التحرير والتنوير لابن عاشور - ابن عاشور  
{وَٱلنَّجۡمُ وَٱلشَّجَرُ يَسۡجُدَانِ} (6)

عطف على جملة { الشمس والقمر بحسبان } [ الرحمن : 5 ] عطف الخبر على الخبر للوجه الذي تقدم لأن سجود الشمس والقَمر لله تعالى وهو انتقال من الامتنان بما في السماء من المنافع إلى الامتنان بما في الأرض ، وجعل لفظ { النجم } واسطة الانتقال لصلاحيته لأنه يراد منه نجوم السماء وما يسمى نجماً من نبات الأرض كما يأتي .

وعطفت جملة { والنجم والشجر يسجدان } ولم تفصل فخرجت من أسلوب تعداد الأخبار إلى أسلوب عطف بعض الأخبار على بعض لأن الأخبار الواردة بعد حروف العطف لم يقصد بها التعداد إذ ليس فيها تعريض بتوبيخ المشركين ، فالإِخبار بسجود النجم والشجر أريد به الإِيقاظ إلى ما في هذا من الدلالة على عظيم القدرة دلالة رمزية ، ولأنه لما اقتضى المقام جمع النظائر من المزاوجات بَعد ذكر الشمس والقمر ، كان ذلك مقتضياً سلوك طريقة الوصل بالعطف بجامع التضاد .

وجُعلت الجملة مفتَتَحة بالمسند إليه لتكون على صورة فاتحة الجملة التي عطفت هي عليها . وأتي بالمسند فعلاً مضارعاً للدلالة على تجدد هذا السجود وتكرره على معنى قوله تعالى : { ولله يسجد من في السموات والأرض طوعاً وكرهاً وظلالهم بالغدوّ والآصال } [ الرعد : 15 ] .

و { النجم } يطلق : اسمَ جمع على نجوم السماء قال تعالى : { والنجم إذا هوى } [ النجم : 1 ] ، ويطلق مفرداً فيُجمع على نجوم ، قال تعالى : { وإدبار النجوم } [ الطور : 49 ] . وعن مجاهد تفسيره هنا بنجوم السماء .

ويطلق النجم على النبات والحشيش الذي لا سُوق له فهو متصل بالتراب . وعن ابن عباس تفسير النجم في هذه الآية بالنبات الذي لا ساق له . والشجر : النبات الذي له ساق وارتفاعٌ عن وجه الأرض . وهذان ينتفع بهما الإِنسان والحيوان .

فحصل من قوله : { والنجم والشجر يسجدان } بعد قوله : { الشمس والقمر بحسبان } [ الرحمن : 5 ] قرينتان متوازيتان في الحركة والسكون وهذا من المحسنات البديعية الكاملة .

والسجود : يطلق على وضع الوجه على الأرض بقصد التعظيم ، ويطلق على الوقوع على الأرض مجازاً مرسلاً بعلاقة الإِطلاق ، أو استعارة ومنه قولهم : « نخلة ساجدة » إذا أمالها حِمْلُها ، فسجود نجوم السماء نزولها إلى جهات غروبها ، وسجود نجم الأرض التصاقه بالتراب كالساجد ، وسجود الشجر تطأطؤه بهبوب الرياح ودنوّ أغصانه للجانين لثماره والخابطين لورقه ، ففعل { يسجدان } مستعمل في معنيين مجازيين وهما الدنو للمتناول والدلالة على عظمة الله تعالى بأن شبه ارتسام ظِلالهما على الأرض بالسجود كما قال تعالى : { ولله يسجد من في السماوات والأرض طَوعاً وكرهاً وظِلالهم بالغدوّ والآصال } في سورة الرعد ( 15 ) ، وكما قال امرؤ القيس :

يَكُبُّ على الأذ *** قان وْحَ الكَنَهْبَلِ

فقال : على الأذقان ، ليكون الانكباب مشبهاً بسقوط الإنسان على الأرض بوجهه ففيه استعارة مكنية ، وذكر الأذقان تخييل ، وعليه يكون فعل { يسجدان } هنا مستعملاً في مجازه ، وذلك يفيد أن الله خلق في الموجودات دلالات عِدَّةً على أن الله مُوجدها ومُسخرها ، ففي جميعها دلالات عقلية ، وفي بعضها أو معظمها دلالات أخرى رمزية وخيالية لتفيد منها العقول المتفاوتة في الاستدلال .