اللباب في علوم الكتاب لابن عادل - ابن عادل  
{وَٱتَّبَعۡتُ مِلَّةَ ءَابَآءِيٓ إِبۡرَٰهِيمَ وَإِسۡحَٰقَ وَيَعۡقُوبَۚ مَا كَانَ لَنَآ أَن نُّشۡرِكَ بِٱللَّهِ مِن شَيۡءٖۚ ذَٰلِكَ مِن فَضۡلِ ٱللَّهِ عَلَيۡنَا وَعَلَى ٱلنَّاسِ وَلَٰكِنَّ أَكۡثَرَ ٱلنَّاسِ لَا يَشۡكُرُونَ} (38)

قوله { واتبعت مِلَّةَ آبآئي إِبْرَاهِيمَ وَإِسْحَاقَ وَيَعْقُوبَ } ، لمَّا أدَّعى النبوة ، وتحدَّى بالمعجزة وهوعلمُ التَّعبير قرَّر كونه من أهل النبوة ، وأنَّ أباه وأجداه كانوا أنبياء عليهم الصلاة والسلام فإنَّ الإنسان متى ادَّعى حرفة أبيه وجده ، لم يستبعد ذلك منه ، وأيضاً : فكما أنَّ درجة إبراهيم عليه الصلاة والسلام وإسحاق ، ويعقوب ، كان أمْراً مشهوراً في الدنيا ، فإذا ظهر أنَّه ولدهم ، عظَّموه ، ونظروا إليه بعينِ الإجلالِ ؛ فكان انقيادهم له أتمَّ وتتأثر قلوبهم بكلامه .

فإن قيل : إنَّه كان نبيَّا ، فكيف قال : { واتبعت مِلَّةَ آبآئي } ، والنبيُّ لا بدَّ وأن يكون مختصاً بتشريعة نفسه ؟ .

فالجواب : لعلَّ مراده أنَّ التوحيد كلا يتغيَّر ، ولعله كان رسُولاً من عند الله ؛ إلاَّ أنه كان على شريعةِ إبراهيم صلوات الله وسلام عليه وعلى الأنبياء المرسلين .

قوله : { مَا كَانَ لَنَآ أَن نُّشْرِكَ بالله مِن شَيْءٍ } فيه سؤال :

وهو أنَّ حال كُلِّ من المكلفين كذلك ؟ .

والجواب : ليس المراد بقوله : " مَاكَانَ لنَا " أنَّهُ حرَّم ذلك عليهم ، بل المرادُ أنه تبارك وتعالى طهَّره ، وطهر آباءه عن الكفر ؛ كقوله { مَا كَانَ لِلَّهِ أَن يَتَّخِذَ مِن وَلَدٍ } [ مريم : 35 ] .

قوله : " مِنْ شيءٍ " يحوز أن يكون مصدراً ، أي : شيئاً من الإشراك ، ويجوزُ أن يكون واقعاً على الشِّرك ، أي : ما كان لنا أن نُشرِكَ شيئاً غيره من ملكِ ، أو إنسٍ ، أو جنٍّ ، فكيم بصنَم ؟ .

و " مِنْ " [ مزيدة ] على التَّقديرين ؛ لوجود الشرطين .

ثم قال : " ذلِكَ " أي : التَّوحيد والعلمُ { مِن فَضْلِ الله عَلَيْنَا وَعَلَى الناس } ، بِمَا بيَّن لهم من الهدى ؛ { ولكن أَكْثَرَ الناس لاَ يَشْكُرُونَ } نعم الله على الإيمان .

حُكِيَ أنَّ واحداً من أهْلِ السُّنَّةِ دخل على بشرِ بن المعتمر ، وقال له : يا هذا : هل تشكرُ الله على الإيمان أم لا ؟ فإنْ قلت لا ، فقد خالفت الإجماع ، وإن شكرته ، فكيف تشكرُ على ما ليس فعلاً له ؟ .

فقال له بشرٌ : إنَّا نشكرُ الله على أنه تعالى أعطانا : القدرة ، و العقل ، والآلة ، فيجبُ علينا أن نشكره على إعطاءِ القدرةِ والآلةِ ، فأمَّا أن نشكرهُ على الإيمان ، مع أنَّ الإيمان ليس فعلاً ، فذلك باطلٌ ، فدخل عليهم ثمامةُ بن الأشرسِ ، وقال : إنَّا لا نشكرُ الله على الإيمان ، بل اللهُ يشكرنا عليه ؛ كما قال تعالى : { فَأُولَئِكَ كَانَ سَعْيُهُم مَّشْكُورًا } [ الإسراء : 19 ] فقال بشرٌ : " لمَّا صعب الكلامُ ، سهُلَ " .

قال ابن الخطيب : " واعلم أنَّ الذي اقترحه ثمامة باطلٌ ؛ بنص هذه الآية ؛ لأنَّه تعالى بين أن عدم الإشراك من فضل الله ، ثم بيَّن أنَّ أكثر الناس لا يشكُرون هذه النعمةَ ، وإنما ذكره على سبيل الذَّمِّ ، فدل هذا على أنه يجبُ على كل مؤمن أن يشكُر الله على نعمةِ الإيمانِ ، وحينئذٍ تقوى الحجَّةُ ، وتكمُل الدلالة " .

قال القاضي : قوله : ذلِكَ " إن جعلناه إشارة إلى التمسك بالتوحيدِ ، فهو من فضل الله تعالى لأنه إنما حصل بإلطافه ، وتسهيله ، ويحتملُ أن يكون إشارة إلى النبوة .

والجواب : أنَّ " ذَلِكَ إشارة إلى المذكورِ السابقِ ، وذلك هو تركُ الإشراكِ فوجب أن يكون ترك الإشراك من فضل الله تعالى والقاضي يصرفه إلى الإلطاف والتسهيل ؛ فكان هذا تركاً للظاهر ، وأمَّا صرفه إلى النبوة ، فبعيدٌ ؛ لأن اللفظ الدالَّ على الإشارة يجبُ صرفه إلى أقرب المذكورات ، وهو هنا عدمُ الإشراك .