مفاتيح الغيب للرازي - الفخر الرازي  
{وَٱتَّبَعۡتُ مِلَّةَ ءَابَآءِيٓ إِبۡرَٰهِيمَ وَإِسۡحَٰقَ وَيَعۡقُوبَۚ مَا كَانَ لَنَآ أَن نُّشۡرِكَ بِٱللَّهِ مِن شَيۡءٖۚ ذَٰلِكَ مِن فَضۡلِ ٱللَّهِ عَلَيۡنَا وَعَلَى ٱلنَّاسِ وَلَٰكِنَّ أَكۡثَرَ ٱلنَّاسِ لَا يَشۡكُرُونَ} (38)

ثم قال تعالى : { واتبعت ملة آبائي إبراهيم وإسحاق ويعقوب } وفيه سؤالات :

السؤال الأول : ما الفائدة في ذكر هذا الكلام .

الجواب : أنه عليه السلام لما ادعى النبوة وتحدى بالمعجزة وهو علم الغيب قرن به كونه من أهل بيت النبوة ، وأن أباه وجده وجد أبيه كانوا أنبياء الله ورسله ، فإن الإنسان متى ادعى حرفة أبيه وجده لم يستبعد ذلك منه ، وأيضا فكما أن درجة إبراهيم عليه السلام وإسحاق ويعقوب كان أمرا مشهورا في الدنيا ، فإذا ظهر أنه ولدهم عظموه ونظروا إليه بعين الإجلال ، فكان انقيادهم له أتم وأثر قلوبهم بكلامه أكمل .

السؤال الثاني : لما كان نبيا فكيف قال : إني اتبعت ملة آبائي ، والنبي لا بد وأن يكون مختصا بشريعة نفسه .

قلنا : لعل مراده التوحيد الذي لم يتغير ، وأيضا لعله كان رسولا من عند الله ، إلا أنه كان على شريعة إبراهيم عليه السلام .

السؤال الثالث : لم قال : { ما كان لنا أن نشرك بالله من شيء } وحال كل المكلفين كذلك ؟

والجواب : ليس المراد بقوله : { ما كان لنا } أنه حرم ذلك عليهم ، بل المراد أنه تعالى ظهر آباءه عن الكفر ، ونظيره قوله : { ما كان لله أن يتخذ من ولد } .

السؤال الرابع : ما الفائدة في قوله : { من شيء } .

الجواب : أن أصناف الشرك كثيرة ، فمنهم من يعبد الأصنام ، ومنهم من يعبد النار ، ومنهم من يعبد الكواكب ، ومنهم من يعبد العقل والنفس والطبيعة ، فقوله : { ما كان لنا أن نشرك بالله من شيء } رد على كل هؤلاء الطوائف والفرق ، وإرشاد إلى الدين الحق ، وهو أنه لا موجد إلا الله ولا خالق إلا الله ولا رازق إلا الله .

ثم قال : { ذلك من فضل الله علينا وعلى الناس } وفيه مسألة . وهي أنه قال : { ما كان لنا أن نشرك بالله من شيء } .

ثم قال : { ذلك من فضل الله } فقوله : { ذلك } إشارة إلى ما تقدم من عدم الإشراك ، فهذا يدل على أن عدم الإشراك وحصول الإيمان من الله . ثم بين أن الأمر كذلك في حقه بعينه ، وفي حق الناس . ثم بين أن أكثر الناس لا يشكرون ، ويجب أن يكون المراد أنهم لا يشكرون الله على نعمة الإيمان ، حكي أن واحدا من أهل السنة دخل على بشر بن المعتمر ، وقال : هل تشكر الله على الإيمان أم لا . فإن قلت : لا ، فقد خالفت الإجماع ، وإن شكرته فكيف تشكره على ما ليس فعلا له ، فقال له بشر إنا نشكره على أنه تعالى أعطانا القدرة والعقل والآلة ، فيجب علينا أن نشكره على إعطاء القدرة والآلة ، فأما أن نشكره على الإيمان مع أن الإيمان ليس فعلا له ، فذلك باطل ، وصعب الكلام على بشر ، فدخل عليهم ثمامة بن الأشرس وقال : إنا لا نشكر الله على الإيمان ، بل الله يشكرنا عليه كما قال : { أولئك كان سعيهم مشكورا } فقال بشر : لما صعب الكلام سهل .

واعلم أن الذين ألزمه ثمامة باطل بنص هذه الآية ، وذلك لأنه تعالى بين أن عدم الإشراك من فضل الله ، ثم بين أن أكثر الناس لا يشكرون هذه النعمة ، وإنما ذكره على سبيل الذم فدل هذا على أنه يجب على كل مؤمن أن يشكر الله تعالى على نعمة الإيمان وحينئذ تقوى الحجة وتكمل الدلالة . قال القاضي قوله : { ذلك } إن جعلناه إشارة إلى التمسك بالتوحيد فهو من فضل الله تعالى لأنه إنما حصل بألطافه وتسهيله ، ويحتمل أن يكون إشارة إلى النبوة .

والجواب : أن ذلك إشارة إلى المذكور السابق ، وذاك هو ترك الإشراك فوجب أن يكون ترك الإشراك من فضل الله تعالى ، والقاضي يصرفه إلى الألطاف والتسهيل ، فكان هذا تركا للظاهر وأما صرفه إلى النبوة فبعيد ، لأن اللفظ الدال على الإشارة يجب صرفه إلى أقرب المذكورات وهو ههنا عدم الإشراك .