرأس من الحيوان ما به شربه واغذاؤه ، وللنجم والشجر اغتذاؤهما وشربهما بأجذالهما ولأن الرأس لا تبقى بدونه الحياة والشجر والنجم لا يبقى شيء منهما ثابتا غضا عند وقوع الخلل في أصولهما ، ويبقى عند قطع فروعهما وأعاليهما ، وإنما يقال : للفروع رؤوس الأشجار ، لأن الرأس في الإنسان هو ما يلي جهة فوق فقيل لأعالي الشجر رؤوس ، إذا علمت هذا فالنجم والشجر رؤوسهما على الأرض دائما ، فهو سجودهما بالشبه لا بطريق الحقيقة .
المسألة الثالثة : في تقديم النجم على الشجر موازنة لفظية للشمس والقمر وأمر معنوي ، وهو أن النجم في معنى السجود أدخل لما أنه ينبسط على الأرض كالساجد حقيقة ، كما أن الشمس في الحسبان أدخل ، لأن حساب سيرها أيسر عند المقومين من حساب سير القمر ، إذ ليس عند المقومين أصعب من تقويم القمر في حساب الزيج .
وقد كانت الإشارة السابقة إلى الحساب والتقدير في بناء الكون الكبير . فأما هذه فهي إشارة إلى اتجاه هذا الكون وارتباطه . وهي إشارة موحية إلى حقيقة هادية .
إن هذا الوجود مرتبط ارتباط العبودية والعبادة بمصدره الأول ، وخالقه المبدع . والنجم والشجر نموذجان منه ، يدلان على اتجاهه كله . وقد فسر بعضهم النجم بأنه النجم الذي في السماء . كما فسره بعضهم بأنه النبات الذي لا يستوي على سوقه كالشجر . وسواء كان هذا أم كان ذاك فإن مدى الإشارة في النص واحد . ينتهي إلى حقيقة اتجاه هذا الكون وارتباطه .
والكون خليقة حية ذات روح . روح يختلف مظهرها وشكلها ودرجتها من كائن إلى كائن . ولكنها في حقيقتها واحدة .
ولقد أدرك القلب البشري منذ عهود بعيدة حقيقة هذه الحياة السارية في الكون كله . وحقيقة اتجاه روحه إلى خالقه . أدركها بالإلهام اللدني فيه . ولكنها كانت تغيم عليه ، وتتوارى عنه كلما حاول اقتناصها بعقله المقيد بتجارب الحواس !
ولقد استطاع أخيرا أن يصل إلى أطراف قريبة من حقيقة الوحدة في بناء الكون . ولكنه لا يزال بعيدا عن الوصول إلى حقيقة روحه الحية عن هذا الطريق !
والعلم يميل اليوم إلى افتراض أن الذرة هي وحدة بناء الكون ؛ وأنها في حقيقتها مجرد إشعاع . وأن الحركة هي قاعدة الكون ، والخاصية المشتركة بين جميع أفراده .
فإلى أين يتجه الكون بحركته التي هي قاعدته وخاصيته ?
القرآن يقول : إنه يتجه إلى مبدعه بحركة روحه - وهي الحركة الأصلية فحركة ظاهره لا تكون إلا تعبيرا عن حركة روحه - وهي الحركة التي تمثلها في القرآن آيات كثيرة منها هذه : ( والنجم والشجر يسجدان ) . . ومنها ( تسبح له السماوات السبع والأرض ومن فيهن وإن من شيء إلا يسبح بحمده ، ولكن لا تفقهون تسبيحهم ) . . ومنها : ( ألم تر أن الله يسبح له من في السماوات والأرض والطير صافات . كل قد علم صلاته وتسبيحه ) . .
وتأمل هذه الحقيقة ، ومتابعة الكون في عبادته وتسبيحه ، مما يمنح القلب البشري متاعا عجيبا ، وهو يشعر بكل ما حوله حيا يعاطفه ويتجه معه إلى خالقه وهو في وقفته بين أرواح الأشياء كلها ، وهي تدب فيها جميعا ، وتحيلها إخوانا له ورفقاء !
يسجدان : يخضعان لتدبيره تعالى .
2- { وَالنَّجْمُ وَالشَّجَرُ يَسْجُدَانِ } .
النجم المرتفع في السماء يدور في مداره ، ويخضع لنظام القدرة الإلهية التي تمسك بزمام السماء ، والشجر خاضع لقدرة الله الذي يسَّر للشجر الماء والهواء والفضاء ، والشمس والقمر ، والليل والنهار ، أي أن السماء العالية ونجومها الزاهرة ، والأرض المنبسطة وأشجارها الخضراء ، يسجدان لله خاضعين لقدرته .
قال تعالى : { أَلَمْ تَرَ أَنَّ اللَّهَ يَسْجُدُ لَهُ مَنْ فِي السَّمَاوَاتِ وَمَنْ فِي الْأَرْضِ وَالشَّمْسُ وَالْقَمَرُ وَالنُّجُومُ وَالْجِبَالُ وَالشَّجَرُ وَالدَّوَابُّ وَكَثِيرٌ مِنَ النَّاسِ وَكَثِيرٌ حَقَّ عَلَيْهِ الْعَذَابُ . . . }( الحج : 18 ) .
وقيل : المراد بالنجم : النبات الذي لا ساق له والشجر : الذي له ساق ، ينقادان لقدرة الله تعالى ، فإنَّ ظهورهما بشكل معين ولأجل معين ، وجعلهما غذاء للإنسان ، ومتعة له شكلا ولونا ، ومقدارا وطعما ورائحة ، انقياد لقدرة الله تعالى .