مفاتيح الغيب للرازي - الفخر الرازي  
{قَالَ لَهُۥ مُوسَىٰ هَلۡ أَتَّبِعُكَ عَلَىٰٓ أَن تُعَلِّمَنِ مِمَّا عُلِّمۡتَ رُشۡدٗا} (66)

ثم قال تعالى : { قال له موسى هل أتبعك على أن تعلمن مما علمت رشدا } وفيه مسألتان :

المسألة الأولى : قرأ أبو عمرو ويعقوب { رشدا } بفتح الراء والشين وعن ابن عباس رضي الله عنهما بضم الراء والشين والباقون بضم الراء وتسكين الشين قال القفال وهي لغات في معنى واحد يقال رشد ورشد مثل نكر ونكر كما يقال سقم وسقم وشغل وشغل وبخل وبخل وعدم وعدم وقوله { رشدا } أي علما ذا رشد قال القفال قوله : { رشدا } يحتمل وجهين : أحدهما : أن يكون الرشد راجعا إلى الخضر أي مما علمك الله وأرشدك به . والثاني : أن يرجع ذلك إلى موسى ويكون المعنى على أن تعلمني وترشدني مما علمت .

المسألة الثانية : اعلم أن هذه الآيات تدل على أن موسى عليه السلام راعى أنواعا كثيرة من الأدب واللطف عندما أراد أن يتعلم من الخضر . فأحدها : أنه جعل نفسه تبعا له لأنه قال : { هل أتبعك } . وثانيها : أن استأذن في إثبات هذا التبعية فإنه قال هل تأذن لي أن أجعل نفسي تبعا لك وهذا مبالغة عظيمة في التواضع . وثالثها : أنه قال على أن : { تعلمني } وهذا إقرار له على نفسه بالجهل وعلى أستاذه بالعلم . ورابعها : أنه قال : { مما علمت } وصيغة من للتبعيض فطلب منه تعليم بعض ما علمه الله ، وهذا أيضا مشعر بالتواضع كأنه يقول له لا أطلب منك أن تجعلني مساويا في العلم لك ، بل أطلب منك أن تعطيني جزأ من أجزاء علمك ، كما يطلب الفقير من الغني أن يدفع إليه جزأ من أجزاء ماله . وخامسها : أن قوله : { مما علمت } اعتراف بأن الله علمه ذلك العلم . وسادسها : أن قوله : { رشدا } طلب منه للإرشاد والهداية والإرشاد هو الأمر الذي لو لم يحصل لحصلت الغواية والضلال . وسابعها : أن قوله : { تعلمن مما علمت } معناه أنه طلب منه أن يعامله بمثل ما عامله الله به وفيه إشعار بأنه يكون إنعامك علي عند هذا التعليم شبيها بإنعام الله تعالى عليك في هذا التعليم ولهذا المعنى قيل أنا عبد من تعلمت منه حرفا . وثامنها : أن المتابعة عبارة عن الإتيان بمثل فعل الغير لأجل كونه فعلا لذلك الغير ، فإنا إذا قلنا : لا إله إلا الله فاليهود الذين كانوا قبلنا كانوا يذكرون هذه الكلمة فلا يجب كوننا متبعين لهم في ذكر هذه الكلمة ، لأنا لا نقول هذه الكلمة لأجل أنهم قالوها بل إنما نقولها لقيام الدليل على أنه يجب ذكرها ، أما إذا أتينا بهذه الصلوات الخمس على موافقة فعل رسول الله صلى الله عليه وسلم فإنما أتينا بها لأجل أنه عليه السلام أتى بها لا جرم كنا متابعين في فعل هذه الصلوات لرسول الله صلى الله عليه وسلم ، إذا ثبت هذا فنقول قوله : { هل أتبعك } يدل على أنه يأتي بمثل أفعال ذلك الأستاذ لمجرد كون ذلك الأستاذ آتيا بها . وهذا يدل على أن المتعلم يجب عليه في أول الأمر التسليم وترك المنازعة والاعتراض . وتاسعها : أن قوله : { اتبعك } يدل على طلب متابعته مطلقا في جميع الأمور غير مقيد بشيء دون شيء . وعاشرها : أنه ثبت بالإخبار أن الخضر عرف أولا أنه نبي بني إسرائيل وأنه هو موسى صاحب التوراة وهو الرجل الذي كلمه الله عز وجل من غير واسطة وخصه بالمعجزات القاهرة الباهرة ، ثم إنه عليه السلام مع هذه المناصب الرفيعة والدرجات العالية الشريفة أتى بهذه الأنواع الكثيرة من التواضع وذلك يدل على كونه عليه السلام آتيا في طلب العلم بأعظم أنواع المبالغة وهذا هو اللائق به لأن كل من كانت إحاطته بالعلوم أكثر كان علمه بما فيها من البهجة والسعادة أكثر فكان طلبه لها أشد وكان تعظيمه لأرباب العلم أكمل وأشد . والحادي عشر : أنه قال : { هل أتبعك على أن تعلمن } فأثبت كونه تبعا له أولا ثم طلب ثانيا أن يعلمه وهذا منه ابتداء بالخدمة ثم في المرتبة الثانية طلب منه التعليم . والثاني عشر : أنه قال : { هل أتبعك على أن تعلمن } فلم يطلب على تلك المتابعة على التعليم شيئا كان قال لا أطلب منك على هذه المتابعة المال والجاه ولا غرض لي إلا طلب العلم