اللباب في علوم الكتاب لابن عادل - ابن عادل  
{قَالَ لَهُۥ مُوسَىٰ هَلۡ أَتَّبِعُكَ عَلَىٰٓ أَن تُعَلِّمَنِ مِمَّا عُلِّمۡتَ رُشۡدٗا} (66)

قوله : ( على أن تعلمني ) : في موضع الحال من الكاف في " أتَّبِعُكَ " أي : أتَّبِعك [ باذلاً لي علمكَ " .

قوله : " رُشْداً " مفعول ثان ل " تُعلِّمَنِي " لا لقوله : " ممَّا عُلِّمتَ " قال أبو البقاء{[9]} : " لأنَّه لا عائد إذن على الذي " يعني أنه إذا تعدَّى لمفعول ثان غير ضمير الموصول ، لم يجز أن يتعدَّى لضمير الموصول ؛ لئلا يتعدَّى إلى ثلاثة ، ولكن لابدَّ من عائدٍ على الموصول .

وقد تقدَّم خلاف القراء في " رُشداً " في سورة الأعراف [ الآية : 146 ] ، وهل هما بمعنى واحد أم لا ؟ .

وقوله : رشداً " أي : علماً ذا رشدٍ .

قال القفَّال{[10]} : قوله " رُشْداً " يحتمل وجهين :

أحدهما : أن يكون " الرُّشْدُ " راجعاً إلى الخضرِ ، أي : ممَّا علمك الله ، وأرشدك به .

والثاني : أن يرجع إلى موسى ، أي : على أن تعلِّمني ، وتُرشِدني ممَّا علِّمت .

فصل في أدب موسى - عليه السلام - في تعلُّمه من الخضرِ

دلَّت هذه الآية على أنَّ موسى - عليه السلام - راعى أنواعاً كثيرة من الأدب واللطف عندما أراد أن يتعلَّم من الخضر .

منها : أنه جعل لنفسه تبعاً له في قوله : " هَلْ أتَّبعكَ " .

ومنها : أنَّه استأذن في إثباتِ هذه التبعيَّة ؛ كأنَّه قال : تأذنُ لي على أن أجعل نفسي تبعاً لك ، وهذه مبالغةٌ عظيمةٌ في التواضعِ .

ومنها : قوله " على أن تعلمني " وهذا إقرارٌ منه على نفسه بالجهل ، وعلى أستاذه بالعلم .

ومنها : قوله : " ممَّا علِّمتَ " وصيغة " مِنْ " للتبعيض ، فطلب منه تعليم بعض ما علِّم ، وهذا أيضاً إقرارٌ بالتواضع ، كأنه يقول : لا أطلب منك أن تجعلني مساوياً لك في العلم ، بل أطلب منك أن تعطيني جزءاً من الجزء ، ممَّا علِّمت .

ومنها : أن قوله : " مِمَّا علِّمتَ " اعترافٌ بأنَّ الله تعالى علَّمهُ ذلك العلم .

ومنها : قوله " رُشْداً " طلب منه الإرشاد والهداية .

ومنها أنَّ قوله : { تُعَلِّمَنِ مِمَّا عُلِّمْتَ } طلب منه أن يعامله بمثل ما عامله الله به ، أي : يكون إنعامك عليَّ عند تعليمك إيَّاي شبيهاً بإنعام الله عليك في هذا التعليم .

ومنها : قوله : { هَلْ أَتَّبِعُكَ } يدل على طلب متابعته مطلقاً في جميع الأمور غير مقيَّد بشيءٍ دون شيءٍ .

ومنها : أنه ثبت [ في الأخبار ]{[11]} أنَّ الخضر عرف أولاً أنَّه موسى صاحب التَّوراةِ ، وهو الرجل الذي كلَّمه الله من غير واسطة ، وخصَّه بالمعجزات القاهرة الباهرة ، ثم إنَّه - عليه السلام - مع هذه المناصب الرفيعة والدَّرجاتِ العالية الشَّريفة أتى بهذه الأنواع الكثيرة من التواضع ؛ وذلك يدلُّ على كونه - عليه السلام - آتياً في طلب العلم أعظم أبواب المبالغةِ في التواضع ، وهذا هو اللائقُ به ؛ لأنَّ كلَّ من كانت إحاطتهُ بالعلوم التي علم ما فيها من البهجة والسعادة أكثر ، كان طلبه له أشدَّ ، وكان تعظيمه لأربابِ العلم أكمل وأشدَّ .

ومنها : قوله : { هَلْ أَتَّبِعُكَ على أَن تُعَلِّمَنِ } فأثبت أوَّلاً كونه تبعاً ، ثم طلب منه ثانياً أن يعلِّمه ، وهذا منه ابتداءٌ بالخدمة ، ثم في المرتبة الثانية ، طلب منه التَّعليم .

ومنها : قوله : { هَلْ أتَّبِعُكَ } لم يطلب على المتابعة إلاَّ التعليم ، كأنه قال : لا أطلب منك على هذه المتابعة المال والجاه ، ولا عوض لي إلاَّ طلب العلم .

فصل

روي أنه لمَّا قال موسى{[12]} : { هَلْ أَتَّبِعُكَ على أَن تُعَلِّمَنِ } ، قال له الخضرُ : كفى بالتَّوراة علماً ، وببني إسرائيل شغلاً ، فقال له موسى : إنَّ الله أمرني بهذا ، فحينئذ قال له : { إِنَّكَ لَن تَسْتَطِيعَ مَعِيَ صَبْراً } .


[9]:سقط من: ب.
[10]:الجامع لأحكام القرآن 20/91.
[11]:سقط في ب.
[12]:سقط في ب.